الأخبار

أول تحليل أمني لما جرى فى حادث الواحات البحرية

لا يزال الغموضُ يُخيم على حادث الواحات الذى أسفر عن استشهاد ١٦ من رجال الشرطة، وإصابة عدد من الإرهابيين، لا أحد يعلم ما جرى هناك، والمعلومات الآتية – من مصادر مختلفة – تزيد من الغموض أكثر مما تقترب من كشف الحقيقة.
العميد خالد عكاشة، الخبير الأمنى الكبير عضو المجلس الأعلى لمكافحة الإرهاب والتطرف، يقدم هنا ما يمكن أن نطلق عليه أول تحليل علمى أمنى متماسك لما جرى فى الواحات، حيث يستعرض الأمر من البداية مرورًا بطريقة تعامل وزارة الداخلية مع الخلية الإرهابية التى كانت متمركزة هناك وانتهاء بما كان يجب فعله فى العملية.

البداية.. وصول معلومات عن مجموعة إرهابية تسللت من ليبيا عبر الصحراء الغربية إلى الأراضى المصرية

الذى حدث هو تحصل جهاز الأمن الوطنى على معلومات موثقة، تم التأكد منها بأعمال التحرى من أكثر من مصدر، فحواها أن هناك مجموعة إرهابية استطاعت التسلل من ليبيا عبر الصحراء الغربية، لتصل إلى منطقة صحراوية بالقرب من «الطريق» إلى الواحات البحرية. الوصول يتبعه «كمون» وتخطيط لتنفيذ مجموعة من العمليات الإرهابية، لذلك فلم يكن هناك ما تم تداوله عن وجود ما يمكن اعتباره كـ«معسكر للتدريب»، فهذه الشريحة من الإرهابيين لا يدخلون الأراضى المصرية إلا بعد أن يتموا تدريبهم بالمعسكرات الليبية الأكثر أمنا، والتى يتوافر بها قدرة إعداد الأفراد للوصول إلى المستوى المتقدم المطلوب.
وصل السلاح تباعا عبر نفس الطريق العرضى، الذى يصل من الداخل الليبى تحديدا من شريط طولى يقع فى الشرق (جنوب درنة وصولا إلى واحة جغبوب)، ويتم استلامه داخل الأراضى المصرية المقابلة ليصل إلى مستقره. على هذا المسار نفذت القوات المسلحة «آلاف» الطلعات الجوية وقصفت ما يزيد على ٢٠٠٠ عملية تهريب من هذا النوع، وهو ما يستتبع تصور الإصرار والقدرة على «تمويل» هذا الكم الهائل من السلاح المتطور الثقيل. أشهر عملية ضبط لوزارة الداخلية فى هذا السياق، وقعت فى أبريل من هذا العام فى مزرعة «النوبارية» بالظهير الصحراوى الغربى لمحافظة البحيرة، التى أذيع لها تقرير مصور كشف عن حجم ما وصل إليها من السلاح والذخيرة ومواد صناعة العبوات الناسفة. هذا عن تقدير «الخطر» وحجمه لدى الأجهزة المعنية؛ المتوقع مجابهته أو بمعنى أدق ملاقاته فى هذا المسرح الغربى المفتوح.
افتراضية أنه استكمالا للمعلومات التى لدى جهاز الأمن الوطنى، يتصور أن تلك المجموعة الإرهابية ليست قادمة لهذا المكان كى تستقر فيه، ولكن بغرض تنفيذ مجموعة متنوعة من الهجمات الإرهابية. ووضعت دائرة متخيلة تضم محافظات (الجيزة، القاهرة، الفيوم، بنى سويف، المنيا)؛ وهى دائرة من الاتساع والتنوع ما يجعل كافة أجراس الإنذار تدق بقوة داخل جنبات الأمن الوطنى. هذه الافتراضية التى بنى العمل عليها واستهدف إجهاضها هى صحيحة تماما، واستوجبت التحرك العاجل من قبل جهاز المعلومات مستعينا بقوات «العمليات الخاصة» لتنفيذ المداهمة على الأرض. حتى هذه المحطة، الخطوات والتقديرات الأمنية تعد صحيحة تماما بل يمكن اعتبارها متميزة أيضا. لكن ما جاء بعدها شابه العديد من أخطاء «العمل» التى لم يكن الجهاز الأمنى ليقع فيها، وهى تستوجب بعض الوقفات الهامة فى ظل مشوار من المجابهات لن تكون تلك العملية الأخيرة فيه.

الخطأ فى عدم توقع شكل استعداد العناصر الإرهابية للهجوم الأمنى

وزارة الداخلية لديها آلية معتمدة منذ سنوات، وتحدثت أكثر من مرة، تجعل القدرة على اختراق معلومات تنفيذ العملية الأمنية ونقلها إلى الإرهابيين مستحيلة، فلا مجال لوشاية ولا لتسريب جزئى عن التوقيت أو الجهة التى ستتحرك المأمورية إليها. ومن إحكام هذه الآلية أنه حتى فى حال توافر شخص، أيًا كانت رتبته أو طبيعة عمله، داخل أو بالقرب من دائرة التنفيذ، لن يتمكن من كشف أو بالأدق «فهم» ما يدور حوله وحتى اللحظة الأخيرة للمداهمة. فالتوقيت والمسار يخضع لدوائر «عشوائية» متتالية ومحسوبة، لا تدع هناك معلومة يمكن الإمساك بها ونقلها إلى أى طرف. لذلك يظل حديث الخيانة الذى تردد من البعض مصاحبا لتلك العملية، من قبيل الخيالات، المغرضة فى البعض منها، حيث نفذت قوات «العمليات الخاصة» آلافا من مأموريات المداهمة، لم ينكشف أى منها سواء نجحت أو فشلت فى تحقيق هدفها.
لكن.. الخلايا الإرهابية و«المتقدم» منها بالأخص، لا ينتظرون تسريبا لمعلومة بقدر ما يهتمون بالاستعداد المحكم على مدار الساعة، لوقوع مثل تلك المداهمة الأمنية. وفى هذه الدائرة كان الخطأ الأمنى الأول الذى لم يقدر استعداد تلك الخلية وطرق تحصينها لملاذها، وأنها قد تمتلك آلية مراقبة عن بعد من موقعها، تمكنها من كشف المداهمة قبل تنفيذها بوقت كاف. وتفاصيل عملية طريق الواحات تشى بأن تلك الآلية شكلت عامل حسم مؤثرًا لصالح المجموعة المسلحة، وجاء انكشاف المأمورية ليحقق للإرهابيين القدرة على الاستخدام الأمثل للأسلحة التى بحوزتها، فضلا عن تمترس وتوزع الأفراد المدربين بالصورة التى حققت لهم إمساكا مبكرا وفعالا لمسرح العمليات المنتظر.
الدائرة الثانية التى وضعت قوات المداهمة فى مأزق صعب، لها علاقة بعملية الاستطلاع المسبق لموقع العمليات المتوقع، خاصة ونحن نتحدث كما أعلن فى بيان وزارة الداخلية أنه يبتعد عن الطريق المعبّد «الأسفلت»، لمسافة تقارب ٣٠ كم فى عمق منطقة صحراوية «رملية» على جانب الطريق. الاستطلاع يتصور تنفيذ جزء منه قبيل التنفيذ، وعلى ضوء معطياته يتحدد حجم القوة الأمنية ومعداتها اللوجستية فضلا عن التسليح اللازم، وتمتد عملية الاستطلاع لتستكمل فى نقطة ارتكاز تقررها القوة الأمنية، لتتأكد فيها من المعطيات التى لديها وتستكمل «على الطبيعة» ما تحتاجه لتقدير الموقف النهائى. منطقيا فى تلك العملية تصبح نقطة الارتكاز التى تتحدد فيها «بسرعة» القرارات العملياتية، هى آخر نقطة «أسفلت» قبيل النزول مباشرة للعمق الصحراوى، وهنا واجهت القوة الأمنية مجموعة من السيناريوهات، حملت فى طياتها ما هو له علاقة بالاستطلاع المباشر وتقدير حجم الخطر المتوقع مجابهته، وأيضا التقييم العددى والتسليحى للقوة الأمنية، للوقوف على مدى جاهزيتها للموقف الذى سيدور بعد لحظات من تلك المحطة.

سير العمليات كان يستوجب صدور قرار بالانسحاب دون التمسك بشهوة اقتناص «الصيد الثمين»

أمام تلك السيناريوهات ربما سقطت القرارات فى فخ سوء التقدير، بالنظر إلى أن تلك المنطقة ومحيطها شهدت من قبل «منذ نحو عام»، تعثرا عملياتيا استلزم الخروج وعدم إتمام المهام، بعد سقوط عدد من الشهداء جراء تعرضهم لنيران كثيفة. هذه المعلومات والمراجعة التى يفترض إجراؤها مع القيادات المتواجدة بغرف العمليات، كانت تستوجب صدور قرار بالانسحاب وهو لا يقلل من قدرات القائمين على التنفيذ، فهم ليسوا أمام اختبار للشجاعة والإقدام، ولا ينقصهم مطلقا إرادة التضحية والبذل، فجميعهم نفذوا عشرات المداهمات الصعبة والناجحة من قبل، والرتب القيادية منهم سجلهم الوظيفى به المئات منها. ولذلك على أهمية المعلومات واللهفة «المشروعة» لتحقيق ضربة إجهاضية لمخطط إرهابى كبير، يظل خطأ قرار التقدم للتنفيذ محل تساؤل ومحاسبة دقيقة أعلم أنها تجرى الآن بصورة موسعة. فقرار التنفيذ وضع القوة الأمنية فى مأزق مركب أمام تفوق عددى واستقرار مثالى، حققته العناصر الإرهابية على المرتفعات الحاكمة لمسار التوغل فى الصحراء، ليصبح حينها استخدام القذائف ونيران الرشاشات الثقيلة باتجاه القوات الأمنية لها أيضا وقع مؤثر فى فداحة الخسائر.
حديث البطولة فى مثل تلك المهام الأمنية بالنظر إلى تلك العملية وخسائرها، ربما يظل خافتا رغم ما قد يكون تحقق منها بالفعل، وهو فى تلك الليلة الظلماء لم يتوقف عند المبادرة بتنفيذ الأوامر رغم وضوح الخطر جليا أمام أعين الضباط، فقد تمكنوا من استيعاب التفوق الكاسح للعناصر الإرهابية ولخسائرهم الأولية المباغتة التى ضربت معادلة الاشتباك بخلل جسيم. صار حينها الهدف الرئيسى للقوة الأمنية هو الحفاظ على استمرارية الاشتباك النيرانى لحين وصول قوة «التعزيز»، حتى لا تفر العناصر الإرهابية من مسرح العمليات، وفى هذا السياق نجحت القوة الأمنية فى تحقيق هذا الهدف لمدة «٤ ساعات» كاملة، أوقعت خلالها بعضا من الخسائر فى صفوف الإرهابيين، ونفذ بعض الضباط من القوة مهمته وهو مصاب بطلقات نيرانية، ليقضى نحبه بطلا شهيدا جراء ساعات «طالت» على إصابته لم يترك فيها سلاحه.

الإدارة الإعلامية للحدث من قبل الأجهزة المختصة لم تكن على مستوى الحدث

الدائرة الأخيرة التى صاحبت تلك الأحداث، والتى شكلت إخفاقا كبيرا وتسببت بألم مضاعف لدى الرأى العام، هى الإدارة الإعلامية والخبرية للعملية منذ لحظتها الأولى وحتى كتابة تلك السطور. الفجوة الزمنية التى استغرقتها وزارة الداخلية للخروج ببيان «أولى» يمسك بأطراف خيوط البث المعلوماتى، حيث إن ترك الساحة خاوية لمدة ٢٤ ساعة وهى فترة طويلة جدا، سمح «كالعادة» لآخرين من وكالات الأنباء والبث التليفزيونى الخبرى بتداول أرقام ووقائع بعيدة تماما عن الحقيقة. وامتدت الفترة التالية لساعات طويلة وثقيلة إضافية، حتى صدر بيان رسمى بحصر الشهداء والمصابين وحمل بعضا من ملامح عملية الاشتباك، واستندت وزارة الداخلية فى تبرير هذا الأمر فى ردها على وكالات الأنباء المحلية والدولية، إلى أن العملية الأمنية ممتدة طوال هذه المدة ولم تنته بعد. والحق هذه المرة يلزمنا بالقول إن هذا النسق بعيد كل البعد عما يتابعه الرأى العام المصرى على كافة المحطات الإخبارية، فى أحداث مماثلة تجرى فى كل بقاع العالم، البعض منها فى أوروبا مثلا يتابعه العالم على الهواء مباشرة منذ اللحظات الأولى وطوال ساعات تالية، فى ظل بيانات متوالية تصدر كل ساعة تقريبا تبدأ بـ«عاجل» فى نشر جزئى حتى تصل للاكتمال فيما بعد.
والمقارنة على الساحة العربية مع معارك تدور ضد التنظيمات الإرهابية، قد تطول لأيام أو أسابيع لها نسق مغاير لكنه لم يسقط قبلا فى فجوة الصمت التى ضربت الساحة المصرية، حتى ترك الشك والتشكك يلتهم الداخل والخارج وقبلهما المشهد برمته الذى فقد كافة مقوماته من دون مبرر مقبول. الأخطاء الفادحة التى ارتكبتها قنوات مصرية وعربية ودولية «ليس من بينها قنوات التزييف الممنهج»، جاءت تالية وكعرض جانبى لفاتورة ترهل وارتباك الإدارة الإعلامية التى عمقت وأضافت للخسارة ثمنا إضافيا. فالتقليل من وزن شراكة الرأى العام وأهميته فى معادلة الإرهاب، وافتراض قبوله الانتظار فى العام ٢٠١٧م لكى نقص عليه لاحقا ما جرى، هو افتراضية عبثية لا علاقة لها بواقع متابعته اللحظية وتقييمه لجدية واحترام من يتعاطى معه.
هذا «بعض» مما جرى حتى اللحظة؛ وربما تداعيات الكثير منه لا تزال قائمة وممتدة، لكنها عناوين ودوائر متداخلة حتى وهى تتلمس صورة كلية لا يشعر الكثيرون بالارتياح من تفاصيلها، وهو ما يستلزم وقفة لإعادة التقييم والنظر فى العديد من أشكال إدارة الملفات الأكثر أهمية، والتى تحتاج إلى رؤية ومعايير جودة منضبطة وصارمة ما زالت بعيدة عن الواقع التنفيذى لتلك الإدارة. وفى هذا نحن نبحث عن جدارة الوقوف أمام دماء الشهداء الذين يمثلون أفضل ما فينا، نسأل الله لهم الرحمة والعفو والمنازل العليا، ولوطننا النصر والرفعة دائما بإذن الله.

 

الدستور

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى