الأخبار

الوزير صالح شهيد حب سالومي اليهودية

42

وقائع التاريخ القديمة قد تتشابه أحيانا تتشابه إلي حد التطابق في عالمنا المعاصر، وهذا مايجعل سيرة صالح النبطي، الشخصية المثيرة للجدل، محط اهتمام في عالمنا المعاصر، الذي تشبهه بعض الوقائع، في عالم يرفع شعارات تماثل نفس الشعارات التي رفعها صالح النبطي عند حكام أوروبا، حين ادعى كذبا مقتل الآلاف على يد عدوه، الذي رفض أن يزوجه أخته وقام برفض دفع ديون بلاده أيضا.

تبدو النقوش التي تحدثت عن عالم الأنباط، الذين كانت تمتد دولتهم من دمشق شمالا حتى تبوك جنوبا، قليلة جدا، رغم أنهم كانوا يحتكرون التجارة في الأسواق العالمية آنذاك، ووجود قناصل وممثلين للدول مثل الصين في أماكن تواجدهم في القرن الثامن قبل الميلاد، ورغم تأكيدات وقائع التاريخ أن اليهود كانوا سببا مباشرا في إسقاط الدولة النبطية في القرن الحادي قبل الميلاد، الذين تم وصفهم في التاريخ عند المؤرخين اليهود أيضا بأنهم كانوا مجرد قراصنة، إلا أن الأنباط العرب احتفظوا بديانتهم ودخلوا في عداء مستحكم مع اليهود، وهو العداء الذي أفشل دائما قصص الحب التي كانت تنشب بين الساسة واليهوديات.

كشف الدكتور راجح محمد، في دراسته العلمية المهمة غير المنشورة، بعنوان “علاقة الأنباط بالدول والشعوب المجاورة بسوريا والجزيرة العربية”، عن الشخصية المثيرة للاهتمام، وهو الوزير سلي، أو صالح، الذي كانت له صولات وجولات في أوروبا، وادعى مقتل 2500 مواطن، رغم أنهم كانوا لايتعدون 25 فقط، بعد عدائه مع اليهود، وفشل قصة حبه لسالومي.

وصفت المصادر الوزير صالح النبطي بالهمة والنشاط وقوة الشخصية وعلاقاته الخارجية القوية، وبصفة خاصة مع اليهود والرومان، كما كان يعمل سفيرا لبلاده حيث تردد كثيرا على بلاط هيرودس، ووقع في غرام أخته سيئة السمـعة سالومي، كما وصفها التاريخ، وكان صالح يتصف بالجمال وقوة الشخصية، وكانت سالومي راغبة في الزواج منه، وتقدم صالح إلى هيرود للزواج من أخته، إلا أن هيرود اشترط عليه اعتناق الديانة اليهودية، ولكن صالح رفض قائلا لو فعلت ذلك لرجمني قومي لتنتهي هذه العلاقة الغرامية بالفشل.

يقول راجح لـ”بوابة الأهرام” إن الأنباط، للأسف، لم يتركوا سوى نقوش مبعثرة، مما جعل أغلب المصادر التي تم الاعتماد عليها في رصد تاريخهم معتمدة على السجلات اليونانية والرومانية واليهودية، مشيرا إلى أن شخصية صالح النبطي تبدو مثيرة وملهمة أيضا، وربما لأهمية شخصيته تم قتله رغم جولاته في أوربا، لعرض القضية النبطية، لافتا إلى أن طلب هيرودس من صالح اعتناق الديانة اليهودية شرطاً للزواج من أخته غريب؛ لأنه هو نفسه لم يكن مخلصا لها ولا عاملا بتعاليمها، حيث أسرع هيرود بزواج أخته من يهودي سفيه يدعى “أليكساس” بدلا من صالح.

كان يمكن لهيرود بالمصاهرة السياسية مع صالح أن يضم بلاد الأنباط، أو أن تكون حكومة تلك البلاد قد أصبحت خاضعة له، ولم يكن زواجا ضارا بمصالح هيرود، كما أن طلب صالح للزواج من أخت هيرود لم يكن بالأمر المستحدث أو المستغرب؛ حيث أن المصاهرات السياسية بين الأنباط واليهود كانت قد حدثت من قبل، عندما تزوج والد هيرودس من زوجته النبطية، كما أن هيرودس نفسه كان ثمرة هذا الزواج، بالإضافة إلى أن هيرود تزوج من نساء كثيرات غير يهوديات، وقد وصل عدد زوجاته إلى 10 زوجات.

يضيف الدكتور راجح محمد أنه يمكن أن يكون طلب هيرودس دخول صالح في الديانة اليهودية شرطا للزواج من أخته له أهداف سياسية داخلية، بعد أن ضجت الجماعات اليهودية الدينية من سوء معاملته وانحلاله وعدم احترامه للقيم والتقاليد الدينية اليهودية وانغماسه في الملذات واهتمامه الواضح بالتقاليد الهلينستية والرومانية، وكان اليهود قد اعتادوا طوال تاريخهم أن يكون حاكمهم هو الكاهن الأكبر، أي أن يكون رجل دين.

بفشل المصاهرة السياسية بين صالح وهيرودس تنتهي فترة السلام المؤقت بين اليهود والأنباط، لتبدأ فترة العداء والحروب بينهما.

وكان هيرودس قد ضم تحت حكمه عدة مناطق تتبع الأنباط بأمر الإمبراطور الروماني أغسطس سنة 23 قبل الميلاد، ومناطق أخرى بالقرب من مصب نهر الأردن، التي تم ضمها إلى اليهودية سنة 20 قبل الميلاد، وكان الرومان قد أسندوا إدارتها إلى هيرودس بحجة القضاء على أعمال السطو والسلب والنهب، التي اشتهرت بها هذه المناطق، كما يؤكد المؤرخون.

قام صالح بتحريض أهل هذه البلاد في المقاطعات التي تقع على طول الحدود الشمالية للمملكة النبطية؛ حيث استغل السكان سفر هيرودس إلى روما، وأُشيع بين أهالي الطراخونية، إحدى المقاطعات التي كانت تتبع الدولة النبطية، أنه مات، وثاروا ضده، وقد نجحت القوات اليهودية في إخماد هذه الثورة، إلا أن نحو 40 من قادة هذا التمرد فروا إلى بلاد الأنباط، فاستقبلهم صالح استقبالا حارا، وقدم لهم تسهيلات كثيرة، وأعطاهم قاعدة حربية دبروا من خلالها غاراتهم التخريبية على اليهود، وهي عبارة عن قلاع حصينة.

ولم يكن السبب وراء تحريض صالح لهؤلاء المتمردين ضد اليهود فشل زواجه من أخت هيرودس فقط، كما يؤكد محمد، لافتا إلى أن صالح كان يطمع منذ سنة 23 قبل الميلاد في أن يفوز بهذه المقاطعات، بعد الجهود التي قدمها في حملة يوليوس جالوس، كمكافأة له، ولكن قدمها الرومان لليهود كمكافأة لهم لمساعدتهم للرومان في حملة جالوس، وأيضا لمساعدتهم في حرب الرومان ضد الأنباط القابعين على الشاطئ الشرقي للبحر الأحمـر.

سعى صالح جاهدا لمحاولة إثارة أهل هذه المقاطعات ضـد هيرودس وتشجيع عمليات السلب والنهب واللصوصية التي كان يقوم بها أهل الطراخونية؛ لكي يبدو هيرودس أمام أغسطس في مظهر العاجز عن تحقيق الأمن والسيطرة على هذه المقاطعات، رغم أن الأنباط أنفسهم كانوا يعانون هجمات اللصوص، وكانوا يدفعون إتاوات لحاكمهم “زنودورس”، مقابل عدم إغارتهم على القوافل التجارية النبطية التي تمر بالقرب من مقاطعتهم.

وبسبب تشجيع الأنباط للصوص وشمولهم بالحماية وتحريضهم ضد اليهود ، ازدادت أعدادهم وقويت شوكتهم وأخذت بلاد اليهود تعاني من هذه الغارات مما دفع هيرودس عقب عودته من روما إلى القيام بحملة على الطراخونية لتأديبهم ولكن جاء ذلك بنتيجة عكسية على اليهود حيث كثف الطراخونيين الفارين إلى بلاد الأنباط من نشاطهم الانتقامي ضد اليهود ويؤكد راجح أن هيرودس أجبر على اللجوء للملك عبادة ووزيره صالح، وطلب منهما إجلاء رؤساء أهل اللجا عن بلاد الأنباط وعدم إيوائهم وحمايتهم.

لكن الأنباط رفضوا طلب هيرودس، مما دفعه إلى أن يطلب من صالح رد الأموال التي اقترضها منه عبادة، والتي تقدر بنحو 60 تالنت، العملة النقدية المتداولة، إلا أن صالحا وعبادة ماطلوا في دفع هذا الدين، فتقدم هيرودس بشكوى إلى السلطات الرومانية، ممثلة في حاكميها في سورية اللذين تدخلا للصلح بين الطرفين، النبطي واليهودي، وتم عقد اتفاق تعهد خلاله الأنباط بسداد جميع الأموال المستحقة عليهم لهيرودس خلال مدة لا تزيد عن شهر، كما أقر الأنباط بالموافقة على طرد جميع أهل اللجا الطراخونيين من بلادهم.

لم يكن صالح أقل دهاء من هيرودس في استغلاله لصداقته للرومان، فعزم على الذهاب بنفسه إلى روما ومقابلة الإمبراطور أغسطس لكسب وده وتأييده ضد هيرودس، ويؤكد نقش تم العثور عليه في ملطية، مكتوب باللغتين اليونانية والنبطية، كما يؤكد راجح محمد، أن الوزير صالح وصل إلى هذا المكان وقدم الشكر للإله ذي الشرى حمدا على سلامة الوصول وحيا فيه مليكه عبادة، ويرجع تاريخ هذا النقش إلى سنة 12 قبل الميلاد.

ذهب صالح إلى روما دون تنفيذ ما التزم به أمام الحاكمين الرومانيين تجاه هيرودس، فلجأ هيرودس إلى الحل العسكري لحسم الأمر واجتاز بجيوشه أرض الأنباط، وهاجم الحصون المخصصة لأهل اللجاة في بلاد الأنباط في منطقة ربيتا، ودمرهم، مما دفع الأنباط إلى تجهيز قوة بقيادة رجل يدعى نسيبوس أو نقيبوس، وانتصر هيرودس في هذه الموقعة وقُتل نسيبوس القائد النبطي وخمسة وعشرون من جنوده، واتجه هيرودس بعد ذلك إلى اللجاة، وأقام بها مستوطنة عسكرية يهودية أقام فيها حوالي ثلاثة آلاف أدومي مهمتهم حفظ الأمن.

يؤكد راجح أن صالح حين سمع بعد وصوله إلى روما بما حدث لقومه الأنباط من هيرودس وجيوشه تقدم بشكوى رسمية مثيرة للعواطف بالنيابة عن شعبه ضد هيرودس وذكر فيها مقتل ألفين وخمسمائة نبطي أثناء غارة هيرودس على بلاده دون موافقة روما، وقد فاق صالح في هذه الشكوى هيرودس في كسب عطف وتأييد الإمبراطور أغسطس، وطبقا لما ذكره يوسيفوس أن صالحا تقدم إلى الإمبراطور أغسطس نائحا ومرتديا السواد، واصفا له ما حدث لبلاده من دمار وخراب بسبب هجوم هيرودس، الذي قتل الكثير من قومه وقواده ومن بينهم صهره نقيبوس.

اشتد غضب أغسطس على هيرودس وكتب إليه رسالة شديدة اللهجة لهجومه على بلاد الأنباط، كما كتب صالح رسالة إلى قومه يذكر فيها بكل فخر بالغ تأييد أغسطس ومؤازرته لهم، وأخبرهم بأن أغسطس أمر هيرودس بعدم تكرار ما حدث، وأن يمتنع عن مهاجمة معاقل اللجاة الموجودة بأرض الأنباط، كما أمره بأن يتنازل عن الديون المستحقة له عند الأنباط، ومنح أغسطس للأنباط أراض واسعة للرعي كانوا يستأجرونها من هيرودس، كما رفض أغسطس استقبال سُفراء هيرودس في روما.

حينما وصلت إلى أهالي اللجاة أنباء تأييد أغسطس لصالح على حساب هيرودس، اطمأنوا إلى هذه الأخبار وسارعوا إلى مهاجمة الآدوميين اليهود الذين أقطنهم هيرودس في اللجاة، وقتلوهم كما انتقل الكثير من أهل اللجاة إلى بلاد الأنباط، واتخذوها قواعد للقيام بعملياتهم الانتقامية ضد ممتلكات هيرودس بشكل أكبر مما كانت عليه من قبل، ليس فقط للاستيلاء والسطو، ولكن أيضا لكي يرضوا غلهم وحنقهم من الأضرار الهمجية التي حدثت لهم من هيرود من قبل.

تنتهي الأحداث فترة حكم الملك النبطي عبادة الثالث، التي لم يشارك فيها من قريب أو من بعيد، تاركا زمام الأمور في يد وزيره صالح حتى وفاته، وكان وزيره في روما يدبر المكائد ويحيك الخطط من أجل الإطاحة بعبادة وهيرودس معا، وربما كان يخطط من أجل كسب ود البلاط الروماني ليتولى أمر الأنباط واليهود معا في شرق الأردن.

يضيف الدكتور محمد راجح أن الملك الحارثة الرابع تولي حكم الأنباط بعد الملك عبادة، لافتا إلى أن حارثة أعظم من تولى الحكم في المملكة النبطية وأشهرهم؛ حيث وصلت المملكة النبطية إلى ذروتها في التقدم الحضاري والثراء الاقتصادي والعمران، حتى أن الباحثين ينسبون إليه أعدادا هائلة من العملات النبطية، دليلا على التقدم والازدهار الاقتصادي الذي وصـلت إليه المملكة في عهده، وقد حـكم الحارثة الرابع من سنة 9 قبل الميلا.د

تولى الحارثة الرابع دفة الحكم في المملكة النبطية وهي في أسوأ أحوالها بسبب ضعف الملك المتوفى عبادة، الذي ترك أمور الدولة في يد الوزير الجامح، والعداء الشديد الذي كان بين المملكة النبطية واليهود والعلاقات المضطربة مع الإمبراطورية الرومانية، بسبب وشاية صالح ضد الحارثة عند أغسطس بأنه تولى المُلك دون موافقة أغسطس، والاضطرابات الحدودية بسبب أهل اللجاة وموقفهم من هيرود ودخولهم بلاد الأنباط لكي يتخذوها قاعدة وملجأ لأعمالهم العدائية ضد هيرودس واليهود.

ويؤكد راجح أن الحارثة استطاع السيطرة على كل هذه الأمور، فقد نجح في التخلص من صالح، الوزير النبطي القابع في روما في انتظار أن تتهيأ له الفرصة للانقضاض على عرش المملكة النبطية بعد أن يكسب تأييد روما ومباركتها على هذا العمل، ولما كان الحارثة مدركا لنوايا صالح المتطلع للعرش، وأنه هو الذي أثار عليه غضب أغسطس، فقام الحارثة بإرسال رسالة عاجلة إلى الإمبراطور أغسطس يخبره فيها بما فعله صالح ويكشف زيفه وبهتانه، وأن صالح قد اغتال أحد المسئولين الرومان، الذي كان خادما عند أغسطس.

كما أخبره عن مؤامرته بدس السـم للملك المتوفى عبـادة الثالث، وقتله لعديد من أشـراف الأنباط، من بينهم شخص يدعى “سخيم”، أحد رجال الدولة البارزين، بالإضافة إلى العديد من الجرائم الأخرى التي تورط فيها هذا الوزير، وشارك هيرودس في تطويق صالح بكشفه أمام الإمبراطور أغسطس، تمهيدا للقضاء عليه، حيث أرسل وزيره نيقولاس الدمشقي إلى بلاط أغسطس، الذي أيد جانبا من تهم الحارثة لصالح، وأخذ يكشف عن شخصية صالح ويطعن فيها عند أغسطس حتى رضي أغسطس عن الحارثة وثبته في الحكم.

كما تحدث نيقولاس للإمبراطور مبررا حملة هيرود على بلاد الأنباط، كاشفا عن زيف ما ذكره صالح في شأن هذه الحملة، فكان ما ذكره، حسبما ذكر المؤرخ يوسيفوس، بأن الجيش المزعوم الذي قاده هيرودس إلى بلاد الأنباط لم يكن جيشا وإنما جماعة أرسلت لتطالب بدفع الأموال المستحقة عند الأنباط، كما أن صالح لم يبر بقسمه أمام الحكام الرومان في سورية بطرد أهل اللجاة ورد الأموال لهيرودس، أما القتلى الذين تحدث عنهم صالح فلم يزيدوا عن خمسة وعشرين.

إلا أن صالحا جعل من كل واحد من القتلى مائة، فقدر أن عدد القتلى كان ألفين وخمسمائة، وانتهى أمر صالح بقتله وقطع رأسه سنة 5 قبل الميلاد، بأمر من الإمبراطور أغسطس نفسه، بعد صراع دموي طويل من أجل الوصول إلى عرش المملكة النبطية، وبعد مقتل صالح تنتهي قصة رجل طموح وعاشق حاول بشتى الطرق عرض طموحه وقضيته في بلاط أوروبا آنذاك.

الاهرام

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى