الأخبار

الرجالة لما تكبر

3

 

استيقظت الساعة الرابعة صباحًا على رنين تليفون المنزل، رنين مستمر ينقطع ثم يعود، كنت بمفردى، فابنى وابنتى متزوجان، وفى منزليهما، وزوجى سافر فى رحلة عمل يومين، السيدة التى تساعدنى فى المنزل، تنام فى مكان أبعد من أن تسمع رنين التليفون.

أسرعت للرد وأنا أسمع دقات قلبى وأقول لنفسى لعل أحدا أخطأ فى الرقم، ومطمئنة لأن أولادى وزوجى يتصلون بى على الموبايل، وقلما يتّصلون على تليفون المنزل. وجدت صوت سيدة تردد اسم زوجى، وتتكلم سريعًا، دون أن أفهم ما تقول، استوقفتها، وطلبت منها أن توضّح كلامها، قالت إن زوجى توفّاه الله عندها فى المنزل، وباللفظ “تعالوا خدوه”!

اعتقدت أنها تمزح، أو أنها معاكسة سخيفة، لكنها عادت تردّد اسمه، فسألتها من هى ومن تكون، أجابت أنها زوجته الثانية!

طلبت منها العنوان وأغلقت الهاتف، يا الله، لقد شلّ تفكيرى وأصبحت عاجزة عن الكلام والحركة، وقلت ربما تكون كاذبة، لكن ماذا لو كان واقعا لا خيالا؟! كان لا بدّ أن أتصل بأولادى، قلت لهم إنى مريضة وأريد أن أذهب إلى مستشفى حالًا، وفعلًا جاءوا مسرعين، ووجدونى جالسة بجوار التليفون، لم أتحرّك من مكانى، فأخذوا ينظرون إلىّ، فأخبرتهم بما حدث.

ابنى قال إنها كاذبة وسيذهب بمفرده ليتأكد من هذا الحديث، لكنى رفضت خوفًا عليه، وصممت أن نذهب جميعًا، وأكدت ضرورة الاتصال بطبيب، لنتأكّد من أسباب الوفاة. وصلنا العنوان الذى أعطته لى. عمارة جميلة فى شارع رئيسى بالدور الثامن. فتحت لنا سيدة فى أواخر الثلاثينات، قريبة فى العمر من ابنى الكبير، شقة كبيرة مفروشة بأثاث فاخر، أشارت لنا إلى غرفة، فدخلت أنا وأولادى وزوج ابنتى لنجد زوجى فى فراشها يرتدى “بيجامة ستان” زرقاء اللون، وقد فارق الحياة!

كنا ننظر إليه ولا نستطيع حتى البكاء، انهارت ابنتى، وكنت لا أتكلم، جلسنا فى انتظار الطبيب، وفجأة سمعنا بكاء طفل رضيع، أحضرته السيدة وقالت لابنى “أخوك”.

فقد ابنى أعصابه، وكاد يضربها، فمنعته خوفًا عليه، فأخذ يهذى بكلمات ينفطر لها القلب، وتنزف لها العين. جاء الطبيب وأقرّ أنه توفى بذبحة صدرية، وهذا ليس غريبا على مريض بالقلب منذ عشر سنوات. اتصل ابنى بأعمامه وخيلانه، وأعطى لهم العنوان، وهم فى ذهول، وصممت ألا يدفن فى مدفننا، وإنما لدى عائلته. أتممنا كل شىء، وعدت إلى منزلى، فسألوني عن ميعاد العزاء والنعى فى جريدة رسمية، فكانت إجابتي واضحة: لن يكون هناك عزاء ولن أكتب نعيا.

دخلت غرفتى واوهمتهم أنى نائمة، لكنى كنت أريد الانفراد بنفسي، لأكلّمها وأذكرها بالماضى البعيد، بأول يوم قابلت فيه زوجى، أنا ابنة رجل أعمال غنى وميسور، جاء زوجى ليعمل فى مدينتنا، وهو لا يملك أى شىء، توسّم أبى فيه خيرا، وكان يقول إن عقليته ممتازة.

أحببته، وبادلنى نفس الشعور، فوافق أبى على زواجنا، وأنا ما زلت طالبة، وكنت فاتحة الخير عليه، تقدّم فى شغله، وأصبح له عمله الخاص، واستطاع أن يسافر إلى الخارج عامين، فانتعش عمله أكثر، وكنت قد أنجبت ابنى. هناك تعرف إلى رجال أعمال ساعدوه على الدخول فى مجالات أوسع، ونقلوا أعمالهم إلى مصر، وبعد عودته بشهرين، جاءت وراءه سيدة من الخارج، وقالت إنها زوجته، وعندما علمت، طلبت الطلاق وتركت المنزل، لكنه طلّقها، وعادت من حيث أتت، واعتذر لى ولوالدى الذى أقنعنى أنه أخطا وعاد، وطلب منى ألا أخرب بيتى من أجل نزوة.

ودارت الأيام وزوجى من نجاح لنجاح، زاد ماله فأصبح من الأثرياء، وكنت حامدة وشاكرة فضل الله، اهتممت به، وبأولادى، لكنه لم يكن يرضى، دائمًا هل من مزيد. كنت ربّة أسرة وأتميز بالاحترام، لكنى كنت امرأة معه، لم أهمله، ولم أهمل نفسى، ولم أفعل، ولدى من يساعدنى وكذلك المال؟

كان عمله حياته، فأخذ يوسّع فيه، والله يرزقه بالمال من حيث لا يحتسب، والحياة تسير، لكنه مرض بقلبه، ويعلم الله أنى كنت أرعاه، وأخاف عليه. لكن أحيانًا يكون المال نقمة، فعندمًا كان فقيرًا لم ينظر إليه غيرى، لكن عندما أصبح من الأثرياء، أحبّته أمة لا إله إلا الله فجأة، وأصبح حلم كثيرين من راغبات الزواج، حتى لو كان فى عمر أبيهم، فالغنى له بريق، فتتمتع فى حياته وترثه بعد وفاته والحياة تحمل الكثير.

وصل أولادنا سن الزواج، وتزوّج ابنى من بنت جميلة وأسرة محترمة، وأحبت ابنتى زميلا لها، لا يصلح، لكنه زوجها له رغم اعتراضى، والآن تعانى فى حياتها وهى ما زالت فى البداية!

حياتنا كانت تسير رغم انشغاله بعمله ومرضه، وكنّا أسرة لها ما لها وعليها ما عليها، لكننا نتمتع باحترام من حولنا، كنت كثيرًا أشك فى تصرفاته وأتكلّم معه، ألاحظ نظراته، لكنى لا أتوقف كثيرًا وأقول “هى الرجالة كده لما بتكبر”، كان يسافر كثيرًا بحكم عمله، وأحيانًا كنت أسافر معه، وفى أوقات كثيرة كان يرفض، وبعد مرور سنوات طويلة من الزواج، تتحول العلاقة إلى صداقة ومودة وحياة داخل الحياة.

أكتب إليكم اليوم وقد مرّ شهر على وفاته، فقد اختار رفيق العمر أن يموت بعيدًا عنى، أن يموت فى فراش غير فراشى، وفى بيت غير بيتى!

لقد تزوّج ولم يرتكب حراما، لكنه لم يراع ربه فىّ!

لماذا لم يخبرنى ويترك لى الخيار؟

هل لو فكر لحظة أنه من الممكن أن يرحل بهذه الطريقة، وأنه سيترك داخلنا كل هذه المرارة، كان سيفعل ما فعل؟

لم أرتدى ملابس الحداد عليه، بل لبست ألوانا مبهجة، لم أتقبّل فيه عزاء، ولم أنتظر مرور شهور العدة للخروج والدخول. أحيانًا أشعر أنى نسيت معالم وجهه ونظرة عينيه، فالغضب يكون بمقدار الحب والسنين.

لقد استطاع أن يكون مع غيرى، أما أنا فلا أستطيع أن أكون مع غيره، لكن أستطيع أن أعيش وحدى، فقد استباح عمرى وشبابى وانتهت صلاحيتى فى قلبه، لو كان قد صارحنى، لرحلت فى هدوء، وقدّرت صراحته.

تألّمت فتعلمت، ضحكت فبكيت، أحببت فكرهت، لكنى ما زلت أعيش.

فريدة دياب
مواليد برج الأسد ، أغسطس 1980
الدراسة: قسم فلسفة وعلم نفس – كلية الآداب – جامعة القاهرة
العمل: علاقات عامة
للمراسلات : [email protected]

 

مبتدأ

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى