الأخبار

من آريتا فرانكلين لبى بى كينج

 

 

80

 

قبل عامين من انتهاء القرن الماضى، وأثناء دراستى الجامعية فى ولاية أوهايو، ذهبت لزيارة العاصمة الأمريكية فى ليلة خريف دافئة. وأثناء التمشى خارج أسوار البيت الأبيض كانت الموسيقى تملأ المكان مخترقة كل الحواجز الأمنية لتسمعنى صوتا نسائيا قويا مصحوبا بموسيقى صاخبة بديعة ومحركة للشجون.

سألت أحد حراس البيت الأبيض عن الصخب والموسيقى القادمة من أهم مركز لصنع القرار فى العالم، فرد قائلا «الرئيس وحرمه (بيل كلينتون وهيلاري) دعوا أصدقاءهم من فترة الدراسة الجامعية لحفل خاص تحيه مطربتهم المفضلة آريتا فرانكلين». لم أكن أعرف آريتا من قبل إلا من خلال أغنية وحيدة أتذكرها من أيام المرحلة الثانوية غنتها دويتو مع جورج مايكل اسمها «أعرف أنك كنت تنتظرني»، إلا أننى قررت منذ تلك اللحظة التعرف على هذه المطربة مدفوعا بما يكنه لها آل كلينتون من كل هذه المحبة. اشتريت لاحقا عددا من أسطوانتها، قرأت عنها واصبحت أحد أعضاء نادى المعجبين بها، ونويت أن أذهب لمشاهدتها فى أى حفلة غنائية يمكننى من خلالها أن أشاهدها وجها لوجه تغنى وتشدو بكلمات أغانيها التى تدعو للتمرد النسائى والمساواة العرقية، وتخرج عن نمط المألوف.

•••

عرفت مشردا homeless أمريكيا من أصول أفريقية اسمه بروس خلال إقامتى بولاية أوهايو. ورغم تشرده يعد بروس موسوعة تاريخية وموسيقية فريدة بالمعايير الأمريكية، وجمعتنى ببروس صداقة تبادلنا فيها المنفعة المعرفية طالما التزمت بمناداته مستخدما لقب أخ Brother. ومن خلال لقاءات طويلة ممتدة تعرف بروس على الشرق الأوسط كما أعرفه، وعرف وأحب مصر بشدة من منطلق القومية الأفريقية بصورتها العميقة. شرح وعرفنى بروس بأساطين الموسيقى الأمريكية التى لم ير منها إلا موسيقى السود الأفارقة، واعتبر ما هو دون ذلك موسيقى أوروبية بيضاء منقحة. وكثيرا ما عبر بروس عن امتعاضه من وصف البعض ألفيس بريسلى بملك الموسيقى والغناء فى أمريكا. وقال إنه بالمعايير الموسيقية هناك ملك وحيد هو حى يرزق اسمه مايكل جاكسون، وأضاف، أما إذا ما أخذنا فى الحسبان التاريخ والتأثير المجتمعى فلا يوجد إلا ملك واحد اسمه «بى بى كينج». كنت أعرف مايكل جاكسون وأعجب بما يمثله من ظاهرة فنية نادرة. إلا أن كلمات بروس دفعتنى فورا للتعرف على ملك الموسيقى الأمريكية التاريخى من خلال الاستماع لأغانيه والقراءة عنه. ثم حضرت عام 2005 حفلا موسيقيا للملك فى ولاية فيرجينيا خارج واشنطن العاصمة، وغنى الملك جالسا طول الوقت بسبب حالته الصحية وشيخوخته الظاهرة حيث كان سنه حينذاك يقترب من الثمانين، إلا أنه لم يترك جيتاره ولو لوهلة.

•••

ولدت آريتا عام 1942 وترعرعت مع موسيقى التراتيل الإنجيلية، فقد كان والدها قسا فى إحدى كنائس مدينة ديترويت. وتحتل آريتا فرانكلين مركزا مرموقا كمغنية استثنائية امتدت سيرتها الفنية على مدى ستة عقود. حملت أريتا معها خبرة غناء التراتيل الإنجيلية لتى أثرت على أدائهما الموسيقى، وطورت أسلوبا عاطفيا، متألقا، جريئا وقويا وخاصا بها. وكانت قوة أدائها تنقل أغانيها إلى مكان أبعد من عالم الحب والغرام إلى المجالات السياسية والاجتماعية الأوسع خاصة مع سياق أواخر الستينيات من القرن العشرين، عندما كانت حركات الحقوق المدنية والقوة السوداء والحركة النسائية فى أوج نشاطها. من هنا كان من الصعب تجاهل أغنياتها الداعية للثورة والتمرد النسائى فى محاولة للحصول على حقوق متساوية للنساء خاصة السود منهم ممن واجهوا تحدى التهميش مرتين كونهم نساء ذوى بشرة سوداء. رغم أن آريتا فرانكلين لم تصبح شخصية سياسية، فقد قدمت بيانات سياسية واجتماعية قوية من خلال أدائها الغنائى، واطلق عليها بلا منافسة «ملكة السول Queen of Soul».

•••

ولد كينج لأبوين مزارعين عام 1925 وعاش ليرى الموسيقى البكر التى ولدت فى أحضان حقول القطن فى مناطق الجنوب والتى يغنى بها المزارعون السود من العبيد المعزولين عن العالم، لتصل لجمهور لا يقتصر على الأمريكيين البيض بل لكل العالم. وذكر كينج فى سيرته الذاتية «أن تكون مغنى بلوز فإن ذلك يشبه (أن تتحمل وطأة) كونك أسود مرتين»، فى إشارة إلى التفرقة العنصرية ضد السود. وذكر كينج أنه «فى الوقت الذى كانت فيه حركة الحقوق المدنية تكافح من أجل المساواة للسود كنت أشعر أننى أكافح من أجل كسب الاحترام للبلوز كموسيقى جديدة». وطور كينج نغما وموسيقى بطرق مختلفة لم يسبقه إليه أحد. ويعد كينج من أفضل من عزفوا على الجيتار فى التاريخ الموسيقى.

وموسيقى البلوز، إضافة للجاز، تعد وثيقة الارتباط بالتاريخ الأمريكى وبحركة الحقوق المدنية، وتعد هذه الموسيقى من أهم إسهامات الأمريكيين فى التراث الموسيقى العالمى. ويرجع أصل كلمة «بلوز» blues إلى عبارة «ممسوس بالعفاريت الزرق» أو تعنى الشخص الواقع تحت سيطرة العفاريت التى تسبب الإحباط واليأس والحزن. واستخدمت موسيقى البلوز والجاز كصور للتعبير عما يجيش بصدور من شعروا بالظلم والاضطهاد خاصة فى الاعوام الأولى التى عاش فيها السود عبيدا فى أمريكا بعد هجرتهم القسرية إليها.

•••

أخيرا وقبل عشرة أيام حضرت حفلا موسيقيا صاخبا للملكة آريتا فرانكلين، وسعدت بصحبة أصدقاء مصريين لم يعرفوا الملكة من قبل، وبعد الحفل تحدثت معهم سريعا عن الملك وتجربة بى بى كينج، إلا أنه وبعد أقل من يومين توفى ملك الموسيقى عن 89 عاما. نعى الرئيس الأمريكى باراك أوباما أسطورة موسيقى البلوز بى بى كينج فى بيان رسمى، وقال أوباما «ربما رحل بى بى كينج، ولكنه سيظل معنا إلى الأبد، وستشهد السماء الليلة معزوفة رائعة من موسيقى البلوز».

 

الشروق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى