الأخبار

«هيكل» يرثو الشهيد «عبد المنعم رياض»

188

 

 

انفجرت قنبلة للعدو على حافة الموقع، وأحدث انفجارها تفريغ هواء مفاجئاً وعنيفاً في الحفرة التي كان فيها عبد المنعم رياض، وكان هو الأقرب إلى البؤرة التي بلغ فيها تفريغ الهواء مداه، وحدث له شبه انفجار في جهاز التنفس، وحين انجلى الدخان والغبار كان عبد المنعم رياض مازال حيث هو، وكما كان، إلا تقلصات ألم صامت شدت تقاطيع وجهه المعبر عن الرجولة، ثم خيط رفيع من الدم ينساب هادئاً من بين شفتيه، وتنزل قطراته واحدة بعد واحدة على صدر بذلة الميدان التي كان يرتديها بغير علامات رتب، كما كان يفعل دائماً حين يكون في الجبهة ووسط الجنود.

لم يكن لدى أطباء المستشفى في الإسماعيلية وقت طويل للمحاولة، برغم أمل ساورهم في البداية، حين وجدوا جسده كله سليماً بلا جرح أو خدش، لكنها خمس دقائق لا أكثر ثم انطفأت الشعلة، وتلاشت تقلصات الألم التي كانت تشد تقاطيع الوجه المعبر عن الرجولة، لتحل محلها مسحة هدوء وسلام، ورضى بالقدر واستعداد للرحلة الأبدية إلى رحاب الله.

لحظات هي الأخيرة في حياة الشهيد عبد المنعم رياض، كما كتبها رفيقه الكاتب الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل، قبل 65 عامًا في رثائه له بـ«جريدة الأهرام» بتاريخ 14 مارس 1969، وأعادت اليوم نشرها، والتي بدأ فيها اعتبار يوم 9 مارس من كل عام يوماً للشهيد، تخليداً لذكرى رحيل رئيس أركان حرب الجيش المصري.

يكتب هيكل:

“فى تحية عبد المنعم رياض..الجنود القدامى لا يموتون”

أغالب مشاعرى كلها الآن، لأكتب في آخر ما كنت أتصور أن أكتب فيه، وآخر ماكنت أريد أن أكتب فيه.

ولقد كان السؤال الذى دهم حواسى كلها حين سمعت نبأ استشهاد الفريق عبد المنعم رياض، في موقع من أكثر المواقع تقدماً على جبهة القتال، وفى وقت ضج فيه الأفق بهدير المدافع- هو:- لماذا؟ لماذا ذهب؟ لماذا كان في هذا الوقت بالذات هناك وهو يعرف أكثر من غيره طبيعة ضرب المدفعية، خصوصاً من عدو لا يدقق في التوجيه، ولا يهمه أن يدقق، لأنه على جبهة القناة، يعرف أن كل طلقة منه يمكن أن تصيب، بيتاً، مدرسةً، مسجداً، مصنعاً، موقعاً، أى شىء يستوى الأمر لديه، بينما مدافعنا نحن تحتاج لكى تصيب إلى تدقيق في التوجيه ضد عدو مستحكم في خلاء الرمال الواسعة على الضفة الشرقية حيث حفر لمواقعه، وأسدل عليها مختلف فنون التمويه والإخفاء! لماذا ذهب، اليوم- الأحد- والتقديرات كلها بعد معارك يوم السبت تشير إلى أن العدو سوف يحاول في الغد أن يثأر لخسائره المؤكدة، وأرجح الاحتمالات أن تتجدد معارك المدافع. وظللت أردد نفس السؤال، مختنقاً باللوعة، مشتعلاً باللهب وأنا أسمع التفاصيل الكاملة للمشهد الأخير في حياته، ولم يكن أساى لأنى أعرف عبد المنعم رياض صديقاً قريباً وغالياً، ولكن- أيضاً- لأنى أعرف قيمة الرجل وقيمة عطائه للوطن في وقت يحتاج فيه هذا الوطن إلى نفس هذا النوع من العطاء الذى يستطيع عبد المنعم رياض أن يعطيه.. …..

كان قد عاد بالطائرة قبل ساعات من بغداد، حيث حضر اجتماعات لرؤساء أركان حرب جيوش الجبهة الشرقية، وتابع معارك المدافع يوم السبت من مكتبه في القيادة العامة. وصباح الأحد ركب طائرة هليكوبتر في طريقه إلى أحد المطارات الأمامية للجبهة، ثم ركب سيارة عسكرية معه فيها مرافق واحد غير الجندى الذى يقود سيارة رئيس هيئة أركان الحرب.. …..

وانطلق يطوف بالمواقع في الخطوط المتقدمة، يتحدث إلى الضباط والجنود، يسألهم ويسمع منهم، ويرى ويراقب ويسجل في ذاكرته الواعية، وفى أحد المواقع التقى بضابط شاب، وكانت حماسته للشباب مفتوحة القلب ومتدفقة، وقال له الضابط الشاب، ولم يكن هدير المدافع قد اشتد بعد:

– سيادة الفريق… هل تجىء لترى بقية جنودى في حفر موقعنا؟

وقال عبد المنعم رياض، بنبل الفارس الذى كانه طول حياته، وبالإنجليزية التي كانت تعبيرات منها تشع كثيراً سلسة وطيعة على لسانه:

Yes. By all means- أى: نعم، وبكل وسيلة.

وتوجه مع الضابط الشاب إلى أكثر المواقع تقدماً، الموقع المعروف برقم 6 بالإسماعيلية. وفجأة بدأ الضرب يقترب، وبدأت النيران تغطى المنطقة كلها، وكان لابد أن يهبط الجميع إلى حفر الجنود في الموقع، وكانت الحفرة التي نزل إليها عبد المنعم رياض تتسع بالكاد لشخصين أو ثلاثة.

وانفجرت قنبلة للعدو على حافة الموقع، وأحدث انفجارها تفريغ هواء مفاجئاً وعنيفاً في الحفرة التي كان فيها عبد المنعم رياض، وكان هو الأقرب إلى البؤرة التي بلغ فيها تفريغ الهواء مداه، وحدث له شبه انفجار في جهاز التنفس، وحين انجلى الدخان والغبار كان عبد المنعم رياض مازال حيث هو، وكما كان، إلا تقلصات ألم صامت شدت تقاطيع وجهه المعبر عن الرجولة، ثم خيط رفيع من الدم ينساب هادئاً من بين شفتيه، وتنزل قطراته واحدة بعد واحدة على صدر بذلة الميدان التي كان يرتديها بغير علامات رتب، كما كان يفعل دائماً حين يكون في الجبهة ووسط الجنود. ولم يكن لدى أطباء المستشفى في الإسماعيلية وقت طويل للمحاولة، برغم أمل ساورهم في البداية، حين وجدوا جسده كله سليماً بلا جرح أو خدش، لكنها خمس دقائق لا أكثر ثم انطفأت الشعلة، وتلاشت تقلصات الألم التي كانت تشد تقاطيع الوجه المعبر عن الرجولة، لتحل محلها مسحة هدوء وسلام، ورضى بالقدر واستعداد للرحلة الأبدية إلى رحاب الله.

وبرغم كل هذه التفاصيل، فلم أكن قادراً على تصديق ما أسمع، وكان نفس السؤال المختنق باللوعة، والمشتعل باللهب مازال يتكرر صادراً من أعماق أعماق الوجدان:

– لماذا؟ لماذا ذهب؟ لماذا وهو أول من يعرف طبيعة ضرب المدفعية، ثم هو أول من يعرف أهمية سلامة رئيس هيئة أركان حرب الجيش… في أى جيش في أى وطن؟

وكانت الدموع راحة وسكينة، بدأ كل شىء بعدها أكثر جلاءً وصفاءً، كأن الشمس تعود بعد أن انقشع الضباب المتراكم للعاصفة، وبعد أن انقطع نزول المطر.

كانت إجابة السؤال في أذنى بصوت عبد المنعم رياض، كما سمعته يتحدث إلى بعد موقف من المواقف التي كاد الخطر يطبق فيها عليه، وكان ذلك قبل أكثر من عشرين شهراً، وقبل أن تبدأ معارك يونيو سنة 1967 بأيام قليلة. كان ذلك في الأسبوع الأخير من شهر مايو سنة 1967، وكان التوتر شديداً على خط الحدود المصرية وعلى خطوط الهدنة، بينما قواتنا تحتشد في سيناء، وقوات العدو تتدفق إلى النقب الجنوبى، والصدام المسلح محتمل في أى ساعة.

وكان عبد المنعم رياض رئيساً لهيئة أركان حرب القيادة العربية الموحدة، التي أبعدته إليها عناصر كانت لها السلطة المطلقة في مقدرات القوات المسلحة المصرية في ذلك الوقت، لكنه لما أحس باحتمال نشوب القتال على الجبهة المصرية، طلب أن يعفى من انتدابه في القيادة الموحدة وأن يعود إلى جيشه ليخدم فيه مادامت المعركة تلوح في الأفق وأجيب إلى طلبه.

وفجأة ظهر يوم 27 مايو سنة 1967، سمعت نبأ بدا وكأنه كارثة، حاول من نقله إلىَّ أن يعطيه لى على جرعات.

قال أولاً:- هناك دوريات مسلحة دخلت للاستكشاف في الأرض الإسرائيلية.

قلت:- معقول، ومفهوم.

قال: يظهر أن عبد المنعم رياض دخل بنفسه مع إحدى هذه الدوريات.

قلت:- هذه مخاطرة لا لزوم لها.

ولكن الذروة جاءت حين قال لى محدثى في ذلك الوقت:

– ولقد أعلن العدو حالاً أن إحدى الدوريات التي دخلت قد وقعت في كمين العدو، ومن المحتمل كثيراً أن تكون تلك هى دورية عبد المنعم رياض، لأنها شوهدت وفق آخر تقرير في نفس هذه المنطقة.

وقلت، وأكاد أفقد أعصابى:- هذا غير معقول ولا مفهوم!.

ومضت ساعات والقلق فيها يعصر قلبى وقلوب غيرى ممن كانوا يعرفون بالاحتمال الرهيب الذى يمكن أن يتحقق في أى ثانية إذا ما أعلن العدو عن أسماء الضباط من أفراد الدورية التي وقعت في الكمين الذى نصبه. وأذكر يومها، أننى كنت على موعد مع محمود رياض وزير الخارجية، وكنت أريد أن أناقش معه بعض تطورات الموقف السياسى، لكننا قضينا معاً أكثر من ساعتين في ذلك اليوم وليس بيننا حديث غير حديث القلق على عبد المنعم رياض: هل كان ضمن الدورية التي وقعت في أسر العدو… أو أنه لم يكن، ومازال يجوب وسط مناطق تحشدات العدو بجسارته المذهلة، لا يعرف ماذا فعل بأصدقاء له في القاهرة عرفوا وعانوا.

وفى المساء أعلن العدو أسماء ضباط وجنود الدورية التي وقعت في أسره، ولم تكن دورية عبد المنعم رياض، وخفف القلق قبضته على القلوب، وإن لم يرفعها تماماً في انتظار أن يعود عبد المنعم رياض أو تصل أخبار مطمئنة عنه.

وفى اليوم التالى سمعت صوت عبد المنعم رياض بنفسه يقول لى بالتليفون من القاهرة وضحكته المرحة تسبق الملمات:- بلغنى أنك كنت عصبياً أمس!

قلت له:- لم أكن عصبياً فقط، ولكنى كدت أجن.

وراح يضحك، وقلت له:- انتظرنى أقول لك وجهة نظرى، لم يكن تفكيرى شخصياً في كل ما شعرت به، لكننى لم أكن أتصور أن ينجح العدو- قبل أن يبدأ أى قتال- في أسر رئيس هيئة أركان حرب القيادة العربية الموحدة؟

هل تتصور أثر ذلك على الروح المعنوية العربية عموماً، هل تتصور ما كان يمكن أن يحصل العدو عليه من معلومات منك، وأنت تعرف أن هناك حداً لصمود أى بشر أمام وسائل التعذيب الحديثة؟

وقال:- لم يكن ذلك كله غائباً عن بالى عندما خرجت مع دورية الاستكشاف، لكنى أحسست بضرورة الخروج هذه الأيام الثلاثة مع الدورية. ولقد كان مسدسى في يدى طول الوقت، ولم تغمض عينى ثانية واحدة، ولو قد أحسست باحتمال أن نلتقى بقوات للعدو، فلقد كان حتماً أن نقاتل حتى الطلقة ما قبل الأخيرة، لأنى كنت سأحتفظ بالطلقة الأخيرة ذاتها لنفسى، أفرغها في رأسى قبل أن يحاول العدو أن يأخذ منى نتفه معلومات واحدة.

واستطرد عبد المنعم رياض في ذلك اليوم يقول:- كان يجب أن أخرج مع هذه الدورية بنفسى لأسباب. أريد أن أرى الأرض التي ستجرى من فوقها المعركة، ومع أنى أعرفها من قبل ومشيت عليها بقدمى بقعة بقعة، فلقد كنت أريد أن أستذكر بالنظر ما أعرف.. لا شىء يعوض أن ترى بنفسك الأرض التي ستعمل عليها. والتى على ترابها سوف تتحدد الحياة أو الموت.

ومن ناحية أخرى، فإنه في بداية احتمال قتال بيننا وبين العدو، فلقد كان يجب أن نبعث ببعض الدوريات للاستكشاف، وفضلاً عن أى معلومات قد يعودون بها، فإن دخولهم يكسر رهبة اقتحام أرض للعدو في بداية مواجهة خطيرة معه. ومن ناحية ثالثة، فلم أكن أتصور أن نقول للضباط والجنود: اذهبوا أنتم إلى الدوريات وعودوا إلينا هنا وقصوا علينا ما رأيتم، تفرق المسألة كثيراً إذا أحسوا أن القواد معهم في المخاطرة، إلى جانب أنهم رأوا مثلهم ويستطيعون المراجعة عليهم.

ثم استطرد عبد المنعم رياض:- إذا حاربنا حرب جنرالات المكاتب في القاهرة فالهزيمة محققة، مكان الجنرالات الصحيح وسط جنودهم، وأقرب إلى المقدمة منه إلى المؤخرة.

وقلت مستسلماً:- مهما يكن، فقد حبست الدم في عروقنا ساعات!

قال ضاحكاً:- “تعيش وتأخذ غيرها”!

وعشت “وأخذت غيرها”، على حد تعبيره، وأما هو- لهفى عليه- فإنه لم يعش ليأخذ شيئاً، لكنه سيبقى دائماً مصدر عطاء لا ينفد لأمة تبحث عن المثل الأعلى، نفس بحثها عن السلاح الأقوى…

لم يكن عمر صداقتنا طويلاً، لم يزد على اثنتى عشرة سنة فقد كان أول لقاء بيننا في موسكو سنة 1957، وكان في موسكو وقتها وفد عسكرى مصرى يبرم عقوداً لصفقة سلاح، وكنت في موسكو في نفس الوقت، على موعد لحديث صحفى مع “نيكيتا خروشوف”، وكان وقتها نجماً صاعداً في القيادة السوفيتية، بعد أن أصبح السكرتير الأول للحزب الشيوعى السوفيتى.

ودعيت إلى حفل عشاء مع الوفد المصرى، أقيم له في قاعة الاستقبالات في وزارة الدفاع، وحضره معظم مارشالات الاتحاد السوفيتى الكبار، “مالينوفسكى”، و”تيموشنكو”، و”جريتشكو”، و”روكسوسفكى” وغيرهم، وكنت- والسفير محمد القونى سفير مصر في موسكو وقتها- المدنيين الوحيدين في هذا الجو العسكرى الخالص، وكنت أشعر بالغربة فيه.

وكان مقعدى على المائدة أمام ضابط شاب من أعضاء الوفد المصرى العسكرى برتبة لواء، فهمت أنه قائد المدفعية المضادة في الجيش المصرى، وأن اسمه عبد المنعم رياض.. وبعد دقائق من بدء العشاء كنت أشعر بالعرفان له، لأنه تدخل لإنقاذى أثناء محاورة بينى وبين المارشال رمودينكو قائد الطيران السوفيتى الذى كان يحاول إقناعى بشرب الفودكا، بينما كنت أحاول أن أقنعه- بالإشارة- أننى سوف أدوخ إذا لمس طرف لسانى قطرة واحدة من هذا السائل الأبيض الملتهب.

وكان عبد المنعم رياض يتحدث الروسية بطلاقة، ولم يكن هنا كثيرون يتحدثونها في هذا الوقت المبكر من العلاقات العربية- السوفيتية. وفى الليلة التالية التقينا مرة أخرى- ومصادفةً- في مسرح “البولشوى”، وكانت الراقصة الشهيرة “إيلينا إيلونوفا” تقدم آخر عرض لها لباليه رقصة البجع الشهير، ووجدته أثناء العرض على مقعد قريب من مقعدى، وتقابلنا في الاستراحة ما بين الفصلين لأقول له:

– لم أكن أتصور أن أجدك في الباليه.. كنت أتصور سهرات الضباط أكثر انطلاقاً من أحلام الباليه وموسيقاه التعبيرية ومزيج الأضواء والظلال والألوان فيه”.

وقال بسرعة وصراحة:- هل أنت من الذين يضعون الناس في قوالب، ويفاجأون إذا لم يجدوهم على مقاسها!”.

واعتذرت له صادقاً. ومن يومها بدأت صداقة بيننا، قوية عميقة.

وفى أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات تعددت لقاءاتنا في القاهرة، إلى جانب مرات عديدة تصادف وجودنا معاً في موسكو ذات الوقت. وفى تلك المرحلة كانت تلفت نظرى في أحاديثه عدة مسائل تتكرر باستمرار:

فهمه لدور الطيران في أى معركة قادمة مع إسرائيل، وكان له تصوير مبسط لموقع إسرائيل في المكان الذى تقع فيه من قلب العالم العربى، يقول فيه:

– تكاد إسرائيل أن تكون في هذا الموقع المطل على الساحل الشرقى للبحر الأبيض، أن تكون حاملة طائرات ثابتة في موقعها يحتفظ عليها الاستعمار بقوته الجوية التكتيكية، ووراءها الاحتياطى الاستراتيجى له متمثلاً في أساطيله البحرية في هذا البحر الأبيض.

ثم يستطرد:- ما هو السلاح الأساسى لحاملة الطائرات؟

ويجيب بنفسه:- الطائرات طبعاً!

ويستطرد:- إذا أردت أن تضرب فبالطيران قبل غيره، وإذا أردنا ضربها فبالطيران قبل غيره، وإذا فقدت الحاملة طائراتها أصبحت مجرد لوح خشب طاف على سطح الماء.

وحرب الطيران هى حرب الانقضاض المفاجئ، حرب السرعة الخاطفة، حرب الأيام المعدودة على أصابع اليد الواحدة، وبعدها يكون النصر أو تكون الهزيمة”.

– تقديره لأهمية العلم في أى معركة، وكان يعتبر أن العلم هو ميزة العدو علينا، باعتبار استعداده الإنسانى لاستيعابه، ثم باعتبار حاجته إليه لتعويض نقصه البشرى في مواجهة فيض بشرى عربى.

ومن المؤكد أن عبد المنعم رياض ظل إلى آخر يوم في حياته طالب علم، وذلك أعظم ما يمكن أن يكونه أى إنسان مهما علا قدره وارتفع مقامه. وربما ساعد عبد المنعم رياض على حسن تقديره لأهمية العلم الحديث في المعركة، أنه كان بحكم عمله في المدفعية المضادة للطائرات، على اتصال مباشر بتطورات علمية واسعة الأثر، فإن المدفعية المضادة للطائرات أصبحت تعتمد على الصواريخ والتعامل بالصواريخ في حد ذاته مقدرة على الانطلاق إلى بعيد، كذلك فإن تعدد مصادر دراساته في بريطانيا والاتحاد السوفيتى، واستخدامه أكثر من لغة، الإنجليزية والفرنسية والروسية كلها بطلاقة، إلى جانب العربية بالطبع، أتاح له فرصة رحبة غير مقيدة.

وأذكر مرة في موسكو وكنت أزور كلية “فوروشيلوف العسكرية”، وقد أصبح اسمها فيما بعد أكاديمية القيادة العامة العليا للقوات المسلحة السوفيتية أن قال لى أحد الدارسين المصريين فيها:- إن عبد المنعم رياض الذى درس هنا قبل سنوات جعل مهمة الذين جاءوا بعده بالغة الصعوبة.

إن الجنرال يابتشنكو، وهو من كبار المعلمين السوفيت هنا، وكان له تاريخه في الحرب العالمية الثانية- لا يمل دائماً من أن يكرر للدارسين العرب:- على هذا المقعد الرابع، “فى الدورة الأولى التي اشترك فيها دارسون عرب في هذه الأكاديمية كان يجلس الجنرال رياض”.

وفوق ذلك في هذه الفترة كانت أحاديث عبد المنعم رياض تعكس من بعيد تململه من بعض الأوضاع السائدة في القوات المسلحة في ذلك الوقت.

وكانت مشكلته أنه لا يستطيع أن يسكت ببساطة!

وكانت مشكلة الآخرين حياله أنهم لا يستطيعون الخلاص منه وإسكاته تحت أى غطاء، فلقد كان امتيازه في عمله لا ينازع، ولم تكن له مطالب شخصية..

ولم يغير مسكنه الذى كان فيه بمصر الجديدة وهو شقة من أربع غرف في شارع جانبى صغير، وكانت تشاركه فيها شقيقته، وهى أستاذة بكلية العلوم بجامعة عين شمس. ولم يتزوج هو لأن السنوات التي كان يستطيع فيها الزواج قد انقضت وهو في دراسات بعيدة أو في مواقع خدمة في المعسكرات، ولم تتزوج هى الأخرى، لأنها أحست أن واجبها خدمته، وكانت أحاديثه دائماً عن “الدكتورة”، نابضة بحنان عميق وأصيل.

وعُرض عليه منصب سفير في تلك الأيام واعتذر، لأنه على حد تعبيره “ضابط وابن ضابط”، ثم إنه الآن لا يستطيع أن يترك “الدكتورة” التي أعطته أحلى سنوات حياتها طواعيةً وحباً.

وجاء تعيينه في القيادة العربية الموحدة، رئيساً لهيئة أركان حربها، حلاً موفقاً وسعيداً بالنسبة لكل الأطراف، بقى في الجندية، مهنته وعمله، وابتعد عن أسباب التململ، ثم ظلت حياته مستمرة في شقته الصغيرة تحت رعاية “الدكتورة” وفى حماها.

وفى هذه الفترة توثقت الصداقة بيننا أكثر، ففضلاً عن الصلة الشخصية، تلاقى اهتمامنا في مسائل العمل العربى ومشاكله.

كانت هذه المسائل والمشاكل موضوعه الأساسى كصحفى، وأصبحت هذه المسائل والمشاكل موضوعاً هاماً بالنسبة لمسئوليته العسكرية في القيادة العربية الموحدة.

وهكذا جمعتنا مناسبات كبيرة، ليس في القاهرة وحدها، وإنما في الإسكندرية والدار البيضاء والخرطوم وعواصم عربية غيرها رأت مشاهد من تجارب العمل العربى المشترك.

وفى تلك الفترة ما بين سنة 1964 إلى سنة 1968، كان المتتبع لتفكير عبد المنعم رياض يلحظ أشياءً كثيرة تتبلور مع كل يوم وتتحدد أكثر:

بدأت معرفته بالعالم العربى، وحديثه عنه، وتصوره لإمكاناته، يكتسب دقة وحدة المعرفة المباشرة.

وبدأ حسابه لقدرات الجندى العربى والضابط العربى، في كل جيش من الجيوش العربية يعكس صدق التجربة التي تتم بالعمل اليدوى المباشر.

ثم بدأ تفكيره الإستراتيجى يرسم صورة كاملة وشاملة للطريقة التي يمكن بها أن تجرى المواجهة مع العدو، ولم يكن في تصوراته يتجاهل الحقائق، وإنما كانت الحقائق أساس تصوراته، إلى جانب عنصر المخاطرة المحسوبة التي لا غنى عنها في تقديرات أى قائد عسكرى يريد أن يحارب بما يتوافر لديه ويجعل مهمته ممكنة، وليس القائد العسكرى الذى لا يريد أن يحارب ويطلب ما لا يمكن توفيره له، ويجعل بالتالى مهمة غيره مستحيلة.

وفى مرات كثيرة كانت التصورات تجمح بنا ونحن في مناقشات معه، وتكون كلمته دائماً بالحزم العسكرى:

Gentlemen, back to reality- أى أيها السادة.. عودة إلى الواقع.

وفى هذه الفترة ظهرت في تفكيره الصورة الأولى لما نسميه اليوم بالقيادة الشرقية، وكان من قلائل من يستطيعون الحديث عنها وعن إمكاناتها بثقة.

فقد كان يعرف الجبهات العربية المحيطة بإسرائيل من الشرق كلها.

ثم إن هذه الجبهات على مستوى الحكومات، وعلى مستوى قواتها المسلحة كانت تعرفه، وأكثر من ذلك تسلم بامتيازه وكفاءته.

وكانت كلمته في تلك الفترة دائماً “إنه من الشرق نستطيع الوصول إلى قلب إسرائيل أو على الأقل نطوله”.

ثم جاءت ظروف معارك يونيو سنة 1967، وسأحتفظ للتاريخ بتفاصيل حديثين طويلين مع عبد المنعم رياض في هذه الفترة:

– أولهما جرى بالتحديد يوم 13 مايو سنة 1967، وفى أعقاب محاضرة ألقاها المارشال مونتجمرى قائد معركة العلمين الشهير في أكاديمية ناصر العسكرية العليا، وقد حضرت المناسبة مع مونتجمرى، لأن الأهرام كان مشتركاً في تنظيم رحلته إلى مصر، وحضرت ما تلاها من مناقشات اشترك فيها عبد المنعم رياض مع مونتجمرى بذكاء لامع، ولقينى عبد المنعم رياض على باب الأكاديمية وسألنى:

– إلى أين؟

قلت: عائد إلى الأهرام.

قال: أجىء معك إلى هناك وأعطنى فنجان قهوة.

وجلسنا معاً في مكتبى، وأحسست أن لديه شيئاً يريد أن يقوله، وبالفعل كان لديه شىء بالغ الخطورة يلح على توقعاته لسير الحوادث والتطورات ولا يستطيع- كما قال لى يومها- أن يبعده أو ينساه. وفى هذه الجلسة التي امتدت أكثر من ساعة، أشهد أن ما سمعته من عبد المنعم رياض لم يختلف إلا في التفاصيل عن المجرى الذى سارت فيه الحوادث بعد ذلك إلى النكسة.

ولا أعتقد أن الوقت مناسب بعد لأن أستطرد في رواية هذا الحديث بأكثر من هذا القدر، ومهما يكن فتفاصيله محفوظة عندى للتاريخ.

– والحديث الثانى، كان بعد عودة عبد المنعم رياض من الأردن حيث قاد قواته في المعركة، وكان هذا الحديث بالتحديد يوم الحادى عشر من يوليو سنة 1967، وكان عبد المنعم رياض بعد انتهاء المعارك قد بقى فترة في الأردن، كتب فيها تقريراً مفصلاً عن سير العمليات..

وكان هذا التقرير بالذات محور ذلك اليوم، ومرة أخرى لا أعتقد أن الوقت الآن مناسب للاستطراد في روايته وتفاصيله هو الآخر عندى للتاريخ.

وفى عملية إعادة بناء القوات المسلحة، بعد الأنقاض التي تخلفت من النكسة، وقع اختيار الرئيس جمال عبد الناصر على رجلين عهد إليهما بالمهمة التي بدت في ذلك الوقت مستحيلة.

الفريق أول محمد فوزى قائداً عاماً ثم وزيراً للحربية.

والفريق عبد المنعم رياض رئيساً لهيئة أركان الحرب.

وفى هذه الفترة لم أكن ألتقى بعبد المنعم رياض كثيراً كما تعودنا من قبل، لأن المسئولية التي شارك فيها كانت فوق ما يحتمل البشر.

فى هذه الفترة قابلته مرات معدودات، لكن التليفون كان يصل بيننا أسرع وأسهل.

– قابلته مرة في مكتب الفريق أول محمد فوزى، وقد دخل المكتب وأنا فيه جالس مع الفريق فوزى، وكان تصرف عبد المنعم رياض نموذجاً في الانضباط العسكرى، توجه إلى الفريق أول فوزى وتحدث معه لبعض الوقت وهو في وقفته العسكرية التي لا تقبل رفع الكلفة فيما هو واجب، وبعد أن خلص من حديثه انتهى دور العسكرى وبدأ دور الصديق، ولم يضع وقتاً وإنما قال:

– سوف أنتظرك في مكتبى بعد أن تفرغ من حديثك مع سيادة الفريق.

وخرج.

وقلت ملاحظة على الانضباط العسكرى، وقال لى الفريق أول فوزى، وفى عينيه ومضة حب:

– عبد المنعم؟.. ليس له مثيل، لم يكن في الاستطاعة أن يكون لى رفيق فيما كلفت به غيره.

ثم أتاحت لى ظروف زيارة الرئيس جمال عبد الناصر لموسكو في شهر يوليو سنة 1968، أن أرى عبد المنعم رياض كل يوم لمدة أسبوع كامل. وأن أسهر معه كل ليلة بعد أن ينتهى العمل- إلى ما بعد منتصف الليل. وكان عبد المنعم رياض عضواً في الوفد المرافق للرئيس جمال عبد الناصر إلى موسكو.

وكنت صحفياً يتابع محادثات الوفد في موسكو. وتركت فندق “سوفيتسكايا” الذى كان مقرراً أن أنزل فيه، وحملت حقيبتى إلى بيت الضيافة الذى كان ينزل فيه عبد المنعم رياض. وتحدثنا طويلاً طويلاً.

وقطعنا مسافات لا حدود لها في شارع جوركى تائهين، وسط الجموع المتزاحمة في أمسيات العاصمة السوفيتية وأحاديثنا مازالت متصلة. ومشينا أكثر من ليلة في حديقة السفارة المصرية في موسكو، ضيفى عشاء على الدكتور مراد غالب سفيرنا المقتدر فيها والأحاديث لا تنقطع.

وتركت عبد المنعم رياض في موسكو عائداً إلى القاهرة، لكنه في الدقائق الأخيرة قبل السفر جاء إلى غرفتى وفى يده خطاب سميك وقال:- تحمل هذا معك إلى القاهرة وتسلمه بيدك للفريق أول فوزى.

قلت له:- ما هذا؟

قال:- لا شأن لك به، ولكنه تقرير كتبته له لكى يكون على علم بمحادثاتى هنا.

وقلت: ألم تجد غيرى لهذه المسئولية المزعجة؟

– فكرت، ولكنى لا أطمئن أن أبعثه برقياً أو بالوسائل التقليدية، ثم إن أحداً لن يخطر له أننى أعطى التقرير لصحفى، وبالتالى فإن أحداً- إذا كانت هناك ملاحقة- لن يطاردك أنت بالذات!.

ووضعت التقرير في جيبى الداخلى كأنه مصيبة وقعت على رأسى.

وحين وصلت إلى القاهرة قلت للفريق أول فوزى:

– إن عبد المنعم رياض وضع في جيبى قنبلة وعلى أن أسلمها لك.

وضحك الفريق أول فوزى بعد أن عرف الحقيقة وقال لى:

– لقد كنت أعرف أن هناك تقريراً من عبد المنعم رياض قادم إلى مع القادمين من موسكو، لكنه لم يخطر لى أن يكون معك.

قلت: كذلك كان تقديره.

قال بطريقة أستاذ العلوم العسكرية المتبحر: تقديره صحيح من وجهة نظر الإخفاء!.

ثم قابلت عبد المنعم رياض بعد ذلك مرة، بعد أن اتصلت به تليفونياً أقول له:- لدى صديق أريد أن أقدمه لك.

قال:- تعالى معه الآن عندى.

قلت:- ألا تسألنى من هو؟.

قال ضاحكاً:- ليس لدى فضول الصحفى مثلك!.

وذهبت إليه وكان معى ياسر عرفات، وكانت متابعة النقاش بينهما متعة لا تقدر بالنسبة لى.

كان الحديث بينهما عن المقاومة، وعمل المقاومة، ومشاكل المقاومة، كان عبد المنعم رياض، وهو الجندى النظامى من الدرجة الأولى، خبيراً في الحرب الشعبية، ومن الدرجة الأولى أيضاً، ولم يكن ذلك رأيى وإنما كان رأى ياسر عرفات، وهو صاحب تجربة عملية مباشرة جرت وتجرى على أرض المعركة ذاتها.

وفى هذه الفترة كلها، كان عبد المنعم رياض مصدر ثقة مريحة ومطمئنة في ظروف كان فيها الكثير مما يدعو إلى القلق والتشاؤم. وخلال هذه الفترة كلها شعرت بالقلق يسرى في صوت عبد المنعم رياض مرة واحدة، وكان ذلك يوم مظاهرات الإسكندرية وما شابها من حوادث التخريب، واتصل بى عبد المنعم رياض تليفونياً يقول بحدة منذ اللحظة الأولى:

– ما الذى يجرى في هذا البلد؟.

قلت:- ما يجرى طبيعى، وهو أبسط تعبير عن التمزق الذى تعانيه جماهيرنا خصوصاً جماهير الشباب.

قال:- إذن فلا لزوم الآن للتمزق… فلندعه ليوم آخر.

ثم استطرد:- لا تتصور تأثير ما يحدث هنا على معنويات الجبهة… ماذا أقول لضباطنا وجنودنا هناك.. هل أقول لهم أهلكم وراء الخطوط بدأوا يعانون من التمزق، وإذا بدأت الجبهة المدنية وراء الخطوط تعانى من التمزق، فكيف نحتفظ بتماسك الجبهة العسكرية؟.

قلت له:- ليس الأمر بهذه الخطورة، وهو مجرد عارض عابر.

قال: ولكنى فهمت أن هناك تخريباً في المدينة، فهل يعقل أن يحدث ذلك الآن ونضطر إلى إنزال قوات من الجيش لحفظ الأمن والنظام.

واستطرد عبد المنعم رياض يقول:

– إننى أدعو الله ألا أعيش وأرى يوماً تنزل فيه قوات من الجيش لحفظ الأمن والنظام في الشارع.

وانتهى الحديث، لكنها كانت المرة الأولى التي أحس فيها بالقلق يشيع في صوته خلال عمله كرئيس لهيئة أركان الحرب.

ثم كانت المرة الأخيرة التي رأيت فيها عبد المنعم رياض، وكان ذلك منذ حوالى الشهر تقريباً، واتصل بى يقول: ماذا تفعل الليلة!.

قلت: لا شىء…

قال: في المساء سوف أمر عليك.

وكان حديث تلك الليلة من أهم أحاديثنا، ولم أكن أدرك أنه آخر أحاديثنا على الإطلاق، ولست الآن في صدد سرد تفاصيل هذا الحديث، وإنما لعلها فرصة لعرض لمحات منه، تشير إلى بعض شواغله الأخيرة:

– كان هناك تحليل نفذ منه لأزمة الشرق الأوسط، على ضوء أوضاع الإستراتيجية العالمية.

– كانت هناك ثقة كاملة منه في إمكانية الانتصار في معركة تعطى إمكاناتها المناسبة، وإذا أعطيت وقتها الكافى.

– كان هناك يقينه، ليس بحتمية المعركة فحسب، وإنما بضرورتها، وأذكر قوله بالحرف:

– لن نستطيع أن نحفظ شرف هذا البلد بغير معركة، عندما أقول شرف البلد، فلا أعنى التجريد هنا، وإنما أعنى شرف كل فرد، شرف كل رجل وكل امرأة.

كان شديد الوعى بأهمية قضية التنمية، وأذكر قوله:

– لا تتصور ضيقى كلما طلبنا اعتماداً إضافياً للتسليح، لأن شعبنا في حاجة إلى كل قرش ليستثمره في المصانع الجديدة، ولكن ماذا نفعل؟ إذا ضاع شرف الأمة، فلن يستطيع أى قدر من الغنى أن يعوضنا عنه.

ليس الشرف هنا مجرد مسألة رمزية.

وإنما شرف أى أمة هو مصدر ثقتها الوحيد بأنها تستطيع أن تتصرف بإرادتها، وأن تحقق ما تشاء.

كان اهتمامه بالقيادات الجديدة التي ظهرت في القوات المسلحة زائداً، وكان قوله:

– لا تصدق ما يقال من أن القادة يولدون… الذى يولد قائداً هو فلتة من الفلتات لا يقاس عليها كنابليون مثلاً.

القادة العسكريون يصنعون، يصنعهم العلم والتجربة والفرصة والثقة.

ما نحتاج إليه هو بناء القادة… صنعهم.

القائد هو الذى يقود، هو الذى يملك مقدرة إصدار القرار وليس مجرد سلطة إصدار القرار، ويدخل التوقيت السليم في المقدرة على إصدار القرار.

فى الدراسة العملية لتصرفاتنا في المعركة كانت قرارات الكثير من قوادنا قرارات سليمة، لكنهم ترددوا، لم يعطوها في الوقت المناسب، ولا فائدة في قرار مهما كان سليماً إذا جاء بعد الوقت المناسب له بخمس دقائق، لأن الموقف الذى يواجهه يكون قد تغير فالمعركة لا تنتظر أحداً.

فى نظرى.. فإن قراراً سليماً بنسبة ستين في المائة في الوقت المناسب خير من قرار سليم مائة في المائة ويجىء بعد الوقت المناسب بخمس دقائق… ليصبح بغير فائدة على الإطلاق.. بل ليضر ضرراً بليغاً.

– كانت هناك عبارتان تعودان باستمرار إلى حديثه كأنهما اللحن الأساسى في سيمفونية شامخة:

– العودة إلى سيناء.

– الجبهة الشرقية موجودة ومؤثرة.

ومن الغريب أنه في نهاية حديثنا تلك الليلة، وجدنا أنفسنا بقرب حياته الشخصية، وكان في مشروعاته ذات يوم قبل الحرب، مشروع زواج لم يتم، وقال لى عبد المنعم رياض:

– هل تعرف؟ لم أعد أفكر في هذا الأمر الآن.. ولم يعد لدى وقت للتفكير فيه، ثم إن الظروف غير ملائمة، وأنا أريد أن أعطى حياتى كلها للمعركة.

وكان الحديث قرب الخاتمة، وقمنا من حيث كنا جالسين نمشى معاً نحو الباب الخارجى، وكان هو يقول:

– بعد المعركة، من يعرف كيف تسير الأمور.. ربما عاودت التفكير مرة أخرى في مشروع الزواج.. أنت تغرينى بأحاديثك عن البيت السعيد والأولاد، ولكن الوقت متأخر بالنسبة لى في مسألة الأولاد.

عندما يجىء السلام سوف أبحث عن قطعة أرض صغيرة وأبنى عليها بيتاً صغيراً تحيطه الزهور.. وسوف أقرأ كثيراً وربما فكرت أن أكتب، وقد تكون هناك زوجة ترضى بالعيش مع عجوز مثلى.

لا أتصور أن أفعل شيئاً آخر غير ذلك.. لا أتصور أن أجد نفسى موظفاً مدنياً أو سفيراً.

ثم استطرد:

– إننى أفهم الجنرال ماك آرثر، عندما قال “إن الجنود القدامى لا يموتون.. ولكنهم يبتعدون فقط”.

وأكاد في هذه اللحظة أسمع صوت عبد المنعم رياض وأشعر بيده تصافح يدى في آخر مقابلة بيننا قبل شهر، وهو يقول:

“الجنود القدامى لا يموتون.. لكنهم يبتعدون فقط”.

ثم أسكت قبل أن تغلبنى الدموع

الأهرام الجمعة 14 مارس 1969
الشروق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى