الأخبار

«كبريت».. أرض البطولات التى اشتراها عائلة مبارك

 

34

 

 

 

نعمت القرية الهادئة بسكينة غمرت بيوتها الطينية ذات الطابق والطابقين. فاحت فيها رائحة اليود الوافد من بحر القنال، ممزوجة برائحة الطين المقيم فى البِرك. جاورها مطار حربى كان نقطة الجذب للطائرات المعتدية الإسرائيلية التى دمرت الطائرات الحربية دون أن تغادر أرض المطار. هجوم خاطف فر على أثره الناجون من الطيّارين قاصدين القرية التى تحول هدوؤها لهرج ومرج. حكاية يذكرها محمد التربانى، الشيخ الستينى المقيم فى قرية كبريت الواقعة شمال السويس، «بس طيّار مصرى من الناجين فى هجوم يونيو 1967 بكى بحرقة وقال: أنا طيار حربى ما أموتش ع الأرض، ورجع المطار ركب طيّارة وقاتل الإسرائيليين بطوله لحد ما وقع طيارة منهم، ووقّعوا طيارته».

التربانى

يونيو 1967، انهال الأهالى فى «كبريت» ضرباً على الطيار الإسرائيلى الناجى من حادث إسقاط طائرته، قيده المجندون على «كبّوت» سيارة نصف نقل تابعة للجيش وطافوا به فى القرية قبل ترحيله.. «كانت قرية هادية، ما بيدخلهاش إلا أوتوبيس النقل العام اللى بيوصل التلاميذ مدرستهم فى فايد.. بس من اليوم ده ولحد حرب أكتوبر اتغير شكل البلد».

غادر سكان القرية وتفرقوا بين المحافظات. يقول عنتر الداخلى، أحد شيوخ القرية: «الأهالى كان غرضهم يبعدوا عن مرمى النار.. لأن فيه مدنيين ماتوا فى حرب 1967، وفضلت القرية هدف لدانات المدافع وصواريخ الطائرات الإسرائيلية.. لدرجة إن دانة فى أيام حرب الاستنزاف أصابت مبنى مدرسة القرية» ثم أخد قليلاً من الوقت لأخذ النفَس كى يواصل «الداخلى» حديثه «اللى سابوا القرية وقتها ومشيوا كان معاهم عذرهم».

يعمل بعض سكان قرية كبريت، التابعة لحى الجناين بمحافظة السويس فى الصيد، مهنة توارى فيها بعض المتعاونين مع المخابرات المصرية من أهالى القرية ومن بينهم صيّاد كان يُدعى «الحاج يوسف البرلسى»، الذى يذكر «عنتر» أنه «كان طول وقت حرب الاستنزاف اللى بين 1967 و1973 بيساعد ناس من المخابرات المصرية فى عبور القناة من السويس لسيناء فى زى صيادين.. لحد ما اتمسك واترحل لإسرائيل وهناك شاف العذاب ألوان.. حتى أهل بيته وقتها سابوا البلد ورجعوا لأهلهم فى عزبة البرج فى دمياط لحد ما خرج الحاج يوسف من سجون إسرائيل».

تسكن قرية كبريت عائلات من قبيلة الترابين العربية، وينحدر محمد التربانى، أحد شيوخ القرية، من واحدة من تلك العائلات التى كان من بين أبنائها أشخاص حضروا حرب أكتوبر 1973، «كنت أنا مع الأسرة فى محافظة فى المهجر.. وعرفنا إن القرية دخلتها إسرائيل.. جابوها من ناحية الدفرسوار وأخدوا كبريت لحد ما وصلوا للسويس وحاصروها ودخلوها فى النهاية».

«اللى حصل فى مطار كبريت فى 1967 كان أقل من اللى حصل فى 1973» يقارن محمد التربانى شارحاً «بمجرد ما دخل العساكر الإسرائيليين القرية راحت دباباتهم على الملجأ الموجود جنب المطار وكان مستخبى فى الملجأ عساكر مصريين ما لحقوش يسيبوا أماكنهم فى القرية.. فضل العساكر الإسرائيليين محاصرين الملجأ لحد ما عسكرى مصرى خرج ضرب قنبلة على دبابة فقام الإسرائيليين ضاربين الملجأ كله موّتوا كل العساكر المصريين».

وبحسب رواية «التربانى»، فلم يكن هؤلاء الجنود هم فقط من تخلّف عن القوات المصرية وعلق فى كبريت، «كان كمان فيه مجموعة من الجنود هربوا ودخلوا وسط الهيش اللى مالى بركة اسمها أرض الدكتور.. وفضلوا فى المكان ده بالأيام لكن الأهالى كانوا بيدخلوا لهم أكل وشرب».

تقدم بعض سكان القرية لمد يد العون، كما يقول «التربانى»، لمجندى الجيش المصرى العالقين. لكن ثم مساعدة أخرى كانت فى الطريق يذكرها عنتر الداخلى: «كان فيه راجل جدع من سكان كبريت اسمه الحاج سلام أبورابعى، كان عنده دراية بالمدقات الموجودة بعد بركة أرض الدكتور، فكان بيدخل للعساكر المستخبيين وسط الهيش ياخد منهم أربعة خمسة يخرجهم لآخر حدود السويس عند أقرب معسكر للجيش المصرى.. وكان راجل حريص جداً فى تهريب العساكر المصريين.. كان ياخد العساكر ويسبقهم بحوالى 30 أو 40 متر لحد ما يوصلوا ويرجع هو البلد.. لحد ما إسرائيل شمّت خبر وحذروه.. كان فاضل كام عسكرى بس وصلهم وتانى يوم صحينا ما لقيناهوش فى البلد لا هو ولا أهل بيته.. هربوا بس ما كمّل مهمته».

الكثير من المتاعب سببها سكّان قرية كبريت، مما أثار سخط القوات الإسرائيلية الموجودة فى السويس أواخر 1973، وعندما توقف القتال وتراجعت إسرائيل إلى أراضى سيناء على خلفية مباحثات الكيلو 101، على ما يقوله محمد التربانى، بدأ العائدون للقرية فى التزايد «الحكومة بدأت تدفع تعويضات رمزية عن الأراضى الزراعية اللى ملاها الهيش.. وفضل الفلاحين يكدّوا ويعرقوا لحد ما رجعت الأرض زى ما كانت».

وشهدت الأعوام التالية توافداً كثيفاً لمُلّاك جُدُد من شريحة اقتصادية مرتفعة يقول عنهم عنتر الداخلى، القاطن بالقرية، «طيارين كتير جداً ورجال أعمال ومستثمرين اشتروا أراضى فى القرية.. فى الوقت اللى بنعانى فيه إننا نتملك الأراضى اللى واخدينها من الدولة حق انتفاع».

طرق ترابية تحددها مبانٍ صارت أكثر ارتفاعاً عما كانت فى أيام الحرب، مبانٍ من الطوب الأحمر تحاصرها بعض البرك، والأراضى الزراعية والقرى السياحية الجديدة التى تحمل غالبيتها أسماءً أجنبية، وإلى جوار المطار الذى لا يزال فى مكانه تملّك مجموعة من الطيّارين القدامى قطعاً تطل على شاطئ البحيرات المرة الصغرى فى قناة السويس، وهى الأرض المعروفة إعلامياً بـ«أرض الطيّارين» التى تعاد فيها محاكمة نجلى الرئيس الأسبق حسنى مبارك بتهمة قبول أراضٍ فى صورة هدايا فى تلك المنطقة. وأضيف للقرية موقف ميكروباصات، بعدما كانت تعتمد فى السابق على أوتوبيس واحد ينقل التلاميذ إلى مدرستهم فى فايد، وفيما يسهل على أى شخص بلوغ أى جزء من القرية أو أطرافها، أو القرى السياحية المحيطة بها والمطلة على شاطئ القناة فإن مكاناً واحداً، ورغم ارتباطه بالقرية ارتباطاً تاريخياً منذ فترة الحرب، لم يعد ذا صلة كما سبق بالقرية وهو «مطار كبريت الحربى» الذى تحتضنه منطقة عسكرية لا يُصرح بدخولها إلا للطيارين أو أحد سكان «أرض جمعية الطيارين» التى توجد كذلك فى نطاق المطار الحربى.

يقول «عنتر»: «ما عندناش مشكلة خالص إن علاء وجمال مبارك يمتلكوا أراضى فى كبريت، ولا إن أى حد تانى يمتلك أياً كان هو مين، غنى أو فقير، رجل أعمال أو غيره ولا طيار ولا بواب.. بس ما يرضيش ربنا إننا إحنا الفلاحين اللى كسحنا مية البرك والطين بإيدينا لحد ما رجعناها أرض تنفع فى الزراعة ما يرضيش ربنا نتعب التعب ده كله وفى الآخر ما نتملكش الأراضى».

«فى سنة 1982 وزارة الزراعة قدّروا فدان الأرض الزراعية بـ800 جنيه، السنة قبل اللى فاتت 2012 قدروا نفس الأرض بـ75 ألف جنيه للفدان، فلما قررت أشترى ولقيت السعر بالشكل ده وأنا عندى ييجى 5 فدادين بقى صعب بل مستحيل إنى أقدر أشترى.. بالذمة مش حرام البهوات ياخدوا الأرض المتر بجنيه وإحنا مش قادرين نتملك!» يختتم «الداخلى» حديثه.

الوطن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى