الأخبار

توبة الشعراوى

31

 

 كما نذكر قبل ثلاثة عقود ظاهرة دعوة الممثلين والممثلات للتوبة، بقيادة الشيخ الشعرواي، وكأن هذا مجال الجهاد الأكبر بنظره، و كانوا يروجون لتوقف إحداهن عن التمثيل وكأنه نصر للإسلام في حرب فعلية. مثلما عاد أحدهم مؤخرا ليطالب بمنع الباليه، ليجدد خط التحريم الذي تعرفه الساحة المصرية الفنية منذ عشرينات القرن العشرين، حين شهدت مصر معركة رأي عام حول تجسيد الفنان “يوسف وهبي” لشخصية النبي محمد في فيلم للمخرج التركي “وداد عرفي”،


يوسف وهبى

وكان صاحب الاقتراح “مصطفي كمال أتاتورك” مؤسس تركيا الحديثة، وتم تداول القضية علي صفحات المجلات والصحف، وفي أروقة الأزهر، ودواوين الحكومة كما ورد في كتاب “أيمن الحكيم” (“الفن الحرام” ــ تاريخ الاشتباك بين السلفيين والمبدعين)، وقد هدد شيوخ الأزهر “يوسف وهبي” في 1926 بتكفيره إذا قام بأداء دور النبي في الفيلم التركي، وخاطب الأزهر وزارة الداخلية يحرضها علي منع يوسف وهبي بالقوة، والعجيب أن وزارة الداخلية تدخلت للضغط علي وهبي، وأفلحوا في محاصرته، واضطروه للتراجع، والمدهش أن مجلة “المسرح” الفنية كانت أول من فجَّر القضية، وهاجمت الفيلم بقوة، وحرّضت الأزهر والمجتمع على الفنان، وكانت نتيجة هجومها إيقاف الفيلم في تركيا بالرغم من أن أتاتورك كان يهدف من ورائه منافسة السينما العالمية وقتها.


مصطفى كمال أتاتورك

وغير بعيد عن هذا الحدث، نشبت معارك أخرى بين التشدد والفكر، مثل مسألة كتاب “الإسلام وأصول الحكم” الشهيرة بين مؤلفه الشيخ “علي عبدالررازق”، والأزهر، وكتاب “في الشعر الجاهلي” لـ” طه حسين”، ليتراوح خط التحريم من وقتها بين صعود وهبوط، في ملاحقة الفنون، ويأبي إلا أن تكون له امتداداته وتشعباته في كل العصور، فلا يعدم مجتمعنا من وقت لآخر من يفتعل معركة باسم الدين مع فنان ما، وربما كان أشرسها مبادرة الشيخ “عبدالحميد كشك” بالهجوم علي رموز الفن الكبار وقتها، في محاولة مكشوفة وفَجَّة لهدم الرموز الكبرى، حيث قام بشتم “أم كلثوم” في أحد دروسه التي كانت تُسجِّل علي أشرطة توزع بعشرات الآلاف في أنحاء مصر.
حيث قال عنها حسب الذاكرة: امرأة ذات سبعين ربيعا تقول خذني في حنانك خذني.. خدك ربنا يا شيخة”، ومثل ذلك فعله مع “عبدالحليم حافظ”، الذي أسماه “الرجل القرموط” لأنه يتنفس تحت الماء، ساخرا من أغنيته “رسالة من تحت الماء” وهي قصيدة لـ”نزار قباني”، وكذا حين غني “محمد عبدالوهاب” “من غير ليه” في 1989، فاستصدر محام شاب فتوى من الشيخين “صلاح أبوإسماعيل” والد “حازم أبواسماعيل”، و”عبدالحميد كشك”، باعتبار  “عبدالوهاب” خارجا عن المِلَّة، بسبب كلمات الأغنية التي كتبها “مرسي جميل عزيز” في وقت سابق لـيغنيها “عبدالحليم حافظ” في ربيع 1977، لكنه مات في العام ذاته، ولولا أن القضاء أنقذ “عبدالوهاب” من التهمة بشهادة “الشيخ المشد” رئيس لجنة الفتوى بالأزهر آنذاك، لتفاقمت الأمور في اتجاهات مؤلمة.


نور الشريف

ــ وهو ما مارسه الأزهر نفسه ضد مسرحية “الحسين ثائرًا” للكاتب “عبدالرحمن الشرقاوي”، والمخرج “جلال الشرقاوي”، ودفع الحماس “نور الشريف” لإعلان استعداده للتعهد كتابيًا باعتزال التمثيل بعد هذا الدور، لكن الأزهر أصر على رفض إِجَازتها بحُجة سياسية، وليست دينية كما قيل وقتها.

الشيخ كشك

كما فعلها الأزهر في وقت سابق مع سيناريو فيلم “المهاجر” ليوسف شاهين.
ـ ومن آخر حلقات هذه السلسلة الطويلة، الحكم على الفنان “عادل إمام” بالحبس بتهمة ازدراء الأديان، لكن القضاء نجّاه من اتهاماتهم،


عادل امام

كما أنصف “إلهام شاهين” ضد “عبدالله بدر” الذي سبها باتهامات وألفاظ قاسية، والممثل الشاب “محمد رمضان” الذي اشتهر باسم “عبده موتة” هو آخر من لاحقوه بمثل هذه الاتهامات، وظني أنه لولا نجاح الموجة الثانية من الثورة (30/6/2013)  في اقتلاع نظام الإخوان من سُدَّة الحكم، لكنا شهدنا مجازر ضد الفنون والمبدعين عامة، وربما كانوا أسسوا “لافتكاستهم” ــ أي الشئ المفتعل بالعامية الشعبوية ـ التى سمعنا عنها ولم نشهد منها شيئا، وهي “الفن الشرعي”، الذي يبدو أنه جزء من مشروع النهضة الوهمي.


الهام شاهين

ـ كل هذه الأحداث، بامتداد خط التطرف المتجدد من آن لآخر عبر تاريخنا، يفرضان علينا سؤالا مهما هو: لماذا يُكفِّر الإسلاميون الفكر والمفكرين دائما؟، ويكرهون الإبداع والمبدعين إلي هذا الحد؟.
ـ لكن قبل البحث عن إجابات لهذه الأسئلة، أود التوقف هنا أمام الدور السئ الذي لعبته المؤسسة الدينية الرسمية، وهو “الأزهر” الذي كثر حوله الكلام في الآونة الأخيرة، باعتباره رمز الوسطية والاعتدال، والسماحة، وهذه محل تحفظ كبير، فإن كان هكذا فعلا، فلابد أن ثمّة ازدواجية في طرق التعليم فيه، أو خللا يؤدي إلي تطرف مخيف، وإلا كيف نفسر أن من شنوا الحملات الشرسة علي “طه حسين، والشيخ “علي عبدالرازق”، عمائم أزهرية أمعنت في إخراجهما من الملّة.


يوسف شاهين

وكذلك فإن الشيوخ “محمد الغزالي” و”القرضاوي” و”الشعراوي” و”عبدالحميد كشك” وغيرهم، كلهم من خرِّيجي الأزهر، ومن رفضوا فيلم “النبي” لـ”يوسف وهبي”، و”المهاجر” لـ”يوسف شاهين”، و”الحسين ثائرا” لـ”عبدالرحمن الشرقاوي” هو هيئات الأزهر الرسمية المختصة بالفتوى، وهذا يعطي انطباعا غير مطمئن، لأن وصف الزهر بالسماحة شيئا، بينما يتشدد دائماً تجاه الفكر والفن، وبشكل يخلو من أية سماحة، وهذا سؤال مطروح على من يستطيع العثور على إجابة له، وفض هذه الازدواجية المقلقة.

ـ ويدفعني هذا كله لمحاولة العثور علي أسباب مقنعة لفهم هذا التشدد، والميل للتكفير بسهولة، واستعراض الاحتمالات التي تصلح للإجابة عليه:


الشيخ الشعراوى

ـ أولا: يجب تأمل التأثير السلبي لـ”تراتبية الأمر والطاعة” التي تصنع مُتلقين كطرف أول، يتعلقون بمصادر أبوية كطرف ثانٍ، وبالتراكم يفقدون قدرتهم علي التفكير، ويستنيمون لفكرة انتظار التوجيه، الذي لا يملكون تجاهه غير الطاعة والانقياد.
وبالضرورة يكسبهم تكوينا نفسيا سلبيا راسخا، يؤهلهم لرفض كل ما يخالف ثوابتهم، فلا يستسيغون التفكير، ولا يطيقون من يفكر، لأنه يرهق وجدانهم المستكين.
ـ
ثانيا : ضمن منظومة التلقين منذ الصغر، يتم إحكام السيطرة علي وجدان الأشبال في سنوات التكوين الأولي، وتُسرَّب إليها مفاهيم مشوهة عن كلمات “الفكر والإبداع والمبدعين”، ويتم الإلحاح علي ارتباطها بالمجون والانحلال والاستهانة بالمقدسات، ما يخلق بداخلهم نفورا خِلقيا تجاهها، من دون أن يشعر به حامله، ويتعجب إذا استهجنه أحد.
ـ ثالثا: التركيز على تلقينهم العلوم الدينية ولا غيرها، سواء في الأزهر، أو داخل جماعة الأخوان، أو السلفية، وإتهام كل المصادر الأخرى بمعاداة الدين، وحظر كل الكتب غير الإسلامية، بل وحظر بعض الكتاب الإسلاميين الذين يوصفون بالاستنارة وما إلى ذلك، خشية تشويشهم أذهان الأشبال.
ـ رابعا : تعتمد الكتب الدينية المسموحة على فكرة النقل عن كتب شبيهة سابقة، تخلو من أية أسئلة أو علامات استفهام محيرة، وتعجز حتى عن تقديم أية حلول شرعية للقضايا الآنية، ما يجعلها حلقة في سلسلة إعادة إنتاج منظومة التراث التي تقوم علي الحفظ.
– خامسا : طريقة التربية هذه تجعل التشدد بؤرة تفكيرهم، ومركز تكوينهم النفسي، ما يشعرهم بامتلاك معرفة إلهية يقينية ونهائية، ويرون أي اعتراض علي كلامهم عدوانا شخصيا عليهم، وعلي الدين ما يدفعهم للعدوان وهم موقنون أنهم يدافعون عن دينهم وأنفسهم.
– سادسا: تضخم إحساسهم بأنهم يدعون الناس إلي سبيل الله يوحي لهم بأنهم هُداة البشر إلي الجنة، وخير الآخرة، ما يشعرهم بتميز وأهمية، بل ونرجسية، مما يجعلهم لا يدركون أنهم يفرضون وجهة نظرهم عُنوة على من لا يؤمن بأن دعوتهم إلهية.
– سابعا: تقديس كلام مرجعياتهم الفقهية، وإعلاءها فوق القوانين الوضعية، والحريات العامة، وأي كلام يخالفه، وهو بالضرورة فاقد للشرعية.
– ثامنا : تم تلقينهم منذ صغرهم سهولة الاعتداء علي أي فكر يخالف تعاليم دينهم، وتخويفهم من التفاعل مع المجتمع المدني، فيميلون لتكفيره والاصطدام به.
الحضارات

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى