الأخبار

منجم الفواخير مملكة الذهب

96

منعطف صخرى شديد الانحناء، معه تظهر لوحة الكيلو 90 على طريق «قنا – البحر الأحمر»، ومن خلفها تطل بنايات من طابق واحد، يظهر عليها بوضوح أثر العمارة الإيطالية فى البناء، محاطة بسلك شائك، ومغلقة ببوابة حديدية وإلى جانبها «صارى» يحمل لوحة صدئة، مكتوب عليه «منجم الفواخير لاستخراج الذهب».

المصنع متوقف منذ 63 عاماً.. و«البدو» ينقبون حوله

لم تكن البنايات وحدها التى تحمل الطابع الإيطالى فى البناء، ولكن أيضاً تلك الكنيسة الصغيرة التى تقابلك بمجرد الولوج داخل محيط المنجم، وإلى جانبها عربة خربة تحمل لوحات معدنية كتبت عليها أرقام بالإنجليزية، بضعة أمتار عليك أن تخطوها لتصل إلى معدات مصنع ضخم، يمتد لأكثر من أربعة طوابق، محاط بالصخور من كل جانب، وإلى جانبه قضبان شريط سكة حديد، هنا منجم ذهب الفواخير، القابع فى منطقة وادى الحمامات غرب مدينة القصير، الذى أسسه القدماء المصريون عام 1200 قبل الميلاد.

على مبعدة من البوابة الحديدية، يستقر «أحمد أبوالحسن» فنى مناجم، داخل إحدى الغرف، يعيش وحده داخل المنزل، فهو المخول له حماية المنجم، يعمل به منذ خمس سنوات، ويقول إن المنجم تحول من استخراج الذهب إلى مجرد مزار لطلبة الكليات التعدينية والمدارس، أشبه بمتحف لا يزوره إلا القلائل بين الحين والآخر، ولكن استخراج الذهب من المنجم توقف منذ زمن بعيد.

يتحرك «أبوالحسن» نحو المنجم، بصحبة فريق «الوطن»، على طريق صخرى وعر، مملوء بالفتحات فى قلب الجبل، ويشير الرجل الأسمر إليها: «ديه فتحات كانوا بيستخرجوا منها الذهب من المنجم أيام الإيطاليين قبل التأميم، ولكنها مش فتحة المنجم الرئيسية»، يتحرك الرجل بخطوات مثقلة من فرط صعوبة الطريق الصخرى، ويقول إن ما نتحرك عليه الآن من صخور ما هى إلا فضلات المصنع بعد استخراج الذهب من ألواح الكوارتز، التى تحمل بين طياتها حبات الذهب اللامعة.

«أبوالحسن» يعيش فى قنا ويقطع يومياً تسعين كيلومتراً نحو مقر عمله بالمنجم، يقول إن الفراعنة هم أول من استخرجوا الذهب، ووضعوا من أجله أول خريطة جيولوجية فى التاريخ، خاصة أنه كان يقع على طريق التجارة إلى أفريقيا، حيث كانت الرحلات التجارية تنتقل من ميناء القصير، الذى لا يبعد عن المنجم سوى 90 كيلومتراً ناحية الشرق.

بعيونه الواسعة، وجلبابه الرمادى، وشاربه الرفيع، وجسده النحيل، يخطو نحو فوهة المنجم، فتحة من الصخور، يمتد داخلها سلم حجرى، عليك أن تلتزم الحذر حين تخطو خطواتك الأولى عليها، يحذرنا العم «أبوالحسن»، مشيراً إلى أن المنجم مغلق ولم يدخله أحد منذ عشرات السنين، الجو بالداخل بارد، وينبعث من داخله هواء بارد لطيف.

يحذر الرجل الأربعينى بين الحين والآخر بضرورة التوقف عند حد معين، فالمياه الجوفية تملأ المنجم، رغم تلك المواسير التى تمتد بجانبك ولكنها توقفت عن عملها بسحب المياه من الداخل منذ توقف التعدين بالمنجم، ما زال الرجل يلقى التحذيرات حتى تباغتك يمامة بالخروج، يقول إنها اتخذت من المنجم مسكناً منذ زمن بعيد، وإنها ليست وحدها ولكن الكثير من الحيوانات والطيور تعيش بداخله فى مأمن من الخطر وبعيداً عن حرارة الجو، أمتار قليلة وتظهر جلية عروق الذهب اللامع داخل أحجار الكوارتز، يشير الرجل بفرحة شديدة: «هو ده الذهب».

قضبان سكك حديدية تمتد بمحازاة السلم الحجرى الذى كان مسلكاً للعمال قديماً لداخل المنجم، وعلى القضبان كانت تسير عربات حديدية تحمل بداخلها ألواح الذهب، وتصعد به إلى داخل المصنع، وإلى جانب فوهة المنجم يستقر سلم خشبى يظهر عليه القدم، عمره من عمر مصنع الذهب الملحق بالمنجم، يترجل «أبوالحسن» نحوه فى اتجاه لصعود الجبل، ويقول: «ماتخافوش السلم قديم آه بس من صناعة الإيطاليين فمعمول بضمير»، وبالفعل يصعد عليه بكل ثقة مسافة تزيد على عشرين متراً، ويمتد المسير على بقايا أحجار الكوارتز التى شكلت جبلاً موازياً للجبل الذى يتم استخراج الذهب منه، ورغم قسوة تلك الأحجار وحدتها ولكن يخطو فوقها «أبوالحسن» مسرعاً دون خوف.

على ارتفاع أكثر من 20 متراً يقبع المصنع، يقف الرجل ويشير إلى تلك العبوات الحديدية العملاقة التى حط عليها الصدأ، ويقول إنها كسارات كانت مهمتها تفتيت أحجار الكوارتز الضخمة، ومنها إلى براميل يتم طحنها بشكل أكبر ومنها إلى مطحنة أخرى حتى تصبح حبيبات صغيرة للغاية أقرب إلى شكل: «زى الدقيق ناعم خالص»، ومنها إلى حجرة كبيرة تمتلئ بالعبوات الخشبية، مهمتها تصفية وتنقية الذهب، قبل الدخول لعملية تحويله إلى سبائك.

سلم خشبى آخر ينتهى بممر حجرى يصل بك إلى حجرات إدارة المصنع، وعلى طاولة خشبية جمع «أبوالحسن» بقايا المصنع، مروحة قديمة وهاتف، بقايا المصنع جمعها أبوالحسن كنواة لمتحف عن المنجم، على جانبها بوابة خشبية لغرفة صغيرة ممهورة باسم: «مكتب الكونت»، يقول أبوالحسن إنه يتبع «دون دى لى فيزون» وهو الخواجة الإيطالى، الذى كان يدير المصنع حتى مرحلة التأميم فى عصر عبدالناصر، مشيراً إلى أنه كان ينقل الذهب من خلال طائرته الخاصة إلى أوروبا، ويقول إن المصنع أيضاً يضم مطاراً على بعد بضعة كيلومترات منه، كانت تقلع منه طائرة الكونت حاملة سبائك الذهب، سلك حديدى يفصل بين غرفة «الكونت» والمرحلة الأخيرة لتصنيع الذهب، أحواض معالجة كيميائية للأحجار المطحونة، قبل أن يذهب لمرحلة تحويله إلى سبائك الذهب.

أكثر ما يرهق أبوالحسن وحراس المنجم هو عمليات تنقيب البدو والمعروفون باسم «الدهابة» حول المنجم: «هما متخيلين إن المنجم فيه ذهب وسهل يستخرجوه، عشان كده حاولوا أكتر من مرة ينقبوا فيه بس بنبلغ الهيئة على طول»، ولا يستطيع الرجل فى كثير من الأحيان مواجهة تحرش الدهابة بأرض المنجم: «ناس معاه سلاح ومعدات نروح فيهم فين إحنا».

الدكتور مصطفى إسماعيل، مدير عام هيئة الثروة المعدنية بالبحر الأحمر، واستشارى العلوم الجيولوجية والبيئية يقول لـ«الوطن»: إن منجم الفواخير يضاهى إنتاجه، إذا عاد للعمل، منجم «السكرى»، ولكن المصنع الملحق به لا يصلح سوى لمتحف، فما به من معدات لا تصلح للعمل، فالتقنية الخاصة به قديمة ولا تصلح للعمل فى الوقت الحالى، بجانب أن المنجم يصلح ليكون مكاناً لملتقى إنتاج أكثر من 18 منجماً آخر تحت أراضى مدينة القصير، خاصة فى منطقة وادى الحمامات.

الحيوانات والطيور تسكن المنجم الذى أسسه قدماء المصريين عام 1200 قبل الميلاد.. والمصنع تحول إلى متحف

ويضيف «إسماعيل» أن وادى الحمامات الذى يضم منجم الفواخير وعدداً من المناجم الأخرى يستخرج منه الذهب منذ القدماء المصريين، ونشط التنقيب هناك فى عصر محمد على، حتى عام 1941 حين جاء الكونت «جون دى لى فيزون» إلى منطقة وادى الفواخير وأخذ بقايا التنقيب، ووضعها فى أحواض أسمنتية لتنقية الذهب من الشوائب، «فاستحلى العملية» وأنشأ مصنع ذهب فى منطقة أم الفواخير، ليكون أقدم مصنع لاستخراج الذهب، وتابع: الكونت «جون» بدأ استخدام الفتات التى كان ينقب فيها القدماء المصريون، وكان يصدره للخارج، مشيراً إلى أن المنجم كان إنتاجه غزيراً جداً، حيث كان يخرج من طن حجر 13 جراماً من الذهب: «وقتها كان يكتب اسمه على الذهب ويصدره لبره والحكومة المصرية ماكنتش بتاخد مليم واحد منه»، حتى توقف عام 1953، حيث رحل المنجم ببدء عمليات التأميم.

لم يكن مصنع الفواخير يعتمد على منجمه فقط ولكن كان ملتقى لتجمع إنتاج أكثر من منجم، التى تنتشر فى منطقة الحمامات، ومدينة القصير، ولكن توقف العمل بعد ثورة 1952 ولم تهتم الدولة بتشغيله لرخص ثمن الذهب حينها: «كان سعر الجرام وقتها 59 صاغ»، وظل مغلقاً حتى الآن.

63 عاماً ظل المنجم مغلقاً، ويقول «إسماعيل»: لم تكن هناك التكنولوجيا الحديثة التى تسمح باستخراجه بسهولة، ولم تهتم أى حكومة خوفاً من الخسارة: «قالوا مش هيجيب همه»، ويؤكد أن ظهور الدهابة من البدو الذين يبحثون عن استخراج الذهب فى المنطقة، لا يضرون بالمنجم، فهم يبحثون عن الذهب فى طبقات قريبة جداً من الأرض، فى حين أن التعدين يقوم على التنقيب على الطبقات العالية، وهو ما لا يسبب ضرراً، بل يطالب الرجل بتقنين عملهم ليكون تحت إشراف الحكومة وتستفيد الحكومة منه: «هو بيعتمد على الفتات اللى جاى من الفيضانات والسيول للوديان».

ويقول «إسماعيل» إن هيئة الثروة المعدنية طرحت مقترحاً لتحويل المنجم إلى متحف أثرى لاستخراج الذهب فى مصر، بعيداً عن عملية استخراج الذهب، الذى يُخطط أن يعاد العمل به من خلال مشروع المثلث الذهبى، مؤكداً أن إعادته للعمل كنز مفقود لمصر، فالمنطقة مجهزة ليكون بها مصنع، بخلاف المطار الموجود، وبها أيضاً ثلاث آبار مياه نظيفة تصلح للشرب، والكثير من الإمكانيات التى تساعد على وجود مشروع ناجح جداً.

16 منجماً للذهب تعيش عليها مدينة القصير، حسب رواية «إسماعيل»، الذى يؤكد أن المساحة التى تحيط بالمدينة هى مستقبل الثروة المعدنية فى مصر، ولكن إذا طبق مشروع المثلث الذهبى كما يجب، ويكون لكل منجم مدينة تعدينية تحيط به، ونحن فى الانتظار.

الوطن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى