الأخبار

البابا تواضروس يكتب: تعلَّموا الرضا من «أم النور»

 

 

أمنا العذراء مريم كنز من الفضائل، ومهما تحدثنا عنها وعن شخصيتها وعن حياتها فلن نوفيها حقها، وهى التى نتشفع بها ونشعر بأنها فخر جنسنا البشرى، وعندما نذكر فضائلها نجدها عديدة جدًا، لكننا سنتحدث عن إحدى الفضائل القوية جدًا، التى نحتاجها فى زماننا وهى فضيلة «حياة الرضا».
نلاحظ أنه على مستوى الأسرة والفرد والمجتمع والعالم، أن حياة التذمر تزداد وتتسع، لكن عندما يأتى ذكر أمنا العذراء مريم نتذكر كيف أنها كانت إنسانة راضية، وناجحة. القديس بولس الرسول وهو فى السجن وفى قمة آلامه يقول: «قد تعلمتُ أن أكون مكتفيًا بما أنا فيه» (فى ٤:١١)، ونرى كثيرين يمتلكون كل شىء ولديهم من النعم الكثير، لكنهم ليسوا سعداء ومتذمرون من حياتهم، رغم أن نعم الله لهم كثيرة جدًا، وهذا الضعف قد يصيب الإنسان المكرس الذى يعيش فى أسرة، وقد يصيب الإنسان الذى يعيش، إما بمفرده أو داخل المجتمع.
الرضا هو شعور إيمانى وإيجابى وهو شعور داخل القلب الهادئ والنفس الهادئة، وهذا الشعور يعبر فى الإنسان عن قبول الحياة التى يقدمها الله له، وأهم شىء فى حياة الرضا هو الإحساس الدائم بالحضرة الإلهية، وأن ننظر فى كل أمور حياتنا إلى يد الله التى تعمل ونشكره على عطاياه مهما كانت صغيرة، وأن يشعر الإنسان بأن الله يدبر هذا الكون، وأنه ما زال يرعاه وهذا ما قاله داود النبى: «جعلت الرب أمامى فى كل حين لأنه عن يمينى فلا أتزعزع» (مز ١٦: ٨).
ومن صفات فضيلة الرضا:
– أن يرضى الإنسان بالاختيار والقرار الذى يتخذه، وعليه أن يتحمل مسئولية إنجاحه، فالكتاب يقول: «ليس أحد يضع يده على المحراث وينظر إلى الوراء» (لو ٩: ٦٢) وعلى الإنسان أن ينتبه إلى حروب التشكيك التى يوقعه فيها عدو الخير، فــ«راعوث الموآبية» تعرضت لآلامات شديدة وتغربت عن وطنها وتوفى زوجها، لكن عندما نقرأ قصتها نرى كم كانت راضية بمصيرها.
ووالدة القديس «يوحنا ذهبى الفم»، كانت فتاة جميلة توفى زوجها فى الحرب بعد وقت قليل من زواجهما وعاشت لولديها، ورغم أن ابنتها توفيت، وأراد ابنها أن يترهب، عاشت حياة الرضا، وربت ابنها الذى صار فيما بعد القديس «يوحنا ذهبى الفم».
– الرضا بالخدمة والمسئولية: فأحيانًا الإنسان يقارن نفسه بالآخر، لكنه يتعب لأن لكل إنسان وزناته، لذا يجب ألا يقارن نفسه بالآخر، لأن هذه المقارنة تجعل الإنسان يقع فى خطية التذمر وعدم الرضا، وآباء البرية يقولون: «كثير التنقل قليل الثمر»، ما يوجب على الإنسان الثبات لأن الله يرسم الحياة بدقة.
– الرضا بالآخر: نجده فى الزواج والعمل والخدمة، من خلال الرضا بالشريك الآخر، فالكتاب يقول: «اثنان خير من واحد لأن لهما أجرة لتعبهما صالحة، لأنه إن وقع أحدهما يقيمه رفيقه» (جا ٤: ١٠،٩) فإحدى علامات الرضا أن يكون الإنسان راضيًا بشركائه.
– الرضا بالظروف أو البيئة: تمر علينا أحداث وظروف ومتغيرات، فالله ترتيبه جميل فى كل يوم، ويرتب كل شىء لخيرنا حتى لو لم يكن ترتيبه مواتيًا لنا أو يسبب ضيقًا، ولكن يجب أن نرضى بالظروف البيئية، ونصلى صلاة الشكر فى كل حال ووقت وحين.
والرضا طبيعة شخصية فى الإنسان تكونت من خلال النشأة والتربية والتكوين، وهى إحدى أهم الفضائل التى يجب أن نزرعها فى الطفل الصغير، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، والكثير من الآباء والأمهات يشكون من عدم رضاء أبنائهم، وعدم فرحهم بما يقدمه آباؤهم لهم.
وهو أسلوب ونمط فى الحياة اليومية، فعلى الرغم من أن أمنا العذراء مريم كانت صغيرة السن، وتعيش فى مجتمع شبه مغلق وجاءتها بشارة الملاك التى كانت تسمع لأول مرة فى التاريخ، كان ردها تعبيرًا عن تمام حياة الرضا: «هو ذا أنا أمة الرب ليكن لى كقولك» (لو ٣٨:١)، مع أنه بالمقاييس الإنسانية والاجتماعية هذا الأمر مرفوض تمامًا، فهى فتاة عذراء وصغيرة السن، ولكن الرضا هو أسلوب حياة، فقد تربت على قبول الكلمة والبشارة. وقبول حياة الرضا علامة نجاح، فالإنسان الراضى هو دائمًا ناجح فى حياته، وليس المقصود بالإنسان الراضى السلبى أو المستكين، ولكنه الإنسان الإيجابى الناجح فى كل عمل تمتد إليه يده. الإحساس بالرضا يبدأ عندما ندرك أن الله هو كل ما نحتاج، فالمتنيح قداسة البابا شنودة الثالث وضع كتابًا عنوانه: «الله وكفى» الذى يعد أعظم كتاب كتبه قداسته، فى اختبار روحى صميم يعبر عن حياة الرضا، وكل ما نحتاجه نجده فى حضور الله، فالإنسان المحظوظ هو من يملأ الله قلبه ولذلك الرضا فى جانب آخر من جوانبه هو حياة الاكتفاء، وهو أصعب درس فى الحياة أن يكون الإنسان مكتفيًا بما لديه، وهذه هى قمة الحياة الروحانية.
الله خلق المسكونة كلها وجهز الحياة بأفضل ما يكون وأوجد آدم، ولكى يكمل سعادته وشعوره بإنسانيته أوجد معه حواء ككائن عاقل، وبدأت قصة الخليقة والسقوط بعدم الرضا، ولذلك حياة الخطية تبدأ بعدم الرضا ومثل ذلك الابن الضال الذى كان يعيش مكرمًا فى بيت أبيه، ولكنه لم يكن راضيًا وبدأ يتسرب له شعور بعدم الاكتفاء.
وسليمان الحكيم يقول: «النفس الشبعانة تدوس العسل» (أم ٧:٢٧) وهذا الشبع يتمثل فى الرضا والقلب البشرى مهما وضع فيه لن يمتلئ، وأحد الفلاسفة يقول: «الإنسان بئر من الرغبات»، لذا فإن الإنسان الذى يتذمر يخسر دائمًا.

الدستور

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى