الأخبار

البرلمان القادم رجعى

17

 

فاجأتنا «لجنة الخمسين» المكلفة بوضع الدستور، فى 18 نوفمبر الجارى، بقرار كان صدمة للقوى التقدمية المصرية، وإن لم يكن غير متوقع! فكما ركب الإخوان المسلمين ثورة 25 يناير بعد أسبوعين من قيامها، الآن تسرقها الرجعية!

لقد ألغت «لجنة الخمسين» بكل بساطة- نسبة الـ50٪ المقررة للعمال والفلاحين فى المجلس النيابى. وقد شعرت على الفور بالتناقض الصارخ بين روح الثورة التى قام بها الشعب فى 25 يناير، لتحقيق مبادئ العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، وبين تداعيات هذه الثورة، بالقضاء على آخر المكتسبات الشعبية، وهى حقوق العمال والفلاحين فى أن يُمثلوا فى البرلمان بنسبة دورهم فى المجتمع وفى العملية الإنتاجية.

إن الموضوع كله طبقى، وإن «لجنة الخمسين» بإلغائها نسبة تمثيل العمال والفلاحين فى البرلمان والمجالس الشعبية بعد 50 عاما من إقرارها- إنما تعود بنا إلى ما قبل ثورة 23 يوليو 1952. وأصبح يبدو لنا كما لو كانت ثورة 25 يناير هى خطوة إلى الوراء، وهذا مستحيل! فإن تعريف الثورة الشعبية يتضمن دائما التغيير الجذرى إلى الأمام.. إلى التقدم.. إلى تحسين ظروف المعيشة بالنسبة للشعب.. إلى مزيد من المشاركة السياسية للعناصر المهمشة.. إلى تولى الشعب مهمة الحصول على حقوقه المفقودة فى النظام القديم.

وباختصار: فإن منطق الثورة هو أن تؤدى إلى نوع من الديمقراطية المباشرة، ووعى المواطنين بمصالحهم، واستبشار إمكانية تحقيقها.

وهنا أتساءل عن طبيعة المجتمع المصرى: هل تقدم، ونما اقتصاديا إلى الحد الذى تحقق به مجتمع الرفاهة، فارتفعت مستويات المعيشة، وشمل التعليم كل المصريين، وارتفع الوعى السياسى والمستوى الثقافى بينهم، وتحقق تكافؤ الفرص والعدالة للجميع، بحيث نقدم على إلغاء نسبة الـ 50٪ تمثيل العمال والفلاحين فى البرلمان؟!

لقد دخل العمال والفلاحون المعترك السياسى الرسمى لأول مرة بنسبة 50٪ فى المؤتمر الوطنى للقوى الشعبية، برئاسة جمال عبدالناصر فى 1962 (محاضر اجتماعاته على موقع: www.nasser.org). ناقشوا الرئيس على قدم المساواة، وعرضوا مشاكلهم، وهم الأقدر على ذلك. وأثبتوا فعلا أن صاحب المصلحة هو الأصلح فى التعبير والدفاع عنها، وشاهد على ذلك برلمانات ما قبل ثورة 23 يوليو 1952- وآخرها برلمان الوفد فى يناير 1950- التى خلت من تمثيل طبقة العمال والفلاحين المقهورة.

وهنا أتساءل بعد قرار «لجنة الخمسين» المغرض: أين للعمال والفلاحين- فى غياب نسبة الـ 50٪- بالأموال التى تضمن لهم كرسيا واحدا فى البرلمان؟! وقد رأينا فى الانتخابات السابقة التى أتت بالإخوان إلى الحكم، كيف لعب المال الدور الحاسم فى انتخابات جرت فى بلد 41٪ من سكانه تحت وحول مستوى الفقر، طبقا لإحصاء الأمم المتحدة!

كيف يمكن إذن أن يُسمع صوت العمال والفلاحين؟!

إن العامل الحاسم فى تكوين أى مجلس نيابى هو الطبقة، فهى التى تحدد توجهه، ولمصلحة من تصدر قراراته. ومن هنا أرفض كوتة المرأة أو الطوائف والأديان المختلفة، فالطبقة تجب كل ذلك، والصراع الطبقى هو السمة الأساسية فى المجتمع المتخلف، الذى تتفاوت فيه الفوارق بين الطبقات بشكل لا إنسانى، لا يمكن قبوله. إننا أصبحنا مجتمعا تتركز فيه الثروة فى يد قلة محدودة، مجتمع سُحقت فيه الطبقة الوسطى التى هى عماد التقدم والنمو والتحضر، مجتمع أغلبيته من العمال والفلاحين والفقراء.

هذا هو واقعنا الأليم الذى يجب ألا نغض الطرف عنه، ونتجاهله.

هذا هو ما دفع الشعب للثورة، والخروج إلى الميادين بالملايين، يستوى فى ذلك العاطل الذى يبحث عن عمل بلا جدوى، وربة المنزل التى لا تستطيع أن تعيش حياة كريمة، والذين مازالوا ينتمون إلى الطبقة الوسطى التى تجسد آمال المجتمع و… و… و… إلخ.

إن التطلع إلى التغيير للأحسن هو الذى قاد إلى كل هذا، وليس الانتكاس إلى الخلف الذى قامت به «لجنة الخمسين»!

إن السلطة التشريعية إذا لم تعبر عن واقع مصر، فلا يمكن أن تكون إلا أساسا لديمقراطية زائفة عانينا منها طويلا.

إن تعريف الديمقراطية فى الموسوعة البريطانية: «الحكم الذى يمارس فيه مجموع المواطنين مباشرة حق اتخاذ القرار السياسى طبقا لحكم الأغلبية». وهنا نتساءل: من هم الأغلبية فى مصر؟ إنهم العمال والفلاحون والفقراء. هل يستطيع أى من هؤلاء أن يصل إلى البرلمان دون نسبة 50٪ عمالا وفلاحين؟ بالطبع لا!

إن الديمقراطية السياسية إذا لم تقترن بالديمقراطية الاجتماعية، أى تحقيق العدالة الاجتماعية التى نادت بها ثورة 25 يناير، فهى ديمقراطية شكلية كالتى عاصرناها فى الأربعين عاما الماضية.

وحتى نقيّم القرار المتخاذل الذى أصدرته «لجنة الخمسين» فى حق عمال وفلاحى مصر، نتساءل: لماذا أصلا وُضعت نسبة 50٪ عمالا وفلاحين؟

بعد أن استقر الفكر أن إقامة العدالة الاجتماعية تعنى تكافؤ الفرص، وحق الطبقة الفقيرة أن ترتقى إلى مستوى أعلى، بوسائل لا تقوم على الإرث والمال، وإنما بالتعليم والقدرات الشخصية، جرى التساؤل: من الذى سيقف أمام تحالف رأس المال وديمقراطية، بل ديكتاتورية الرجعية، إن لم يكن العمال والفلاحون والطبقة الوسطى التى نزلت نسبة كبيرة منها إلى مستوى الفقر؟!

لقد كانت ثورة 25 يناير تعبر قبل كل شىء عن الطبقة المحرومة فى مصر- وهم أغلبية شعبنا- وكان ذلك واضحا من مبادئها: «عيش، حرية، كرامة إنسانية»، وإن كانت كلمة «عيش» تهز بدنى من التأثر! إننا فى القرن 21، حيث التقدم التكنولوجى فى العالم، وكان لنا نصيب منه فى زمن الخمسينيات والستينيات، ومازلنا نثور لنطالب بأقل معوزات الحياة وحقوق الإنسان: «عيش، كرامة إنسانية»! إننى لأشعر بالخجل حقا!!

إذن، ألا ينبغى أن نعترف بأن الطبقة الشعبية يجب أن تكون عاملا فعالا فى تكوين برلمان الثورة؟!

وأعود، فأقر أن فى مصر صراعا طبقيا ظاهرا وخفيا ينبغى الانتباه إليه، وعمل حسابه، ومعالجته لا تخطيه. وإن ذلك لا يتأتى إلا بأن تمثل الطبقات العاملة والمحرومة فى البرلمان، حيث تتم معالجة مشاكلها بالمناقشات السلمية، وتصدر بشأنها القرارات السياسية لحل هذه المشاكل، والتى تحكم حياة جميع المصريين وليس قلة مميزة منهم.

ما الضرر فى أن يكون للعمال والفلاحين 50٪ من مقاعد البرلمان؟ ألا يكفى الطبقة الغنية نسبة الـ50٪ الأخرى؟! بالإضافة إلى المتسرب من نسبة العمال والفلاحين؟! وماذا «تكيد» الطبقة الغنية لهذا الشعب؟! وهل هذه خطوة لسلب العمال باقى مكتسباتهم والأمان فى حياتهم- أعنى قانون منع الفصل التعسفى، والتأمينات الاجتماعية، والتأمين ضد البطالة، وتحديد عدد ساعات العمل بسبع ساعات، و25٪ من الأرباح، والاشتراك فى الإدارة؟!

لقد تعللت «لجنة الخمسين» فى قرارها غير العادل بتجاوزات تطبيق هذه النسبة فى الأربعين عاما الماضية، ولكن ذلك لا ينسحب على القاعدة نفسها، فالمحك هنا هو وضع الضوابط والضمانات التى يصعب تجاوزها.

وقد عرّف عبدالناصر العامل بأنه هو من ينتسب أو له حق الانتساب إلى نقابة العمال. والفلاح هو العامل الزراعى، أو المالك الذى يملك ما لا يزيد على 25 فدانا.

إن «لجنة الخمسين» هذه تذكرنى بما قرأته عن «لجنة الثلاثين» التى وضعت دستور 1923، والتى ثار الزعيم سعد زغلول على تشكيلها المعيب، حيث نادى بضرورة انتخاب أعضائها، بدلا من تعيينهم من قبل الملك فؤاد، وأطلق سعد حينئذ على هذه اللجنة اسم «لجنة الأشقياء» وقاطعها!

لقد حان الوقت أن يدافع العمال والفلاحون عن حقوقهم ومكتسباتهم التاريخية التى حصلوا عليها بعد ثورة 23 يوليو 1952، وسُلبت منهم مرة فى التطبيق، بالتحايل على تعريف العامل والفلاح، وأخيرا بقرار «لجنة الخمسين». وأدعو أن يكون ذلك بالمناقشات البناءة داخل نقاباتهم وتجمعاتهم المهنية، ثم رفع طلباتهم المشروعة إلى رئيس الجمهورية.

نحن فى حاجة إلى تعامل مجتمعى سلمى يجد حلا لقضية الصراع الطبقى فى مصر دون اللجوء إلى العنف، ويواجهها بوعى وطنى، وبتفكير علمى نظرى وتطبيقى. وإن كنت أدرك تماما أن الأمر كله يتوقف على النظام السياسى، وهل هو مستعد أن يحتضن العمال والفلاحين والفقراء، أم يتجاهلهم كما فعل نظام مبارك، فتؤدى الإشكالية إلى ثورات عدة مستقبلة!

ومما زاد أيضا فى التناقض بين مبادئ ثورة 25 يناير، والواقع السياسى الأليم الناتج عنها- هو قرار تحديد الحد الأدنى والأعلى للدخل. إنه تقنين للطبقية، واستهانة بالكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية، إنه يدعو للرثاء، 35 ضعف الفارق بين الحدين! وحجة الحكومة، الخوف من أن تهرب «الكفاءات» إلى القطاع الخاص! وفى تقديرى فليُدفع هؤلاء دفعا إلى خارج الحكومة، فبلدنا مليئة بالكفاءات التى لا تجد لها مكانا، وإن حدا بنا الأمر إلى تدريب التخصصات الناقصة حتى فى الخارج، كما نفعل بالنسبة للجيش!

أين العدالة؟!

يجب إعادة النظر فى الحد الأعلى لدخول الحكومة؛ طبقا لقاعدة العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص، وهى من أهداف ثورة 25 يناير، وننهى هذه المهزلة الجديدة

 

لقد كنا فى عام 1952 22 مليونا، والآن أصبحنا 92 مليونا. لقد زدنا، وكبرت مشاكلنا، وتركزت الثروة فى إيد محدودة منذ بدأ الانفتاح الاقتصادى بعد حرب 1973، ومنذ تم بيع القطاع العام بطريقة مجحفة للمصالح القومية. إن الملف الأخير يحتاج إلى المراجعة الفورية من الحكومة، فإذا تحقق ذلك، فإنه يعطى نتائج سريعة بالنسبة إلى توفير فرص العمالة، وزيادة الدخل القومى.

وأختم بأن أشدد على ضرورة الوقوف بحسم أمام محاولات التسلط الاقتصادى والسياسى من جانب الرأسمالية الرجعية، لا الرأسمالية الوطنية، وإلا نكون قد تخلينا عن مبادئ ثورة 25 يناير، ونسمح بالتهديد فى المستقبل بثورات أخرى تصحيحية تؤخرنا اقتصاديا، وتدفعنا إلى فوضى، نحن فى غنى عنها.

 

المصرى اليوم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى