الأخبار

عيد الغطاس.. فانوس برتقانة وحلة قلقاس

1

اعتدنا أن تصاحب الأمطار عيد الغطاس فتحمل البركة والخير لمصر.. فنسير ببطء وحذر حتى لا يُطفئ الهواء لهيب الشمعة
يرافق عيد الغطاس أيضا المقولة الشهيرة «لو مكلناش قلقاس.. هنصبح من غير راس» إضافة لـ «مصمصة» القصب نهارا.. حاولت التوصل لمعلومات توضح أسباب هذه الممارسات ولم يحالفنى الحظ
«عيد الغطاس» ليس مجرد طقس دينى وإنما طقس مصرى أصيل يحتفى بخيرات الأرض فى هذا التوقيت
البرتقال «أبو سُرة» ليس مجرد برتقال عادى فى حياتى، وحياة المسيحيين فى بعض المناطق، وإنما تربطه بنا علاقة سحرية لها طابع خاص وذكرى جميلة، فما أن يظهر هذا البرتقال فى الأسواق حتى ننتظر اللحظة والوقت التى نحصل فيها على «فانوس البرتقالة» لنذهب به إلى الكنيسة ليلة الاحتفال بعيد الغطاس، وهو إحياء ذكرى معمودية السيد المسيح فى نهر الأردن على أيدى يوحنا المعمدان والتى توافق 19 يناير من كل عام.
«تغيرت أحاسيسنا تجاه الأعياد والمناسبات كلما كبرنا»، هى جملة سمعتها وأرددها أنا أيضا، فلم يعد شراء ملابس جديدة ضرورة مُلحة بدونه نقضى الليل فى البكاء مثل ما كنا نفعل فى صغرنا، أو قد يضطرنا العمل لعدم قضاء مثل هذه الإجازة المنتظرة فى اللهو والمرح، ولكن بالرغم من كل شىء مازال لكثير من الطقوس المرتبطة بالأعياد تأثيرها وبهجتها التى ننتظرها من العام للعام.
ولعل أكثر ما يجتاح ذاكرتى من ذكريات الطفولة هو طقس عمل «فانوس البرتقالة» والذى يقوم بمعظمه والدى بداية بشراء برتقال بـ«سُرة» كلما كان كبير الحجم كلما كان الفانوس أكثر جمالا، ويجلس أمامه منضدة وأدوات العمل المكونة من سكين محماة جيدا، كاتر رفيع، ملعقة طعام، طبق كبير، وأسلاك كهربائية أو ما يمكن استخدامه كحبل لربط الفانوس، والشموع.
وفى ليلة عيد الغطاس يمارس الجميع تقريبا هذه الطقوس، وتغمر كل البيوت المسيحية على الأقل فى مدينتى رائحة البرتقال وصراع الأطفال على الحصول على الفانوس الأكبر، والتحليق حول ذويهم لاختيار أشكال الصلبان التى يريدون حفرها على الفانوس.
يقطع والدى رأس البرتقالة بعناية حيث يتم استخدامها فى ما بعد كغطاء للفانوس، يستخدم الملعقة لحفر قلب البرتقالة وإخراج ما فيه برفق دون أن تتأذى القشرة الخارجية، ثم يقوم بتسوية باطن البرتقالة حتى لا يتبقى أى مواد سائلة بداخله، ويتم الاحتفاظ بقلب البرتقالة لتناوله بعد العودة من الكنيسة حيث يتوجب علينا حضور صلاة القداس ونحن صائمون من الثانية بعد الظهر حتى منتصف الليل.
يعدل والدى من جلسته ويرفع احدى قدميه لثنيها تحت جسده ويمسك بالكاتر الرفيع لحفر الصلبان فى ظل إلحاحنا على أن يختار هذا العام أشكالا جديدة ننافس فيها الآخرين، فالفانوس ليس مجرد طقس احتفالى وإنما تنافسى أيضا، لا يرد والدى وإنما يكتفى بالنظر من تحت النظارة فى إشارة إلى أن الصمت فى هذه اللحظة مطلوب، وكم كنت انظر له بإعجاب وهو يحفر تلك الصلبان باحترافية، فأنا لم أرَ أجمل من الفانوس الذى اعتاد والدى صنعه لنا.
ينتهى والدى من كل برتقالة ويضعها أمامه، بينما نتشاجر أنا وأخواتى على الاختيار بين الفوانيس، وإلحاحنا على والدى فى الإسراع حتى نلحق بأصدقائنا أمام الكنيسة والتباهى بالفانوس قبل بدء صلاة القداس، يمسك والدى بطرف السلك ويمرره من رأس البرتقالة التى سبق وقطعها لاستخدامها كغطاء، ثم يمرره من طرف البرتقالة ويقوم بعقده، وهكذا من الطرف الآخر، وتفنن البعض فى تزيين مثل هذه الأربطة أو الأسلاك بتمرير حبات «المكرونة» أو خرز صغير ملون، ولكنها كانت كلها أمور شكلية بالنسبة لنا حيث يكفى السلك الكهربائى.
تأتى اللحظة الحاسمة عندما يتم وضع الشمعة داخل البرتقالة وتثبيتها جيدا، وإشعالها حتى تنطلق رائحة البرتقال المشتعل وهى من أجمل الروائح العطرية التى تظل حاضرة فى ذهنى، ويكفى تذكرها لأشعر بالحنين لأيام الطفولة وما له علاقة بطقوس اجتماعية حميمية مبهجة، لا أتذكر من كان يحسم الصراع على الفانوس الأكبر ولكن عادة كنا نتركه لأخى الصغير فى تضحية فريدة من نوعها لى أنا وأختى الكبيرة نظل نرددها على مسامعه طوال العام.
اعتدنا أن تصاحب الأمطار عيد الغطاس فى طقس احتفالى من نوع آخر حيث تحمل البركة والخير لمصر فى هذا التوقيت من العام، فنسير ببطء وحذر حتى لا يُطفئ الهواء لهيب الشمعة، وكان لوفرة حظنا أنا وأخواتى أن الكنيسة فى نهاية الشارع الذى نسكن فيه فلا نضطر للسير طويلا، خاصة إذا كانت هناك أمطار والأرض زلقة وقد تتسبب فى سقوطنا إن لم نكن حذرين.
تدق أجراس الكنائس معلنة بدء الصلاة، فتتسارع خطواتنا حتى نجد أماكن للجلوس داخل الكنيسة ولا نضطر لمتابعة الصلاة من الخارج خلال شاشات العرض، حيث تكتظ الكنيسة بالمسيحيين فى المناسبات مما يدفع الكاهن لوضع شاشات تلفاز وكراسى بالخارج وهى أماكن غير مُفضلة خاصة فى البرد وطول ساعات القداس التى تمتد لـ 6 ساعات.
تختلط رائحة البرتقال بالبخور ونتلذذ نحن بهذا المزيج العطرى الساحر، بينما تظل الشموع تبهج الأجواء بأضوائها المتراقصة، كم كان عجيبا أن أجد مسيحيين فى القاهرة ومن الصعيد لا يعرفون فانوس البرتقالة، ولكن سكان منطقة الدلتا يعرفونه، ومدينتى المحلة الكبرى تعرفه جيدا حيث يخرج المسيحيون يحملونه من المنازل للكنائس.
بحثت أرشيفيا عن أصل الفانوس البرتقالة ولكن لم أجد ما يفيدنى ولكن أتذكر أن والدى اعتاد أن يروى لنا فى هذا اليوم الحكاية ذاتها خلال نقشه للفانوس أن المصريين قديما فى هذا التوقيت من العام يشتد البرد واعتادوا الخروج ليلا للحقول والتنقل بين القرى حاملين مشاعل من أى نوع لتضىء الشوارع التى لم تكن قد عرفت الكهرباء بعد.
ويستطرد والدى أن المسيحيين اختاروا لشعلة عيد الغطاس أن تكون أكثر قربا من خيرات هذا التوقيت من العام وكان البرتقال هو الأنسب لصناعة مثل هذه المشاعل أو الفوانيس، ولهذه القصة سحرها الذى لم تفقده رغم سماعى لها عشرات المرات، حيث أتخيل الحقول مضاءة بمثل هذه الفوانيس فقط ولا وجود للكهرباء ويخرج المسيحيون حاملين لها خلال طريقهم للكنائس، وتتخلل رائحة البرتقال الجو البارد الذى تحاول الفوانيس كسر برودته بشموعها.
يرافق عيد الغطاس أيضا المقولة الشهيرة «لو مكلناش قلقاس.. هنصبح من غير راس» وتناول القلقاس عقب العودة من الكنيسة ليلا طقس اجتماعى يمارسه المسيحيون، و«مصمصة» القصب نهارا، حاولت التوصل لمعلومات توضح أسباب هذه الممارسات، ولم يحالفنى الحظ، لذلك اعتمدت على ما يرويه لى والدى بأن المسيحيين عاشوا على ضفتى النيل وعشقوا الزراعة، واعتادوا الاحتفاء بخيرات الأرض فى هذا التوقيت من العام حيث ينمو القلقاس والقصب والبرتقال، وتناول القلقاس ليلا يبعث على الدفء عقب العودة من الكنيسة، ولهذا نُطلق عليه «أكلة شتوى».
ربما لم يرَ الكثيرون مثل هذه الطقوس الاجتماعية فى مدنهم أو قراهم، ولكنها مشهورة ومنتشرة من حيث أتيت، ولا دلالة دينية لها أصيلة فى العقيدة المسيحية، ولا يعرفها سوى الأقباط «مسيحيو مصر»، ولكن ربما يصبغها البعض بتفسيرات ذات معانٍ دينية لإضفاء عمق روحى عليها، إلا أن دلالتها وعمق تأصلها فعليا فى حياة المسيحيين فى مصر هو ارتباطها بخيرات هذا البلد وتاريخه الإنسانى.
يروى لى والدى ما رواه له والداه فى كل عام وسأفعل مثله وأروى لمن أعرفهم وأولادى فى ما بعد ما سمعته منه، فالتاريخ يسجله الرواة.
«عيد الغطاس» بالنسبة لى ليس مجرد طقس دينى وإنما أراه طقسا مصريا أصيلا يحتفى بخيرات الأرض فى هذا التوقيت، ولا يمكن أن تكون لهذه الليلة أن تكتمل إلا بـ«فانوس البرتقالة أبوريحة حلوة» وطبق «قلقاس ساخن».
الشروق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى