أخبار مصر

مقالة نيافة الأنبا إرميا مصر الحلوة 410 «ملك النوبة … الراهب»

بدأت المقالة السابقة بالحديث عن «البابا كيرلس الثانى»، الـ٦٧ فى بطاركة الإسكندرية، وقصة اختياره بعد رفع صلوات كثيرة إلى الله، وسيامته رغمًا عنه، ووصوله إلى «مِصر» حيث أعد له الأراخنة قاربًا ينقله من «كنيسة الملاك ميخائيل بالروضة» فى موكب سلطانى.

وكان عند وصول «البابا كيرلس الثانى» ومن معه أن احتشد عدد كبير من الأقباط لاستقباله، ثم اتجه إلى القصر السلطانى هو ومرافقوه، فخرج إليه مأمون الدولة «عنبر الحَرّانيّ»، مقدمًا له تحيات أمير المؤمنين «المستنصر بالله»، ومبلغًا إياه أن الخليفة فى انتظاره، ثم اصطحبه بمفرده إلى مجلسه. وعند وصول البابا إلى قصر الخليفة، كانت أم «المستنصر» وأخته لديه فى المجلس، وطلبوا من «البابا كيرلس الثانى» أن يبارك قصرهم وملكهم حيث يذكر كاتب السيرة: «ثم أخذه ودخل به وحده إلى مولانا «المستنصر بالله» أمير المؤمنين، وعنده أمه وأخته جالستين، وبين أيديهم طيب كثير.

فضمَخوه (لطَّخوه بكثرة) من ذلك الطيب، وقالوا: بارِك علينا وعلى قصرنا. فبارك عليهم، ودعا لهم ففرِحوا به، وقالوا له: جعلك الله مباركًا علينا وعلى دولتنا. ثم خرج ووقف على باب القاعة، وأمر «بطرس» أسقف «دُقمَيرة» أن يقرأ الدعاء، فقرأه وبارك هو أيضًا ودعا».

ثم اتجه البابا إلى دار «الأجَلّ الأفضل» أمير الجيوش، فلقيه بحفاوة كبيرة وأجلسه وأكرمه، فدعا له البابا كثيرًا. وكان والى «مِصر» لدى أمير الجيوش، فأمره أمير الجيوش أن يصحب البابا ويركب معه حتى يصل إلى المكان الذى يريده، وأن يراعيه ويسدد حاجاته طوال وجوده بمصر. وغادر «البابا كيرلس الثانى» دار أمير الجيوش فى إكرام جزيل واتجه إلى «كنيسة السيدة العذراء بمصر القديمة («المعلقة») وصلى بها. وبعد عدة أيام، صلى بـ«كنيسة السيدة العذراء بحارة الروم». ومع بَدء «الصوم الكبير»، اتجه إلى «دير أبومقار بوادى النطرون» لقضاء الصوم كعادة الآباء البطاركة.

وقد ذُكر عن «البابا كيرلس الثانى» أنه كان يقضى أكثر أوقاته فى «كنيسة الملاك ميخائيل بالروضة»؛ وكان يميل إلى أن يعيش فى أماكن أكثر هدوءًا من أجل حياة الوحدة والصلاة، لٰكنه لم يستطِع بسبب مسؤوليات الرعاية، ولأن السلطان كان يستدعيه كثيرًا. كذلك كَثُر الرسل بين «كنيسة مصر» و«كنيسة الحبشة والنوبة» التابعة لها؛ وقد حدث فى السنة الثانية من بطريركية «البابا كيرلس الثانى» أن «سُلُمون» ملك النوبة ترك المُلك وعزل نفسه عن حكم البلاد مسلِّمًا إياه لابن أخته «جرجة» وانفرد هو للعبادة والتنسك، وقيل إنه صار راهبًا بأحد أديرة الصعيد سرًّا.

فيذكر لنا كاتب سيرة الأب البطريرك: «مضى (سُلُمون) المذكور إلى وادٍ يُعرف بالقديس «أبونُفَر» ليتعبد هناك فى بِيعة (كنيسة) على اسمه، بينها وبين أطراف (النوبة) مسيرة ثلاثة أيام، وبينها وبين (أُسوان) مسيرة عشَرة أيام». وعندما علِم والى «أُسوان» بأمر «سُلُمون» استحضره، ثم أرسله إلى «القاهرة» حيث استقبله الأمراء والمقدَّمون أحسن استقبال، كذلك أكرمه «أمير الجيوش»: «وأنزله فى دار حسنة، وحمل إليه الكسوة والفرش والآنية». وعاش «سلمون» فى تلك الدار قرابة العام، ثم تنيح ودُفن فى «دير الخندق» المعروف باسم «دير أنبا رويس».

وقد ذكر «المقريزى»: «وفيها (فى سنة ٤٧٢ ه‍ (١٠٧٩م)) خرج ملك (النوبة) من بلاده، وصار إلى (أسوان) يريد زيارة كنيسة لهم بها، فبعث والى (قوص) (من) قبض عليه، وحمله إلى (القاهرة)، فأكرمه أمير الجيوش وأفاض عليه النعم، وأتحفه بالهدايا الجليلة. فأدركه أجله ومات قبل أن يعود إلى بلاده». أما عن تلك الحِقبة التى قضاها ملك «النوبة» بـ«مِصر»، فـ… والحديث فى «مصر الحلوة» لا ينتهى!

* الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى