فن وثقافة

متحف نجيب محفوظ.. علامة مصرية جديدة في التاريخ الثقافي العالمي

يشكل “متحف ومركز إبداع نجيب محفوظ” علامة مصرية جديدة في التاريخ الثقافي العالمي بعد أن أشرق بعناق المكان والزمان على العالم من قلب القاهرة العريقة والتي ارتبط بها الأديب النوبلي المصري الراحل كل الارتباط وتجلت في إبداعاته الروائية ومجموعاته القصصية الخالدة.

وبالإنابة عن رئيس مجلس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي، كانت وزيرة الثقافة الدكتورة إيناس عبدالدايم، ووزير الآثار الدكتور خالد العناني، قد افتتحا، أمس الأحد، “متحف ومركز إبداع نجيب محفوظ” بحضورمحافظ القاهرة خالد عبدالعال جنبا إلى جنب مع “أم كلثوم” نجلة الأديب النوبلي الراحل نجيب محفوظ، وكوكبة من الشخصيات العامة والمبدعين والمثقفين، ومن بينهم الروائي والبرلماني يوسف القعيد.

وبعد تكريم نجيب محفوظ ومنحه قلادة النيل لفوزه بجائزة نوبل في الآداب عام 1988، كان يوسف القعيد قد نقل عن سيد الرواية المصرية قوله: “إن الحفل الذي أقامته لي بلادي أهم من أي حفل آخر”.

وجاء الحضور الحاشد في حفل افتتاح “متحف ومركز إبداع نجيب محفوظ” في حي الأزهر دالا على أهمية هذا الحدث الثقافي الكبير الذي شارك فيه سفراء ودبلوماسيون من دول شتى حول العالم، فيما نوهت وزيرة الثقافة بأن افتتاح المتحف صفحة جديدة في سجل الإنجازات المتوالية والتي ندعو للفخر.

والمتحف الذي أقيم في المبنى التاريخي “تكية أبو الدهب” بدأ العمل في تأسيسه منذ عام 2016، ويتكون من طابقين ويتضمن قاعة للندوات ومكتبة عامة ومكتبة سمعية-بصرية وأخرى نقدية تحوي دراسات وأبحاث مهمة عن ابداعات نجيب محفوظ، فضلا عن قاعات للأوسمة والميداليات والشهادات التي منحت له ومتعلقاته وأوراقه الشخصية ومؤلفاته وصوره وحملت تلك القاعات التي تضمنت قاعة للسينما أسماء دالة على ابداعات محفوظ مثل: “نوبل والحارة وتجليات وأحلام الرحيل وأصداء السيرة”.

وتتضمن مقتنيات المتحف والتي سلمتها أم كلثوم نجيب محفوظ لوزارة الثقافة في مطلع عام 2011 أشياء حميمة مثل قلمين “أحدهما حبر والآخر جاف” أهداهما الأديب الكبير توفيق الحكيم الذي اشتهر بالحرص لصديقه نجيب محفوظ، فضلا عن ملابس للأديب النوبلي المصري وساعته المعدنية وحتى نظارات وعدسة للقراءة ومستلزمات حلاقة الذقن وسبحة وقطعة صخرية من سور برلين الذي كان يفصل العاصمة الألمانية الحالية إلى شطرين في عصر الحرب الباردة.

و”تكية أبو الدهب” التي أقيمت عام 1774 قريبة من البيت الذي ولد فيه نجيب محفوظ بحي الجمالية في قلب القاهرة المعزية التي استلهم منها الأديب النوبلي المصري أغلب شخصياته وأماكن رواياته مثل “بين القصرين وقصر الشوق والسكرية وزقاق المدق وخان الخليلي” فيما يأتي اختيار هذا المكان في سياق توجه مصري للاستفادة من كل المباني الآثرية المغلقة واستغلالها الاستغلال الأمثل.

وفيما تثير كلمة “التكية” كمفردة تاريخية تداعيات ذهنية تشير لعالم الدراويش والمتصوفة وأبناء السبيل، فإن هذا العالم كان منجما ثريا لإبداعات نجيب محفوظ الذي ولد في 11 ديسمبر عام 1911 بحي الجمالية، وقضى “صاحب الحرافيش” في 30 أغسطس عام 2006 وكان قد اختار دراسة الفلسفة وتخرج من جامعة القاهرة عام 1934.

وداخل هذا المتحف والمركز الإبداعي المصري الجديد، يلتقي الزائر بشخصيات عالم نجيب محفوظ وأفلامه والحارة المصرية التي ألهمته إبداعاته كما يتفاعل مع أصداء سيرته الثرية المديدة ومسيرته الأدبية التي تشكل العلامة الرائدة في الأدب العربي الحديث، فيما يجد في “قاعة التجليات” أفكاره الفلسفية كما تبدت في سلسلة نقاشات مع الكاتب والأديب الراحل جمال الغيطاني ويستعيد الأجواء القاهرية الحميمة في “ركن مقهى الحرافيش”.

وإذ وجهت الدكتورة إيناس عبدالدايم الدعوة لكل المواطنين وخاصة الشباب والأجيال الجديدة لزيارة المتحف الذي يحمل اسم أحد أعلام قوة مصر الناعمة، فإنها أعلنت أن دخول المتحف “مجاني لمدة شهر بمناسبة افتتاحه”.

إن احتفالات الأمم وتكريم الشعوب لمبدعيها مثلما يفعل المصريون مع أديبهم الكبير نجيب محفوظ تشكل مددا لتشجيع المواهب الصاعدة بقدر ما تثري التاريخ الثقافي للدول في الشرق أو الغرب.

وكانت بريطانيا قد شهدت في العام الماضي احتفالات كبيرة بمناسبة الذكرى المئوية الثانية لرحيل الروائية جين أوستن وتحدث مثقفون عبر صحف ووسائل إعلام بإعجاب عن وضع صورة لجين أوستن على العملة البريطانية من فئة الـ10 جنيهات إسترليني لتكون أول كاتبة في العالم تحظى بهذا التكريم وليتداول صورتها كل البشر الذين يتداولون هذه العملة.

ولقد ثار نوع من الجدل حول خلفيات هذا القرار ومعايير اختيار كبار المبدعين والشخصيات الأدبية التي توضع صورها على العملات النقدية فواقع الحال أن قرار اعتماد صورة جين أوستن على ورقة البنكنوت من فئة الجنيهات العشر الإسترلينية جاء بناء على التماس رفع للبنك المركزي في بريطانيا ووقع عليه 35 ألف شخص.

وتحمل أوراق البنكنوت صورة جين أوستن مع خلفية للبيت الذي نشأت فيه وعبارة جاءت على لسان شخصية في روايتها “كبرياء وتحامل” وهي: “أرى الآن و في نهاية المطاف أنه لا متعة تعادل متعة القراءة” وهي متعة لطالما تحدث عنها الأديب النوبلي المصري نجيب محفوظ فيما يضم متحفه الجديد العديد من كتبه.

ومع افتتاح متحف نجيب محفوظ الذي يليق باسم وتاريخ هذا المبدع المصري الكبير يحق للمصريين أن يشعروا بالفخر حيال هذا الإنجاز كما يشعر البريطانيون بالفخر حيال متحف جين أوستن المقام في البيت الذي عاشت فيه سنواتها الأخيرة ببلدة شوتون في منطقة “هامشاير” ويضم مقتنياتها التي تحولت إلى “جزء من الثروة القومية والتراث الوطني البريطاني”.

وللقاهرة أن تزهو بمتحف نجيب محفوظ الذي يعد أفضل من عبر عن العاصمة المصرية والروح القاهرية كما تزهو كبريات المدن في العالم بمتاحف الأدب مثل “متحف الأدب الحديث” في العاصمة الصينية بكين الذي يوصف بأنه من اكبر المتاحف الأدبية في العالم ويضم 6 قاعات عرض وقاعة للقراءة ومكتبة تحوي أعمالا أدبية مختلفة بأعداد هائلة.

وتنهض متاحف الشخصيات الأدبية والثقافية الخالدة في التاريخ الإنساني بدور مشهود على صعيد “السياحة الثقافية” مع تدفق الزائرين على هذه المتاحف، فإن تلك الحقيقة تشير لدور مهم لمتحف نجيب محفوظ على هذا الصعيد وبكل مايعنيه ذلك المتحف من تكريم للإبداع كما جسده صاحب الإبداعات الروائية مثل: (الثلاثية، وبداية ونهاية، وخان الخليلي، والسراب، والسمان والخريف، والطريق، وميرامار، وثرثرة فوق النيل، والحرافيش).

وهذه الحقيقة المتعلقة “بالسياحة الثقافية” تجلت من قبل في متاحف ثقافية مثل متحف جين أوستن التي ولدت في بلدة “أوستن” بمنطقة ستيفنسن يوم 16 ديسمبر عام 1775 وقضت يوم 18 يوليو عام 1817 هي صاحبة روايات ذاعت شهرتها في العالم وبعضها تحولت إلى أفلام سينمائية مثل “كبرياء وهوى” و”كبرياء وتحامل” و”العقل والعاطفة”، فيما تتناول رواياتها جوانب من حياة طبقة ملاك الأراضي البريطانيين في القرن الـ18.

وإذا كانت صاحبة روايات “إيما” و”مانسفيلد بارك” و”اقناع” و”دير نورثانجر” مازالت حاضرة في المشهد الثقافي الغربي بابداعاتها التي باتت من أهم “الدروس لطلاب الكتابة الإبداعية” كما تقول جمهرة النقاد في الصحافة الثقافية البريطانية فإن الأمر ذاته ينطبق على حضور النوبلي نجيب محفوظ في الحياة الثقافية والأدبية المصرية والعربية ككل.

ولاريب أن متحف نجيب محفوظ بكل رمزيته يكتسب طابعا عالميا مع الاهتمام الكبير من جانب قراء في كل مكان بالعالم بإبداعات هذا المصري الحاضر بروائعه الروائية والقصصية وشأنه شأن المبدعين الكبار في العالم فإن أحد أهم أسباب الشغف برواياته أنها “روايات قابلة لتأويلات مختلفة وتفسيرات متعددة”.

فكل قارئ يمكن ان يفسر هذه الروايات المحفوظية حسب تذوقه وأن يمنحها تأويلات جديدة على مر الأيام وهذا شأن وسمة المبدعين العظام وفي مقدمتهم الشاعر والكاتب المسرحي الإنجليزي ويليام شكسبير.

ومازالت إبداعات نجيب محفوظ بأجواء الحارة المصرية الحميمة تشكل أيضا مصدر إلهام للدراما سواء على الشاشة الكبيرة أو الصغيرة فيما يمكن لزائر متحفه أن يجد الكثير من المتعة في قاعة السينما، فضلا عن الصور لشخصيات أبدعها مثل “السيد أحمد عبدالجواد ” ليكتسب هذا المتحف والمركز الإبداعي أبعادا متعددة كلبنة هامة في صرح التاريخ الثقافي لمصر.

متحف نجيب محفوظ هو متحف مصري في عناق الزمان والمكان لتكريم مبدع مصري حاضر في الوجدان المصري والعالمي. وإنها مصر التي تكرم مبدعيها الكبار وتضبط إيقاعات المستقبل على لحن الإبداع وتمنح العالم علامة ثقافية جديدة وفاء لرسالتها الحضارية الخالدة.

الشروق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى