الأخبار

بالتفاصيل.. عملية «أفروديت» التى أوجعت أردوغان

84

المفهوم من الصراع الحالى بين التحالف المصرى اليونانى القبرصى من جانب، وتركيا من جانب آخر، لا يعدو إلا قمة جبل الجليد.. ما تحت السطح أعمق من مجرد رغبة فى حفظ الحقوق الخاصة بثروات الطاقة فى شرق المتوسط، أو دعم نيقوسيا ضد أى استفزازات من جانب أنقرة قد تهدد أمنها، أو تعوق استعادة وحدتها المسلوبة..

اللعبة تتعلق فى المقام الأول بسباق المواجهات والضربات السياسية المتبادلة بين قاهرة ما بعد 30 يونيو، وحاكم الأناضول رجب طيب أردوغان، ذلك السباق الذى حققت فيه الأولى نجاحات عدة موجعة للثانى، ولو ادعى غير ذلك..

الإعلان الأخير من جانب الحكومة التركية، بشأن تفويض قواتها البحرية بالاشتباك مع أى كيانات تقوم بعمليات تنقيب عن النفط والغاز الطبيعى فى المناطق التى تعتبرها أنقرة تابعة لها إداريًا فى حوض شرق البحر المتوسط، لم يكن مفاجأة على الإطلاق، بل يمكن القول أنه كان خطوة إجبارية للرد على إعلان القاهرة الصادر عن القمة الثلاثية التى جمعت، مطلع الأسبوع الجارى، كل من الرئيس عبد الفتاح السيسى، ونظيره القبرصى، نيكوس أناستاسيادس، إضافة إلى رئيس الوزراء اليونانى، أنتونيس ساماراس، إذ حذر البيان صراحة من استخدام القوة أو التهديد بها، فى إشارة واضحة إلى أنقرة..

المجتمعون فى القاهرة فضحوا على ما يبدو نية تركيا استخدام العنف لحسم الخلافات الخاصة بحقوق الطاقة فى شرق المتوسط.. وبناءً عليه، لم يكن أمامها خيار إلا الكشف عن تحركاتها فى هذا الشأن.. فمن تمكن من الاطلاع على خططها، قادر على كشف سرها وقتما شاء.. قادر كذلك على استخدامه سياسيًا كيفيما يريد.. أنقرة آثرت إذًن التهديد الاستباقى، للتغطية على تسليط الضوء على نشاطها المريب..

السيسى أثناء استقباله رئيس وزراء اليونان

التهديد التركى باستخدام العنف، وغير أنه بدا حتميًا لحفظ ما الوجه على نحو ما، فإنه عكس توترًا حادًا فى القيادة بأنقرة، لتحافظ الأخيرة تحت إمرة أردوغان، رئيسًا للوزراء ورئيسًا للجمهورية، على سجلها فى الفترة الأخيرة، فى رد الضربات الآتية من القاهرة “خصوصًا تلك البعيدة عن التصريحات العلنية المرتبطة الخارجية المصرية، وكذا بعيدًا عن وصلات التهجم الإعلامية”، عبر اتباع إجراءات انفعالية، واللجوء إلى لغة التطاول والتجريح تجاه الرئيس السيسى، وتجاه القضاء والجيش المصريين وكل ما يمت بصلة لما بعد 30 يونيو، فضلًا عن إغداق مزيد من الدعم الاستعراضى للإخوان نكاية فى مصر.

لا يخفى على أحد أن الشهور الـ3 الأخيرة، صعدت مصر من إجراءاتها المؤلمة تجاه تركيا.. تارة وحسب تقارير غربية عدة، بإفشال مخطط أنقرة لاقتناص مقعد غير دائم بمجلس الأمن، ما قضى على آخر أمل لديها، ولدى حلفائها من الإخوان، فى إمكانية استصدار قرار دولى بإدانة فض اعتصام رابعة العدوية، بالقوة على يد الشرطة، ومن ثم الزج بالمسؤولين المصريين إلى المحكمة الجنائية الدولية، وذلك نظرًا لأنه لا ولاية من قبل الأخيرة على القاهرة غير الموقعة على ميثاقها، إلا عبر مجلس الأمن وأعضائه.

وتارة ثانية، عندما تجاوزت مصر اختبار العدوان الإسرائيلى على غزة، بنجاح ما، ولو أنه قد جاء متأخرًا، بحيث أُجبرت حماس فى النهاية على الرضوخ لرؤية القاهرة، والتسليم بأن أى حل لا يمر إلى من خلالها، وذلك رغم كل آيات المراوغة التى مورست من جانب الحركة لإحراج القيادة المصرية، على حساب دماء سكان القطاع، لا لشىء إلا من أجل سحب الملف الفلسطينى من بين يديها، وتقديمه على طبق من ذهب لأنقرة والدوحة..

هذا يفسر سر العصبية الشديدة البادية على أردوغان كلما تطرق الحديث إلى مصر.. هو لا ينسى ثأره.. لا يزال يشعر بغصة جراء ضياع حلم استعادة الخلافة العثمانية القديمة، بسقوط النظام الإخوانى الموالى له، أو على الأقل المتحالف معه، فى القاهرة.. الجزء الأيديولوجى الخاص بجذوره الإخوانية، بالقطع هو عامل فى تأجيج ضيقه من بلاد النيل..

غير أن عصبية الرجل تتجاوز كل تصور، حينما يصل الرد المصرى على تطاولاته، ليستقر على شاطئ قبرص، ساحة النزال الكبيرة مع أثينا منذ 40 عامًا بالتمام والكمال.. المعركة لا تستدعى من وجهة نظره مزيدًا من الداعمين للجزيرة ولحقوقها فى الوحدة والتخلص من الاحتلال التركى، الذي يسيطر على أكثر من ثلثها بقليل.. التلويح باستخدام القوى العسكرية من جانب أنقرة بعد إعلان القاهرة، لا يمكن فهمه من دون النظر إليه من زاوية نيقوسيا..

بل يمكن القول أن سر المساندة التركية الملموسة للإخوان ضد مصر، إنما تضاعفت، وربما تكون اتخذت شكلًا أعمق من مجرد تصدير الشعارات أو اللجوء إلى الحنجورية الفارغة، لمحاولة تسديد ضربات تضعف من الدولة المصرية اقتصاديًا وسياسيًا، بعد ما وضعت القاهرة يدها فى يد قبرص ومن خلفها اليونان، فى وقت مبكر بعد 30 يونيو.

ولا يبدو أن سلطة ما بعد الإطاحة بمحمد مرسى ونظامه، قصدت افتعال مجابهة حامية مع أنقرة، شراءً لود نيقوسيا مثلًا.. الظرف السياسى والدولى بعد عزل الرئيس الإخوانى، ربما دفعها دفعًا لذلك..

فى تلك الأثناء كان حلفاء الجماعة، وخاصة فى واشنطن والدوحة وأنقرة، يواصلون الضغط على القاهرة من أجل إجبارها على إعادة الإخوان للمشهد، ووقف كل الإجراءات التى أدت لخروجهم منه.. مارسوا ذلك بتشويه السمعة، وفتح حدودهم، وخاصة من جانب الثانية والثالثة، لمطاريد التنظيم وحلفائه ورموز ذراعه الدولية، من أجل إذكاء نيران التحريض والدعوة لإشاعة الفوضى والفرقة والتوتر والعنف فى مصر..

المجتمع الدولى كان لا يتفهم على نحو ما، وبتوجيه أمريكى أوروبى من دون شك كذلك، وعبر المنظمات الحقوقية ومراكز العلاقات العامة الداعمة للإخوان، الأسباب التى دفعت المصريين، بمساعدة من الجيش ومؤسسات الدولة، لإسقاط رئيس منتخب.. شبح العزلة السياسية أطل بوجهه على مصر.. عضويتها وأنشطتها فى الاتحاد الإفريقى عُلقت.. المساعدات الخارجية، الاقتصادية والعسكرية والأمنية، الآتية من شمال المتوسط وغرب الأطلسى، عُطلت، وبعضها لا يزال يكتنفه المجهول حتى الآن..

رد الفعل المصرى آنذاك كان لا يزال مرتبكًا، ضعيفًا، غير خلاق، والأخطر أنه أُهدر فى كثير من الأحيان فى مواجهة الإرهاب المتصاعد بطول البلاد وعرضها، وكذا فى معركة تصفية الحسابات التى اشتعلت بين وجوه الدولة القديمة، ورموز سنوات الثورات..

فى تلك اللحظة، كان حريًا بالإدارة المصرية، التى كانت تحت لواء الرئيس المؤقت، المستشار عدلى منصور، اتخاذ إجراء مباغت يعيد التوازن والثقة، ويضغط بدوره على الخصوم لتخفيف حصارهم لها..

الخليج بقيادة السعودية والإمارات، كان فى الوعد، وتكفل بالملف القطرى.. الرياض وأبو ظبى، بمعاونة من الكويت والبحرين أيضًا، أخذا على عاتقهما مواجهة الدوحة ونزقات أميرها، علاوة على دعم مصر ماليًا لتقف على قدميها مجددًا، علاوة على الضغط على واشنطن لإعادة تقييم الأوضاع بعد 30 يونيو بشىء من الإنصاف، أو على الأقل بدون تحيز للإخوان.

السيسى ونظيره القبرصى ورئيس وزراء اليونان

التوجه المصرى، وخصوصًا عسكريًا واقتصاديًا، نحو الشرق الروسى، وحتى قبل وصول السيسى إلى سدة الحكم، ساهم فيما بعد بلا شك فى أن تقوم واشنطن ورفاقها فى القارة العجوز، بإعادة النظر فى حساباتهم بشأن التنكيل بالقاهرة.. فقد الأخيرة بدا أن تكلفته باهظة.. إسراع مصر فى إنجاز دستور جديد للبلاد، وكذا انتخاب رئيس جديد، أبطل كثيرًا من حجج التوجس الغربى تجاهها.. “فى الأخير أوباما والسيسى اجتمعا على مائدة حوار واحدة”..

رغم إيجابية تلك الخطوات، إلا أن القاهرة، كانت لا تزال فى خانة المدافع عن النفس.. لا مبادرة على الإطلاق، لا ضربة موجعة من جانبها لأحد المتحرشين بها، يمكن أن يربك صداها كافة حسابات المعسكر المناوئ..

التراجع المصرى الكبير في ذلك الوقت إلى خطوط الدفاع، أغرى أردوغان وحليفه فى الدوحة، وبتعاون مذهل فى الفجاجة والانتهازية من جانب الإخوان، لمحاولة إسقاط النظام المصرى.. الألعاب المشروعة وغير المشروعة كانت على المكشوف ضد ما أسماه سليل العثمالية بالانقلاب العسكرى فى مصر..

المشكلة التركية أصبحت مستعصية على نحو ما.. أى رد غير قوى، أو فاشل، كان ليحولها إلى عقدة، من دون أدنى مبالغة..

بصمت تحركت أجنحة فى الإدارة المصرية.. حددت أين يمكن إصابة أنقرة فى مقتل من جهة، ومن جهة أخرى انتزاع اعترافات دولية معتبرة بـ30 يونيو وما تلاها من تغيير واقع الحكم والمشهد السياسى..

فجأة استقبلت اليونان الرئيس المؤقت عدلى منصور في يناير 2014.. أثينا وهى رئيس الاتحاد الأوروبى فى ذلك الوقت، فتحت ذراعيها لمصر ما بعد 30 يونيو، فى دعم واضح لإرادة التغيير، أيًا كان اسمها أو محركها، والتى كانت قد أطاحت بحكم الجماعة.. فما السر؟..

عدلى منصور والرئيس اليونانى فى أثينا

الحكاية ترتبط بمباحثات أجرها منصور قبل ذلك التاريخ بنحو شهر، مع الرئيس القبرصى، نيكوس أناستاسياديس، بالقاهرة، حيث تم توقيع اتفاق يحظر على مصر التنقيب فى حزام عرضه 10 كم من حقل “أفروديت” للغاز، داخل المياه المصرية، بدون موافقة نيقوسيا التى يفترض أنها تتشارك مع القاهرة فى ملكية الحقل، بينما لم يفرض أى حذر مماثل فى المياه القبرصية..

السؤال: ما الذى يدفع مصر للتوقيع على اتفاق مثل هذا، رغم أن قضية ترسيم الحدود البحرية بينها وبين قبرص لم تحسم بعد، بل أنها معطلة منذ سنوات طويلة، ومن ثم فإن الاستفادة من آبار الغاز المنتشرة فى تلك المنطقة، والتى يمكن أن تدر عائدات بمئات المليارات من الدولارات، لا تزال بعيدة المنال؟

القراءة المتأنية للقرار المصرى، لا تؤشر إلا إلى احتمالية أن تكون القاهرة قررت التخلى عن مكاسب وحقوق اقتصادية خاصة بها لصالح نيقوسيا، لضرب عصفورين بحجر: الأول التنغيص على الأتراك، أعداء قبرص “اليونانية”، والإعلان عن أن مصر قادرة على اللعب فى ملف حساس بالنسبة لأنقرة، طالما أن الأخيرة تصر على دعم مخططات ضرب استقرار بلاد النيل.

أما الثانى، فلا يبدو أن التساهل الاقتصادى مع قبرص، ولو مؤقتًا، إلا عربون ود تجاه حليفتها اليونان “عدوة أنقرة”، التى كانت تترأس القارة العجوز آنذاك، ومن ثم عوضت القاهرة أى خسائر مالية متوقعة جراء حظر التنقيب فى حقل للغاز تمتلك نصفه، مقابل الحصول على دعم سياسى من رأس الاتحاد الأوروبى آنذاك، لتعلن لكل الساعين لضربها، أنها لا تزال قادرة على الصمود..

ذلك هو الغاطس الحقيقى غير المرئى فى الحرب المشتعلة بين القاهرة وحلفائها، وبين أنقرة حاليًا.. ضربات الأولى الصامتة، البعيدة عن التلاسن الإعلامى الذى لا طائل منه، دومًا تحت الحزام، ما أربك بلا شك الجالس على عرش أتاتورك.. إنه هو السر الأكبر فى عداوة أردوغان لمصر.. دعمه للإخوان مجرد كارت يلعب به.. خسارته الأكبر تبقى فى مس نفوذه فى منطقة كان يظن، غرورًا أو جهلًا، أنها حصرية له..

مبتدا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى