الأخبار

عصر جديد يفتح بوابة أمل لمرضى «السرطان»

في عام 1827، كان الطبيب الفرنسى «ألفريد أرماند» يفحص مريضًا مُصاباً بتضخم في الكبد، ويعانى من خللٍ عام في وظائفه الحيوية، علاوة على شحوب في الجلد وضيق في التنفس ونزف متكرر غير معتاد، حاول الطبيب مُقارنة الأعراض الظاهرة على المريض بالأمراض المسجلة، غير أنه فشل تماماً، فثمة مرض جديد سيدخل قاموس الطب.

بعدها بسنوات تمكن الطبيب الألمانى الشهير «رودلف فيرشيو» من ملاحظة زيادة كبيرة في عدد كريات الدم البيضاء في المرضى الذين يُعانون من الأعراض السابقة، ما جعله يُطلق على المرض اللفظ الإغريقى «اللوكيميا» والذى يعنى «ابيضاض الدم».

وطيلة العقود الماضية والتى امتدت منذ توصيف المريض لقرابة قرنين من الزمان، يُحاول العلماء إيجاد علاجات ناجعة لسرطان الدم، توجت الجهود بالنجاح في علاج ما يقرب من 80% من نسب المُصابين بالمرض من الأطفال والشباب، ونحو 40% من المُصابين بنفس المرض من البالغين، غير أن الجهود تواصلت لإيجاد علاج ناجع للمرضى أصحاب الحالات المتأخرة، سواء هؤلاء الذين أصيبوا مرة أخرى بسرطان الدم بعد نجاح العلاج الأول، أو أولئك الذين لم يشفوا باستخدام طُرق العلاج التقليدية والتى تشمل العلاجات الكيميائية والعلاج الإشعاعى.

مؤخرًا؛ نجحت شركة سويسرية في ابتكار علاج جينى جديد، صالح للاستخدام للأشخاص الذين فشلت معهم طرق العلاج التقليدية، بنسبة نجاح تجاوزت 83%، أو بالنسبة للمرضى الذين تعرضوا لانتكاسات حادة بعد تمام الشفاء، ولم تعد تجدى معهم الأدوية التقليدية نفعًا.

العلاج الجديد، المعروف باسم «كيميريا» حظى بموافقة إدارة الغذاء والدواء الأمريكية FDA ليدخل التاريخ بكونه أول علاج جينى يحوز موافقة الإدارة ويُطرح في الأسواق.

وجاء في بيان صحفى لإدارة الغذاء والدواء الأمريكية، تلقت «المصرى اليوم» نسخة منه، أن القرار الجديد «إجراء تاريخى يجعل العلاج الجينى متاحًا في الولايات المتحدة الأمريكية، ما يُشرع نهجًا جديدًا لعلاج السرطان وغيره من الأمراض الخطيرة والمهددة للحياة».

ويعمل «كيميريا» عن طريق إعادة برمجة خلايا الدم البيضاء للمرضى وتوجيهها إلى الأورام السرطانية العدوانية، والتى فشلت معها طُرق العلاج التقليدية، إذ يتم استخراج خلايا الدم البيضاء من المريض عبر ترشيح الدم باستخدام تقنية تُسمى «ليوكافيريسيس». ثم ترسل لتتم إعادة برمجتها في منشأة التصنيع لدى الشركة المصنعة، وتحمل الخلايا التائية المبرمجة وراثيا على ناقلات فيروسية ثم تبدأ الخلايا المحملة حديثًا في الانقسام ويتم عمل مجموعة من الاختبارات للتأكد من جودة الخلايا.

يعتمد الدواء الجديد على تقنية تعديل الخلايا التائية من نوع CAR-T المسماة بـ«خيول الجهاز المناعى» بسبب دورها الحاسم في تنظيم الاستجابة المناعية وقتل مُسببات الأورام، بعد عملية التعديل، يُجرى نقل الخلايا التائية المهندسة وراثيًا إلى مجرى الدم، ويطلق العلماء على ذلك النوع من الأدوية لفظ «الدواء الحى»، بسبب قدرتها الفائقة على التعرف على الخلايا السرطانية واصطيادها وتدميرها في وقت قصير.

أثناء التحضير للجرعة الواحدة من دواء كيميريا، والتى ستكون كافية للقضاء تماماً على السرطان، يُعطى للمريض علاج كيميائى مساعد للحد من انتشار الخلايا السرطانية ومساعدة الجسم على قبول الخلايا المبرمجة، ثم يتم حقن الخلايا المحملة داخل أوردة المريض، التي تتعرف الخلايا الجديدة على الخلايا السرطانية وتقوم بتدميرها.

وتستطيع الخلايا التائية T-Cells المحقونة داخل مجرى الدم استهداف مستقبلات في الخلايا السرطانية تمنع انقسام السرطان، ما يؤدى للقضاء عليه بشكل كامل.

وقالت الشركة المنتجة للدواء إن جرعة واحدة منه عالجت 83% من المشاركين من سرطان الدم الحاد، غير أن هناك عددًا من التأثيرات الجانبية الشائعة التي تشمل حدوث التهابات مناعية قد تؤدى للوفاة، ولكن يُمكن التحكم بها عادة مع الأدوية المثبطة للمناعة.

فالدواء الجديد يسبب حدوث التهابات مناعية وحساسية مفرطة بسبب احتمالية مهاجمته للخلايا التائية السليمة، لذا تسمح إدارة الدواء والغذاء الأمريكية بإعطاء الدواء فقط تحت إشراف برنامج مخصص لتقييم المخاطر وتخفيف آثارها، فالدواء يُزيد من خطر العدوى التي تُهدد الحياة، وتقول الشركة إن المرضى يجب عليهم إخطار مقدمى الرعاية الصحية على الفور، إذا ظهرت عليهم آثار الحمى أو أي علامات تفيد بتعرضهم لأى نوع من أنواع العدوى، سواء أثناء العلاج أو بعده.

بعد تلقى جرعة كيميريا، ستتم متابعة المرضى طيلة الحياة من قبل فريق من المتخصصين من الشركة وإدارة الغذاء والدواء الأمريكية، وتقول الأبحاث العلمية إن المرضى يجب عليهم عدم القيام بأى أنشطة جسدية عنيفة بعد تلقى العلاج لمدة 8 أسابيع على الأقل. إذ تشمل الأعراض الجانبية ضعفًا في الذاكرة المؤقتة، الضعف العام والدوخة ومشاكل في التنفس وآلام المفاصل وانخفاض ضغط الدم والغثيان الشديد والقىء والإسهال، وغيرها من الأعراض التي ستمنع المريض من ممارسة حياته الطبيعية لفترة من الزمن بعد إتمام العلاج.

ويصنع الدواء خصيصًا لكل مريض على حدة، إذ تؤخذ مجموعة من الخلايا السرطانية للمريض وتشحن للشركة، التي تقوم بإعادة برمجتها وحقنها مرة أخرى في دماء المريض لمهاجمة الخلايا السرطانية والقضاء عليها.

وسيتعين على المريض السفر إلى موقع مُخصص لمعامل الشركة داخل الولايات المتحدة الأمريكية، للحصول على جرعة الدواء في غضون 22 يومًا.

وبحسب بيان للشركة المُصنعة، تعمل الشركة على تطوير العقار لاستخدامه في علاج سرطان الغدد الليمفاوية، وعلاج الأورام الصلبة كأورام الجلد وأورام الرئة.

«سكوت غوتليب»، مفوض إدارة الغذاء والدواء الأمريكية، قال في بيان صحفى تلقت «المصرى اليوم» نسخة منه إن التكنولوجيات الجديدة التي تشمل العلاجات المناعية والخلوية قادرة على تحويل دفة أدوية السرطان وخلق نقطة انعطاف في قدرة الأطباء على علاج العديد من الأمراض المستعصية، مشيرًا إلى أن إدارة الغذاء والدواء «ملتزمة بالمساعدة في الإسراع من تطوير ومعالجة العلاجات الرائدة التي لديها القدرة على إنقاذ الحياة».

ويرى الدكتور «شريف الخميسى» مدير مركز أبحاث الجينوم بجامعة زويل وأستاذ علوم الجينات والوراثة بجامعة شيفلد الإنجليزية إن العلاج الجديد «ثورى» بامتياز، مشيرًا في تصريحات خاصة لـ«المصرى اليوم» إلى أن العلاجات الجينية «لها مستقبل واعد» فخلال فترة قصيرة لن تزيد عن 5 سنوات «ستصبح 15% من الأدوية ذات أساس جينى».

يشرح «الخميسى» التقنية العلمية التي استخدمتها الشركة لتصميم الدواء الشخصى الجديد، مشيرًا إلى أن مفهوم العلاجات الشخصية بدأ في نهاية ثمانينيات القرن الماضى، بعد أن وافقت السلطات الفيدرالية الأمريكية على تجربة علاج مناعى على طفلة تعانى من متلازمة نقص المناعة الوراثية المشترك الشديد. ومن وقتها وإلى الآن؛ يحاول العلماء إيجاد صيغة ناجحة للعلاج الجينى.

ينشأ مرض السرطان من خلية واحدة، تتحول من طبيعية إلى ورمية خلال مراحل مُتعددة، تختبئ فيها من الجهاز المناعى، ويُعد العلاج المناعى علاجًا حيويًا يقوم باستثارة الخلايا المناعية ورفع كفاءتها وإنتاجها لتمييز السرطانات وتحفيز جهاز المناعة لمقاومة المرض الخبيث، وذلك عن طريق استخدام مركبات حيوية يتم إنتاجها معمليًا وتشبه تلك التي تفرزها الخلايا المناعية ويتم حقنها داخل المريض لمساعدته على تحفيز جهازه المناعى وتدمير السرطان.

وتُثير تقنيات العلاج المناعى للسرطان خيال الأطباء منذ عقود، إلا أن موجة الأبحاث الموجهة نحو محاولة اكتشاف عقاقير مناعية أخذت في الانتشار مع بداية العام الماضى، وتعتمد تقنيات العلاج المناعى على استخدام عقاقير تُحفز وتشجع الخلايا التائية- أحد أعمدة المناعة المكتسبة- المسؤولة عن محاربة الأورام.

وتمتاز تقنيات العلاج المناعى عن غيرها من أساليب مكافحة مرض السرطان كونها ذات آثار جانبية محدودة، على عكس العلاج الكيماوى الذي يُسبب عددًا من الأضرار غير المرغوب بها، من ضمنها التأثير على الخلايا السليمة والسرطانية على السواء، خصوصًا لدى الحالات المتقدمة في مرض السرطان.

وبحسب الخميسى، فقد بدت الموافقة على العلاج أمراً مفروغًا منه لعدة أشهر، بعد أن أظهر الدواء سلامته في التجارب السريرية المتعددة، إذ بلغت نسبة نجاحه 83% مع الحالات التي استعصت على طرق العلاج التقليدية، غير أن آثاره الجانبية التي تشمل احتمالية حدوث عدوى خطيرة، وانخفاض ضغط الدم، والإصابة بالفشل الكلوى الحاد، والحمى، وانخفاض نسبة الأكسجين في الدم، ظلت محل نقد ومخاوف، إلا أن الشركة أثبتت خلال تجاربها السريرية أن تلك الأعراض يُمكن الحد منها باستخدام الأدوية المثبطة للمناعة.

يُعد مرض سرطان الدم الليمفاوى الحاد أحد أكثر الأورام انتشاراً بين الأطفال، بنسبة تقترب من 25% من كافة أنواع السرطانات التي تصيب هذا العمر، يصيب المرض أنسجة صنع الدم بالنخاع العظمى، تتسرطن الخلايا الأولية التي تتطور لتنتج الخلايا الليمفاوية وتظهر بأعداد كبيرة في النخاع العظمى والدم كخلايا سرطانية قادرة على الانتقال.

ويقول الخميسى: «ورغم أن العلاج متخصص للشباب تحت سن ٢٥، إلا أنه وخلال نحو ٦ أشهر من الآن، سيتم تعديل العلاج ليشمل كل الفئات العمرية».

يتسبب ظهور الخلايا السرطانية في حدوث مجموعة من التأثيرات المتلاحقة، فتكدسها في النخاع يعيق إنتاج خلايا الدم الحمراء والصفائح الدموية وكرات الدم البيضاء، وبالتالى يحدث قصور في الجسم، ما يجعل الشخص المُصاب بالورم السرطانى شاحب الوجه، متعبا على الدوام، إذ يُعانى من أعراض فقر الدم، ونقص في المناعة بسبب عدم وجود كريات الدم البيضاء السليمة، وبالتالى؛ يتعرض المُصاب لمختلف أنواع العدوى، الأمر الذي قد يفقده حياته خلال وقت قصير من إصابته بالسرطان، إذا لم يتم علاجه في الوقت المناسب.

العلاج الكيماوى أحد أهم طرق علاج مرض ابيضاض الدم الليمفاوى الحاد، إذ يحقن المريض بمجموعة من العقاقير الكيماوية المضادة للسرطان تقوم بالقضاء على الخلايا السرطانية بهدف عرقلة نموها وانتشارها. ويأتى العلاج الإشعاعى كوسيلة مُكملة للعلاج الكيماوى سرطان الدم، ويُمكن استخدامه منفردًا في بعض الحالات، أو بديلاً عن جراحة زرع نُقى النخاع العظمى.

غير أن العلاج الجديد يختلف تماماً من حيث التقنية وفترة العلاج والنتائج عن العلاجات المتوفرة حاليًا، فعلى عكس العلاج الكيماوى، يتم تصميم العلاج الجديد بشكل شخصى لكل مريض، إذ يتناول المريض جرعة واحدة فقط من العلاج، وتتم متابعته لمدة 3 أشهر فقط لتقييم مستوى الاستجابة، فيما تستغرق فترات العلاج التقليدية من 18 شهرًا وتصل إلى 40 شهرًا في بعض الحالات.

«جوزيف جيمينيز» الرئيس التنفيذى لشركة «نوفارتس» السويسرية المُصنعة للدواء يقول في تصريحات تلقتها «المصرى اليوم» عبر البريد الإلكترونى إن الشركة لها تاريخ طويل في علاج أمراض السرطان، مشيرًا إلى أن محاولات إنتاج الدواء بدأت قبل خمس سنوات بالتعاون مع جامعة بنسلفانيا الأمريكية، وهو الأمر الذي أسفر عن تطوير وتقديم علاج جديد سيغير مسار رعاية مرضى السرطان للأبد.

وأعرب الرئيس التنفيذى للشركة عن امتنانه العميق للباحثين والمتعاونين من المرضى وأسرهم الذين شاركوا في برنامج كيميريا السريرى والذى أحدث «اختراقًا في العلاج المناعى للأطفال والشباب، بهدف تحسين واكتشاف طرق جديدة لعلاج أورام الدم السائلة».

وتقول الشركة في بيان صحفى تلقت «المصرى اليوم» نسخة منه إن أكثر من 250 شخصًا من 11 دولة قاموا بإجراء اختبارات للحصول على الدواء الجديد، غير أن معضلة أساسية تبقى محل نقاش، فثمن الدواء الجديد يتعدى 475 ألف دولار، أي حوالى 8.5 مليون جنيه مصرى للمريض الواحد، وهو ما سيجعل الدواء مخصصًا للأغنياء فقط، فكيف يُمكن حل تلك المعضلة؟

الإجابة يُقدمها «ديفيد ميتشل» رئيس منظمة «Affordable drugsأدوية بأسعار معقولة» والمهتمة بالضغط على شركات الأدوية لتخفيض أسعار العلاجات الجديدة، والذى يقول إن أقل من 1% من المرضى بسرطان الدم الليمفاوى الحاد سيستطيعون تحمل سعر الدواء الذي وصفه بكونه «مبالغا فيه». ويرى «مستشل» أن التجارب السريرية تؤكد أن العلاج «لا يقدر بثمن بالنسبة لمكافحة سرطان الأطفال» وبالتالى «يجب أن يكون متاحاً بسعر مناسب.. فهو دواء داعم للحياة».

غير أن الشركة تقول أن تكلفة الدواء الباهظة ترجع لكونه علاجًا شخصيًا، فالعلاج مصنوع من خلايا الدم البيضاء الخاصة بالمريض، عبر وضع قسطرة وريدية وتجميع الدماء وإرسالها لموقع التصنيع في الولايات المتحدة الأمريكية، بعدها يقوم الباحثون بهندسة الخلايا جينيا، ثم يُسافر المريض لأحد المراكز المؤهلة لتلقى العلاج، ويحجز داخلها لمدة 4 أسابيع على الأقل، وهى خطوات تُكلف الكثير.

«ثمن الدواء لم يُحدده الجشع» يقول «براد لونكار» الخبير في مجال التكنولوجيا الحيوية واقتصاديات الدواء في تصريحات صحفية نقلها موقع «فورتيون fortune» الإخبارى، مشيرًا إلى أن الشركة «ستتقاضى سعر الدواء إذ كانت النتائج إيجابية فقط.. وهى بادرة جيدة توضح أن التكلفة المرتفعة لصناعة الدواء هي ما حددت سعره المرتفع». ويعتقد «لونكار» أن الأسعار سوف تنخفض بالفعل مع استمرار الشركات في أبحاث الأدوية المناعية، فابتكار تقنيات تصنيع العلاجات سينجم عنه انخفاض سعر الدواء «موافقة إدارة الغذاء والدواء الأمريكية على كيميريا سيفتح الباب أمام مزيد من الأبحاث.. وكلما زادت الأبحاث زادت الابتكارات.. وكلما زادت الابتكارات قلت الأسعار.. هذه ثورة كاملة تفتح باباً ظل مغلقًا لعقود أمام فئة من المرضى.. ثورة لن يقف أمامها أي شىء.. حتى ارتفاع سعر الدواء المؤقت».

المصرى اليوم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى