الأخبار

عن مواجهة التعصب والتطرف

 

180

 

 

ظاهرة التطرف والتشدد ظاهرة إنسانية موجودة فى كل المجتمعات، فالتطرف لرأى أو فكر أو معتقد أو عِرق آفة شهدتها مختلف المجتمعات الإنسانية، وأدت فى أحيان كثيرة إلى وقوع الحروب والمواجهات وأعمال القتل الجماعى والإبادة، بل كانت وراء إشعال حروب كونية. وتوجد فى مختلف المجتمعات الإنسانية شرائح أو فئات متشددة أو متطرفة تنطلق من قناعة ذاتية بالسمو والتفوق لعامل متوارث من عوامل اللغة والعرق، الدين والمعتقد، وعادة ما تعمل نظم الحكم وأجهزة الدول على مقاومة هذه الظواهر ومحاصرتها والحد من أنشطتها الهدامة.

وكلما زاد عدد معتنقى الأفكار المتطرفة والعنصرية، ارتفع مؤشر الخطر وارتفعت معدلات جرائم الكراهية والعنصرية، وتزداد الخطورة إذا ما ترافق مع انتشار هذه الأفكار أزمة اقتصادية أو اجتماعية، أو كانت الأزمة مركبة، فى هذه الحالة يجرى البحث عن المختلف والانتقام منه. وعندما تتسع قاعدة التشدد والتطرف والعنصرية، عادة ما تسفر عن نظام حكم يعبر عن هذه الأفكار ويعمل على تعبئتها وتنظيمها، وهو ما فعله هتلر الذى استثمر واقع هزيمة ألمانيا فى الحرب العالمية الأولى والإذلال الذى عانت منه برلين بفعل معاهدة فرساى التى فرضت عليها دفع تعويضات هائلة للدول المنتصرة، وفى مقدمتها فرنسا، فى ظل هذه الحالة والحديث عن الجنس الآرى ونقائه، بدأ هتلر الحرب العالمية الثانية التى أخذت معها حياة نحو خمسين مليون إنسان، وانتهت باحتلال ألمانيا وحالة من الدمار الشديد فى كل أنحاء أوروبا.

وتدريجيا، بدأ العالم يستشعر خطورة العنصرية وما تحمله معها من مشاعر التطرف والتعصب، فأخذ يضع مواثيق حقوق الإنسان، وعمل على تجريم الأفكار العنصرية، وبدأ يعمل على صياغة منظومة قانونية تجرم أعمال القتل الجماعى على خلفية عنصرية أو عقائدية أو غيرها من العوامل. وهنا طرحت بعض الأفكار الخاصة بتقييد سيادة الدولة حتى لا تتخندق نظم حكم وراء هذا المفهوم، وترتكب أعمال قتل وإبادة فى حق جزء من الشعب، ووصل التطور إلى الذروة بإنشاء المحكمة الدائمة لجرائم الحرب فى روما عام 1998، حتى يمكن النظر مباشرة فى جرائم الحرب والجرائم بحق الإنسانية، دون الوقوع فى أسر حسابات القوى الكبرى، لأن تشكيل محكمة للنظر فى هذه الجرائم قبل ذلك كان يقتضى صدور قرار من مجلس الأمن بتشكيل هذه المحكمة، وهو الأمر الذى كانت تجهضه دولة واحدة من الدول الخمس دائمة العضوية فى مجلس الأمن.

للعنصرية ثلاثة مكونات: الأول هو المكون المعرفى: ويتمثل فى المعتقدات والأفكار والتصورات التى توجد لدى أفراد عن أفراد آخرين، أعضاء جماعة معينة، وهو ما يأخذ صورة القوالب النمطية Stereo Types، والتى تعنى تصورات ذهنية تتسم بالتصلب الشديد، والتبسيط المفرط عن جماعة معينة يتم فى ضوئها وصف وتصنيف الأشخاص الذين ينتمون إلى هذه الجماعة، بناء على مجموعة من الخصائص المميزة لها. ويلاحظ أن العرق والدين والقومية تشكل أبرز الفئات التى تتعرض للقولبة النمطية لأنها أكثر الفروق الاجتماعية وضوحا وأكثرها مقاومة للتغيير. الثانى هو المكون الانفعالى: وهو بمثابة البطانة الوجدانية التى تغلف المكون المعرفى، فإذا افتقد الاتجاه مكونه الانفعالى يصعب وصفه بالتعصب. الثالث هو المكون السلوكى: وهو المظهر الخارجى للتعبير عما يحمل الفرد من مشاعر وقوالب نمطية، ويتدرج هذا المكون فى خمس درجات:

أ- الامتناع عن التعبير اللفظى خارج إطار الجماعة على نحو يعكس سلوك كراهية دفينة.

ب- التجنب: أى الانسحاب من التعامل مع المجموعة أو المجموعات الأخرى رفضا لها.

ج- التمييز: يمثل بداية أشكال تطبيق التعصب الفعال، أى السعى إلى منع أعضاء الجماعات الأخرى من الحصول على مزايا أو تسهيلات أو مكاسب سواء على نحو رسمى أو واقعى.

د- الهجوم الجسمانى: أى الاعتداء البدنى على أعضاء الجماعة أو الجماعات الأخرى.

هـ- الإبادة: وتمثل المرحلة النهائية للعداوة والكراهية، وتجسد قمة الفعل العنصرى، وتعبر عن نفسها فى شكل مذابح جماعية بناء على أساس الانقسام أو التمييز.

ووفق هذا التصور، فإن للعنصرية درجات، وللتعبير عنها أشكال مختلفة أيضا، فالعنصرية توجد على المستوى الفكرى فى كل المجتمعات، وإن بدرجات متفاوتة.. ووفق هذه الرؤية أيضا فإن عدم وجود اعتداءات جسمانية أو أعمال قتل لا يعنى خلو المجتمع من العنصرية، بل العنصرية كامنة على مستوى الفكر، وأسيرة الأحاديث الداخلية، تتحين الفرصة للخروج والتعبير عن حامليها بشكل مفتوح قد يصل إلى جرائم الإبادة. وكثيرا ما تتكشف العنصرية الكامنة عند الرد على فعل عنصرى قادم من آخر أو آخرين، لذلك من المهم جدا مواجهة العنصرية على المستوى الفكرى، وهى مهمة شاقة، تتطلب توافر قناعة فكرية بالقيم الإنسانية، وفى مقدمتها المساواة والحرية، وقبول التنوع والاختلاف، وتبدأ المواجهة منذ نعومة الأظفار وعبر أدوات التنشئة التى تتشارك فيها الأسرة والدولة، مواجهة العنصرية على المستوى الفكرى تحول دون دخولها إلى مراحل تالية، ممثلة فى البعدين الانفعالى ثم السلوكى، فالمواجهة على المستوى الفكرى لا تتطلب سوى نشاط فكرى، كما أنه بإمكان الدولة أن تستخدم ما لديها من قدرات من أجل نشر فكر إنسانى عقلانى، فكر يتوافق والمواثيق الأساسية لحقوق الإنسان، فكر يتواءم مع الفطرة السليمة والتوازن النفسى. ترك الأفكار التمييزية والعنصرية تتطور وتدخل مرحلة «الانفعال» يجعل المواجهة عسيرة للغاية، إذ ينقلها إلى مرحلة السجال والمحاججة، فالمطلوب أولا إزالة ما فى العقول من أفكار عنصرية رافضة قيم المواطنة والمساواة قبل تبنى القيم الأخيرة. أما ترك الأمور إلى أن تصل لمرحلة المكون السلوكى (بمراحله الخمس المختلفة التى تتراوح ما بين الامتناع عن التعبير خارج إطار الجماعة والتجنب، وبين ارتكاب المجازر والمذابح)، فيعنى أن الخطر قد تفاقم ويتطلب علاجا مركبا يتضمن شقا أمنيا، وآخر سجاليا وثالثا تنويريا تثقيفيا، عبر زرع قيم المواطنة والمساواة أو كل ما له صلة بالفكر الإنسانى النبيل.

المصرى اليوم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى