الأخبار

مذكرات رأفت الهجان بخط يده

136

 

في يوم كهذا قبل 34 عامًا، كان يرقد في سريره ينتظر الرحيل، يكتب بأصابعه المريضة آخر الكلمات عن حياته، تلك التي حفلت بكثير من المغامرات والأسرار التي لم تكن سوى لعبة، بل أخطر ألعاب الدنيا، لم يختر هو أن يلعبها، بل فُرضت عليه، لكنه أتقنها حتى أصبح ملكها، إنها لعبة الجواسيس التي قادته من قلب القاهرة لقلب تل أبيب، ليصبح عينًا لا تنام، تراقب كل شيء وأي شيء في أرض العدو، ويصبح أهم «قطعة» للمخابرات المصرية في لعبة شطرنج، ربما لن تنتهي أبدًا، بينها وبين الموساد، إنه جاك بيتون، أو رفعت الجمال، أشهر جاسوس في تاريخ مصر، إنه من تعرفه أنت باسم «رأفت الهجان».

«المصري لايت» تنشر مذكرات الجاسوس المصري رفعت الجمال على حلقات، كما كتبها هو بخط يده، وحسب روايات زوجته، «فولتراود الجمال»، التي نشرتها في كتاب يحمل اسم «قصة الجاسوس المصري رفعت الجمال.. 18 عامًا من الخداع لإسرائيل»، الصادر عن «دار الأهرام للترجمة والنشر»، عام 1994، وذلك بمناسبة اقتراب ذكرى وفاته في 30 يناير 1982.

بعد مغامرة قصيرة في السينما والمرور بأول علاقة عاطفية مع راقصة تدعى «بيتي»، كان «الجمال» مستعدًا لخطوات أخرى، كما يروي في مذكراته: «أخذت من (بيتي) كل ما يمكن أن يأخذه إنسان، علمتني الكثير، غير أنني أحسست أنه قد حان الوقت لكي انتقل إلى مجال آخر، إذ فقدت الرغبة في متابعة عملي كممثل، وبدأت البحث عن عمل آخر، لأنه بدون ذلك لم أكن أستطيع كسر القيود التي كبلتني بها (بيتي).

وتقدمت بطلب لوظيفة لدى شركة بترول أجنبية على ساحل البحر الأحمر، واختاروني على الرغم من كثرة عدد المتقدمين، وتسلمت العمل فورًا، ومن المؤكد أنه ساعدني في هذا أنني كنت أتحدث الإنجليزية والفرنسية بطلاقة، وانتقلت إلى رأس غارب، التي تقع على بعد 150 ميلًا جنوب السويس.

حاولت أن أنسى الماضي، وعملت بدأب وجد قدر استطاعتي في وظيفتي كمحاسب، وبقيت هناك لمدة خمسة عشر شهرًا، وتعلمت فيها كل ما يمكن تعلمه عن أعمال صناعة النفط وأقمت علاقات مع كثيرين من مهندسي النفط البريطانيين والأمريكيين».

جهود الشاب رفعت الجمال في الهروب من الماضي ربما كانت تؤتي ثمارها، حتى لحظة بدا أن كل ما فعله على وشك الذهاب في مهب الريح: «في خريف عام 1947، قرر رئيسي نقلي إلى المركز الرئيسي في القاهرة، غير أنني عزمت على رفض الترقية، لأنني كنت أخشى الحياة قريبًا من أسرتي، خاصة أختي نزيهة وأبناءها، إذ كنت أعرف أنني لن أحتمل أن أعيش قريبًا منها ولا أستطيع أن أراها.

وكنت قد تعرفت على أحد رجال الصناعة من الإسكندرية اعتاد أن يتردد كثيرًا على السويس لأعمال تجارية، وحاول مرارًا وتكرارًا أن يشدني للعمل في شركته التي تعمل في الكيماويات، وما أن حانت الفرصة للقائه حتى سألته عما إذا كان العرض الذي قدمه لا يزال قائمًا أم لا.

سره سؤالي ورد بالإيجاب، وانتقلت معه إلى الإسكندرية، ولأول مرة منذ أن خرجت من شقة سامي منذ خمس سنوات مضت وجدت في هذا الرجل وأسرته بديلًا لأسرتي، وقررت أن أضرب بجذوري في الإسكندرية، فالدفء والحب الأبوي اللذين حرمت منهما وجدت لهما بديلًا مضاعفًا هنا، فقد أبدى رئيس شركة الكيماويات رضاه البالغ عن عملي وشخصي حتى أنه رقاني وعاملني كأب لي، وزرت أسرته مرات وتعرفت على ابنته هدى».

ثمة علاقة عاطفية جديدة كانت تلوح في الأفق بالنسبة لـ«الجمال» لكن ما بدا بشكل سلس كان سرعان ما سيتعقد وبشدة: «اعتدت أنا وهدى أن نلتقي بين حين وآخر ونذهب معًا إلى السينما، وعرف رئيسي ذلك ولم يعترض، بل على العكس شجع علاقتنا وأفهمني أنه يرى في الابن الذي حرم منه، وحفزني هذا في المقابل على التفكير في إكمال تعليمي والانتساب إلى الجامعة.

لكن القدر أراد لي شيئًا آخر، فبعد عيد ميلادي الثاني والعشرين بقليل طلب مني رئيسي في العمل السفر إلى فرع الشركة في القاهرة لأنه غير مطمئن إلى المدير هناك، وطلب مني أراجع عمله، وسافرت إلى القاهرة حاملًا معي هدايا لأختي وأبنائها.

وعلى الرغم من شعوري ببعض الاكتئاب حين يعاودني التفكير في الماضي، ولأن أمي ماتت في دكرنس بينما كنت أعمل في رأس غارب، إلا أنني شعرت إيضًا بالفخر لأنني أعود لأختي وأنا رجل أعمال ناجح ومحترم.

فحصت دفاتر الحسابات في فرع الشركة بالقاهرة، وراجعت كل شيء آخر فيه، لم أجد أي شيء غير عادي، بل راجعت أيضًا رصيد النقدية، ووضعت الرصيد في الخزانة وأغلقتها دون أن أدري أن مدير الفرع معه مفتاح ثان للخزانة. واكتشفت في اليوم التالي ضياع مبلغ ألف جنيه مصري، وحيث أنني من الناحية الرسمية كنت الوحيد الذي يحمل المفتاح، فقد بات واضحًا أنني سرقت النقود، واتصل مدير الفرع برئيس الشركة في الإسكندرية وأبلغه أنه قد تم العثور على النقود في غرفتي بالفندق، وذلك محض كذب».

تورط «الجمال» في رحلته القصيرة إلى القاهرة، لكنه لم يهرب هذه المرة، وأوضح في مذكراته: «خجلت من جريمة لم أرتكبها وعدت إلى الإسكندرية، ولكن سرني أن رئيس الشركة قال لي إنه يصدقني، وإنني ضحية دهاء مدير الفرع، ولكن رئيس الشركة لم يستطع الإبقاء علي في وظيفتي تجنبًا لإجراء أي تحقيقات رسمية، ورتب لي فرصة الالتحاق بعمل جديد لدى صديق له يدير خطًا ملاحيًا، صدمت ولكن لم يكن أمامي خيارا آخر.

بدأت عملي كمساعد لضابط الحسابات على سفينة شحن اسمها (حورس)، وبعد أسبوعين كنت على متن السفينة لأغادر مصر لأول مرة. طال سفرنا، وتقوقعت على نفسي غير مصدق أنني أبحر بعيدًا عما أردته لنفسي. توقفنا في نابولي وجنوة ومارسيليا وبرشلونة وجبل طارق وطنجة، ثم بعد ذلك وصلنا إلى ليفربول.

وفي ليفربول أدخلت السفينة إلى الحوض الجاف، لعمل بعض الإصلاحات، وكان من المقرر أن تتجه بعد ذلك إلى بومباي، وحيث أنه كان من المقرر أن نظل وقتًا طويلًا في انجلترا، فقد بدأت مغامراتي لاستكشاف المنطقة داخل ليفربول وحولها، وذات ليلة وأنا في مرقص قابلت فتاة اسمها جودي موريس».

وكان المرقص شاهدًا على ولادة علاقة عاطفية جديدة لابن دمياط: «ذكرتني بـ(بيتي)، رقصنا معًا وقضينا أمسية رائعة، أحببتها ومارست معها كل ما تعلمته من بيتي، وقعت (جودي) في غرامي، ومنذ ذلك الحين أصبحنا نقضي معًا كل لحظة تكون فيها بلا عمل، ورحب بي أبوها، الذي كان شخصية نقابية هامة ورئيسًا للعمال في الأحواض الجافة، ودعاني لزيارتهم في البيت، وأمضيت معهم وقتًا رائعًا.

عندما تهيأت (حورس) للسفر إلى الهند بكت (جودي) بحرقة، وتوسلت إلي ألا أسافر، ولم أكن أنا أيضًا متحمسًا للسفر إلى الهند، غير أنني لم أكن أريد أن أفقد وظيفتي، ولا أن أبقى في انجلترا بطريقة غير مشروعة، ولكن (جودي) أوضحت لي أن كثيرين من البحارة يضطرون إلى استئصال الزائدة الدودية، ومن ثم يتخلفون عن السفر، وينتظرون إلى أن تعود سفنهم مرة ثانية إلى ليفربول ليلتحقوا بها، وأخبرتني أن أباها يمكنه مساعدتي في الحصول على تصريح إقامة.

قالت وفعلت، وادعيت أنني أعاني ألمًا حادًا تم تشخيصه على أنني مصاب بالتهاب الزائدة الدودية ويتطلب إجراء جراحة فورًا، وعقب إجراء العملية خرجت لأكون في رعاية (جودي)، وبعد أن شفيت بدأت أعمل مع والد (جودي) في الميناء، بعد أن رتب لي تصريحًا بالعمل.

وخلال هذه الفترة، قابلت قسًا طلب مني أن يعرف كل شيء عن الإسلام، واتفقنا سويًا أن أعلمه كل ما أعرفه عن الإسلام، ويعلمني هو في المقابل كل ما يعرفه عن المسيحية، وأسعدني أن تتاح لي فرصة أن أقدم بعض معلوماتي وأن أتعلم شيئًا جديدًا، غير أنني لم أكن مستعدًا للتخلي عن إيماني بديني، ولم تعبأ (جودي) بذلك، إذ كان كل ما تريده هو أن تتزوج مني أيًا كانت عقيدتي، وحين تأملت أحوال أسرتها وأحوالها وتدبرت أمري أيقنت أنها لا تصلح لي كزوجة، ولذلك، فإنه ما أن عادت (حورس) حتى ودعتها وصعدت إلى السفينة عائدًا إلى مصر، وودعتني (جودي) وهي تقول إنها سوف تنتظرني، ولكنني كنت على يقين من أنه لا أمل من ذلك».

 

المصري اليوم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى