الأخبار

بالصور… الصور والتماثيل – خط أحمر

84e

بقلم دكتور محسن عطيه

في لقاء على إحدى الفضائيات أطلق مؤخراً أحد قيادي الحركة السلفية الجهادية في مصر دعوة لهدم تمثال أبو الهول، على اعتبار أنه صنم ووثن تحرمه الشريعة. بل صرح بأنه قبل عشر سنوات اشترك في تحطيم تمثال “بوذا” في أفغانستان، مخالفاً القانون الذي يعاقب الاعتداء على الكنوز الأثرية.

ومثل هذه الفتاوى التي تحرم الصور صدرت بعد الثورة التي كان وسيطها الجوهري لتواصل ثوارها هو الصورة. وحجة فتاوى التحريم أن الصورة تحتمل شبهة مضاهاة الله سبحانه في خلقه. وتستند إلى أحاديث نبوية مثل الذي رواه “ابن عباس”، ويقول “سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :” من صور صورة فإن الله معذبه حتى ينفخ فيها الروح وليس بنافخ فيها أبدا”(رواه البخارى ومسلم).

أما فتوى الإمام “محمد عبده”(1903) (الواردة فى كتاب “محمد عبده” للكاتب عباس العقاد-، سلسلة أعلام العرب) بعنوان “الصوروالتماثيل وفوائدها وحكمها” فيصرح فيها بنفى شبهة التحريم عن الفن بقوله “إن الرسم ضرب من الشعرالذى يُرى…أما إذا نظرت إلى الرسم وهو ذلك الشعرالساكت، فإنك تجد الحقيقة بارزة لك…تمتع بها نفسك كما يتلذذ بالنظر فيها حسك، إذا دعتك نفسك إلى تحقيق الاستعارة المصرحة…فانظر إلى “أبى الهول” بجانب الهرم الكبير تجد الأسد رجلاً أوالرجل أسداً. فحفظ هذه الآثار حفظ للعلم فى الحقيقة، وشكراً لصاحب الصنعة على الإبداع فيها”.

ورجوعاً إلى تراثنا من الفن الذي تحفظه متاحف العالم، فهل كانت المحاكاة هدفاً للفنانين يوماً، بقصد المشابهة أوالتسجيل المطابق للواقع البصري حتى يتهم الفنان بمضاهاته لخلق الله؟.
لقد اعتمدت الطرزالفنية العظيمة وعلى رأسها الفن المصري عبرعصوره المختلفة،على أساليب التجريد والرمز؛ لأن الفن عندما يصل إلى مستوى الإبداع يكون قد تحقق على أساس أساليب الاستعارة، حيث تمتزج الصور بشعورالفنان وبتخيلاته. وفي الحقيقة أن المشكلة ليست في صدورالفتاوى، وإنما في غياب الموضوعية في اختيار النصوص التي يستند إليها من يصدر الفتوى.

ومن المؤكد أن الناس في عصرالصورة لا ينظرون إلى الصورة أو إلى التمثال على أنهما يمثلان رموزاً وثنية، بل هما من رموز الجمال ومن دلائل رقي الحواس والمشاعر التي تدرك ذلك الجمال. ولقد شهد العالم بأجمعه على عبقرية الإنسان المصري الذي قدم الدليل على نمو حساسيته الجمالية، وقدرته على التعبيرعما يجرى في مخيلته وما يحرك عواطفة، وعما يجسد أحلامه ورغباته، فيرسم الأفكار ويحول المعاني إلى روائع فنية تدرك بالبصيرة، وتلمسها الحواس.

وتشهد الرسوم الصخرية على جدران كهوف العصر الحجرى بصحراء مصر الغربية، مثل رسوم مغارة السباحين، ورسوم كهف المستكاوى (منطقة الجلف الكبير) على أن الفن المصرى لم يظهر فجأة مكتملاً ومتميزاً بأساليب التجريد والرمز التي تبرئه من تهمة المشابهة المتطابقة مع المرئي. وقد سبق هذا الفن أقدم الرسوم المعروفة في تاريخ  المصريات بآلاف السنيني(عشرة آلاف سنة قبل الميلاد).

أما تلك الصحراء في غرب مصر، والتي تُرى الأن خالية من الحياة فكانت منذ عشرة آلاف سنة عامرة بالمياه وبكل أنواع الحيوانات. ويشهد على ذلك مغارة “كهف السباحين” المرسومة بأجمل الصور، والتي تكونت بفعل تدفق مياه البحيرات مع هطول الأمطار، فأدت إلى نمو السافانا ومختلف أنواع الحيوانات وجذبت اليها مجموعات الصيادين. أما وقد حل الجفاف (ستة آلاف سنة قبل الميلاد) وتقلصت الغابات فى تلك البقعة من أرض مصر، واختفت تلك المستوطنات وزحفت البيئة الصحراوية، فاضطرالناس للنزوح شرقاً نحو وادى النيل، حيث استقرت الحياة.

وبالرسوم المسجلة على جدران الكهوف ترك المصريون دليل وجودهم السابق، في منطقة الجلف في وادى “سورا”  حيث كانت هناك تقع بحيرة اختفت، وبقيت المغارة التي تشتمل على الرسوم الرائعة شاهداً على  وجود البحيرة قبل أن تختفى، وتمثل إبداعاً ثقافياً يضاف إلى عبقرية المكان والإنسان الذي عاش على أرض مصر.

وتبرهن الرسوم الصخريةعلى جدار”كهف السباحين” بصورها لعشرات الأشخاص تسبح بحركات رشيقة، بالإضافة إلى صور صيد الحيوانات والأسماك. وتمثل بعض هذه الرسوم علامات سحرية لها معانيها المقدسة، وبمقدورها أن تفصل من يتأملها عن عالم الدنيا وتصله بعوالم ما وراء الواقع. والذي يجذب المشاهد لتأمل الرسوم كونها ليست مجرد صور توضيحية تسجل ما رآه الفنان، وإنما لكونها حولت صور الواقع إلى أفكار وتخيلات لعوالم ما فوق الواقع، حتى اكتسب الرسم فعاليته و تأثيره السحرى فى السيطرة على الواقع.

وفي الحقيقة أن رسوم الأشخاص في “كهف السباحين” أو في “كهف المستكاوى” لم تكن مشابهة لأشخاص حقيقيين، وإنما استخدمت طريقة إختزالية في تنفيذها بلون وحيد هو الأحمرالداكن، وبذلك اختزل الفنان باقى الألوان والتدرجات وأى تميزات للتشابه مع الواقع، بل رسم الأشخاص جميعهم وهم يسبحون أويغطسون بأسلوب تجريدي، توصل إليه الفنان عندما لم  يتعمد رسم ما يراه مباشرة، بل كان يختزن ما الصور في ذاكرته، ثم يمزج ما اختزنه بعواطفه ورغباته. وذلك يفسر المبالغات التى أنتجت صورالأشخاص فى “كهف المستكاوى” ذات الرؤوس الصغيرة المستديرة والرقاب النحيفة والمناكب العريضة والخصورالضيقة، وحتى الأذرع والسيقان بدت مستدقة. لقد رسمت تلك الصور مثل وحدات فى تصميم قطعة نسيج، فهل يعقل أن من قام برسمها قصد مضاهاة خلق الله؟.

ومهما أظهرالإنسان المصري على مرتاريخه ميلا ً لتوثيق صلته العاطفية والحميمة مع الطبيعة التى يعيش فيها، بما يلبى أمنياته فى هذه الحياة، فإن ممارسته للعمل الفنى تظل مجالاً يلائم حاجته للتعبيرعن مشاعره وأفكاره وتقديراته لمواطن الجمال فيما حوله، بل والتعبيرعن سعة خياله ومقدرته على الإبداع، وعلى منح الصورالعابرة صفة الخلود، بقدرتصويره الفني للوجود الذى يجمع بين الإنسان والطبيعة كثنائية متكاملة، لها أبعادها الإنسانية والكونية. وقد اندمجت الصورة مع إحساس الفنان الذى أسقط وجوده وحياته فى عمله الفني.

وبالرغم من أن رسوم البشر والحيوانات الوحشية المسجلة على جدران”كهف المستكاوى” تعطي قدراً من المعرفة بالخصائص الطبيعية للكائنات التي عاشت في هذه البقعة من أرض مصر، إلا أنها ليست سجلات معرفية بقدر ما هي صورا مجازية جوهرها فكرة وجودية وغيبية، وصنعة تشهد على ما توصل اليه الفنان المصرى فى تلك الآونة، من النمو التقني في إنجاز الرسوم بإسلوب خاص ونمط فني مميز، ينم عن مستوى متطور من الثقافة ومن أسلوب الحياة.

‏وتضم السهول بين هضبة الجلف الكبير وجبل العوينات‏،‏ صخوراً رملية ومناطق جبلية وودياناً عميقة. وفي الحقيقة أنه لم تكن الرسوم على سطح الصخور بغرض نقل صورة وثائقية عن أحداث جرت فى زمنها، وإنما هي تمثل “بيئة كونية” من الرموز والعلامات التى بوسعها أن تستثير أحاسيس باطنية وأفكار حول الخصوبة أوالذكورة، وأمنيات يرغب الإنسان فى تحققها ولو خيالياً. وكل ذلك يعطى الإجابة عن سبب تميز الرسوم بطبيعة ازدواجية، تجمع بين الصفة ونقيضها في وحدة ثنائية.

وهناك أمثلة واضحة لصور كائنات ثنائية الطبيعة، تجمع بين صفات بشرية وأخرى حيوانية مرسومة على جدار كهف‏ “المستكاوى” أوكهف “وادى سورا”؛ حيث رسمت الحيوانات التي كانت تعيش في المنطقة شبه الاستوائية مثل الزراف والفيل ووحيد القرن.  وظهرت مثل هذه الرسوم تشبه مخلوقات غريبة، بذيول طويلة وبعضها بلا رؤوس وبسيقان بشرية، وتبدو من الناحية الجمالية رائعة جداً.

إنها صور إنسانية/ حيوانية توحي بتغير فى الحالة الطبيعية. وبالطبع لها معنى  يتعلق باقترانات أسطورية. والمعنى ذاته ينطبق على تمثال “أبى الهول” مثل الذى أنجزته العبقرية المصرية  قبل آلاف السنين في الرسوم الصخرية في كهوف صحراء مصر الغربية، مما يؤكد المبدأ ذاته عن مفهوم العمل الفنى الذى ليست قيمته فى الوصف التسجيلى للموجودات، وإنما فى التعبيرعن فكرة و مشاعرالفنان بإستعارات بلاغية ورموز.

وبالرغم من أن الرسوم فى “كهف السباحين” هى دليل على وجود البحيرة، وعلى ممارسة السباحة والغطس بحثاً عن الطعام، أوللعثورعلى ملاجئ الأسماك، أوللتصدى للأخطار، وقد شملت حركات السباحين المصورة السباحة فوق السطح وتحت الأمواج، أو للأمام وللخلف، أوبضربات أذرعهم من فوق الرأس، أو بالزحف على البطن، إلا أن لهذه الصور معنى يختفى وراء التسجيل المباشر لأساليب السباحة فى الواقع. ذلك المعنى يدل على أن الإنسان قد توصل فى ذلك الوقت إلى حقيقة الفن الذى يختمر ببمارسة التجربة الخيالية والسمو بهذه التجربة، إلى ما وراء الواقع؛ ليمنح الفنان حلمه بالسباحة فى الهواء والذى ظل يسيطرعلى عقله، شكلاً مرئياً.

وفحوى ذلك الحلم الذي لا تكاد تخلو منه حكايات المغارات، فكرة الانتقال من مكان إلى آخر فى زمن قياسي، كنوع من السحر، بأنه يرجع إلى كون الإنسان قد عاش فى مرحلة (منذ 6مليون سنة) في الماء، وأن أجداده كانوا مائيين أو نصف مائيين. وكذلك عاش الجنين في رحم أمه شهورا قبل ولادته فى بيئة مائية. ومن هنا يمكن تفسير رسوم “كهف السباحين”على أساس أنها تمثل نوعاً من السباحة فى الهواء، كحلم يقظة ما يزال يمارس للتحرر من القيود.

ولأن رسوم صخرة “كهف السباحين” لم تكن مجرد صورة  تسجيلية لممارسة السباحة، وإنما فى حقيقتها تمثل حجاباً يفصل أو يصل  بين عالمين أحدهما مادى والآخر روحى . أما الرسم على سطح الصخرة فقد أزاح ذلك الحجاب، فنفذ العالمان عبر بعضهما، وعبرالتخطيطات الحمراء ,وامتزجا العنصران في ثنائية متكاملة (مادي/ روحي) مثل بيئة خصبة مناسبة لإثارة الدوافع أو للدخول في حالة الإندماج أو التقمص الروحى للسيطرة على الظواهر المجهولة.

إن نقد موقف المنحازين لفتاوى منع أو كراهية أو تحريم الفنون بحجة أن وظيفة الفن هي مضاهاة خلق الله أو تحقيق التشابه مع الواقع، أو الوقوع في وزر عبادة الأوثان، يتوقف على فهم الفن الحق فى كونه يتشكل من الرموز والصيغ البلاغية التي تستند إلى أساليب التجريد والاختزال والتورية والاستعارة والرمز، مما يدحض أسانيد دعاة المنع أو التحريم.

وليس هناك حاجة للبرهان على أن المصريين قد مارسوا “التفكيرالرمزي” منذ زمن بعيد جدا، كمرحلة متقدمة من نموهم العقلي. والرسوم الصخرية في صحراء مصر الغربية خير برهان، وكذلك كل الإبداعات الفنية الرائعة التي أنجزتها عبقرية الفنان المصري عبرالعصور، مما يعرض الأن فى كل متاحف العالم، والتي زرعت نواتها على جدران الكهوف التي تعود إلى العصرالحجري في صحراء مصر الغربية.

84

84a84b84c84d

محيط

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى