أمريكا والإسلاميون وآن باترسون!

أسامة الغزالى حرب
ربما يرصد دارسو التاريخ السياسى للقرنين العشرين والحادى والعشرين أن أحد أهم الموضوعات المتكررة فيهما، كان ظهور تلك العلاقة الفريدة والمعقدة بين الولايات المتحدة الأمريكية، القوة العظمى (التى تقاسمت قمة العالم مع الاتحاد السوفيتى حتى نهاية الثمانينات من القرن الماضى، ثم انفردت بها بعد ذلك)، وبين الإسلام والعالم الإسلامى! إنها علاقة حب وكراهية فريدة، بلغت ذروتها المأساوية فى أحداث 11 سبتمبر عام 2001 فى نيويورك؛ حيث تلقت الولايات المتحدة، على يد «إسلاميين»، أكبر صفعة، أو أكبر ضربة فى تاريخها، بادرت بعدها بمحاولة إعادة صياغة الشرق الأوسط كله (القاعدة الأساسية للإسلام والمسلمين)، لكنها لم تتخلّ أبدا عن دعم «الإسلاميين» ما داموا يحققون مصالحها وأهدافها الاستراتيجية فى المنطقة، أكثر من أى قوة أخرى محتملة! وقد اعتمدت السياسة الأمريكية فى رسم وتنفيذ تلك اللعبة السياسية الخطرة دائما على كوادر عالية المقدرة والكفاءة، من الذين تمرسوا فى التعامل مع العالم الإسلامى، سواء فى أجهزة المخابرات أو الجامعات ومراكز الأبحاث أو الدبلوماسية، ولا شك أن من أبرز هؤلاء -فى المرحلة الأخيرة- سفيرتهم فى القاهرة، آن باترسون!
العنصر الأقدم فى العلاقات الأمريكية الخاصة بالإسلام كان هو محاربة الشيوعية! فمنذ ظهور الاتحاد السوفيتى، ثم اشتعال «الحرب الباردة» فى أربعينات القرن الماضى، كانت القوى السياسية الإسلامية هى إحدى الدعائم للحرب الأمريكية ضد الشيوعية بشكل عام، والاتحاد السوفيتى بشكل خاص. وفى هذا الإطار كان الإخوان المسلمون إحدى الأدوات الرئيسية التى اعتمدت عليها الولايات المتحدة الأمريكية من خلال أجهزة مخابراتها ودبلوماسييها، ليس فقط فى مواجهة التهديد الشيوعى، وإنما أيضا فى مواجهة المد القومى الذى شهد دفعة قوية على أيدى عبدالناصر فى الخمسينات والستينات. تلك إحدى بديهيات التاريخ السياسى للشرق الأوسط، التى تجعل التساؤل عن العلاقة الأمريكية – الإخوانية مسألة مثيرة للدهشة والاستغراب؛ فالأصل هو أن تلك العلاقات هى علاقات تحالف تاريخى استراتيجى بعيد المدى (ولن أقول هنا علاقة عمالة!). حقا، لقد اهتم الأمريكيون منذ الأربعينات فى معركتهم ضد الشيوعية ببناء العلاقة مع القوى الإسلامية التقليدية فى المنطقة، خاصة النظم المحافظة فى الخليج العربى، وتبرز فى هذا الصدد المقابلة الشهيرة بين الملك عبدالعزيز والرئيس روزفلت على ظهر المدمرة الأمريكية «كوينسى» فى فبراير 1945 فى سياق الترتيب لأوضاع ما بعد الحرب العالمية الثانية فى مؤتمر يالطا، وإنشاء الأمم المتحدة إبان اشتعال الحرب الباردة بين المعسكرين البازغين (الرأسمالى والشيوعى)، ثم كان الملك سعود أول عاهل سعودى يزور الولايات المتحدة عام 1957؛ حيث اجتمع مع الرئيس آيزنهاور فى إطار الجهد الأمريكى لمواجهة «النفوذ الشيوعى». لقد كان هذا التحالف موجها فى نفس الوقت ضد دعوة القومية العربية التى أطلقها جمال عبدالناصر بقوة فى منتصف الخمسينات والتى لم تر فيها الولايات المتحدة فى ذلك الوقت إلا امتدادا للتهديد الشيوعى؛ حيث رعت فى فترة وزير الخارجية دالاس مشروعات حلف بغداد (ثم الحلف المركزى)، وكذلك محاولات إنشاء «الحلف الإسلامى» التى دعا إليها الملك فيصل وحاربها «عبدالناصر» بشدة.
غير أن العلاقة الأمريكية – الإسلامية الأهم، فى مواجهة الخطر الشيوعى، كانت بالقطع العلاقة السرية الأمريكية – الإخوانية، التى عرفت تفاصيلها فيما بعد، والتى تكشف عن علاقات الإخوان فى الأربعينات ثم الخمسينات بالأمريكيين، التى تأسست فى البداية من خلال سعيد رمضان (الذى كان يوصف فى حينها بأنه وزير خارجية الجماعة)، وتعاونت معه السلطات الأمريكية فى سياق معركتها ضد الشيوعية (الملحدة).
وفى الكتاب المهم للكاتب الكندى – الأمريكى، إيان جونسون، الصحفى فى جريدة «وول ستريت جورنال»، بعنوان «مسجد فى ميونيخ.. النازيون والمخابرات الأمريكية وصعود الإخوان المسلمين فى الغرب» الذى نُشر عام 2010، وسعيا إلى الإجابة عن التساؤل حول إمكانية أن يتعاون الإخوان المسلمون مع إسرائيل، فى ظل صعودهم الراهن، يكشف «جونسون» عن تفاصيل وأسرار لبعض الوقائع المعروف عنها فقط بعض الخطوط العامة، بشأن تاريخ العلاقات الأمريكية بالإخوان المسلمين. الشخصية الأساسية التى يدور حولها هذا الكتاب هى «سعيد رمضان»، أحد أبرز قادة الإخوان المسلمين النابهين (وصهر حسن البنا)، الذى شارك فى حرب فلسطين، وفى بداية عهد الثورة، سافر إلى السعودية وأسهم فى تأسيس رابطة العالم الإسلامى، ثم انتقل إلى أوروبا؛ حيث أقام فى جنيف ثم فى كولونيا بألمانيا حين حصل على الدكتوراه فى القانون عن الشريعة الإسلامية. وأسهم فى إنشاء مراكز إسلامية فى جنيف ولندن وميونيخ وصار مسئول الإخوان بالخارج، قبل أن تنزع عنه الجنسية المصرية بعد حصوله على ثلاثة أحكام مؤبد بتهمة الخيانة العظمى. ما يؤكده الصحفى إيان جونسون -نقلا عن مصادر المخابرات المركزية الأمريكية- أنها، أى المخابرات الأمريكية، فى حربها الضارية ضد «الشيوعية» فى ذلك الوقت، ساعدت سعيد رمضان بقوة، خاصة فى استيلائه على مسجد «ميونيخ» ليجعل منه واحدا من أهم المراكز الإسلامية فى أوروبا، كما يذكر الكاتب أيضا أن الحكومتين الأمريكية والألمانية تنافستا للسيطرة على مركز أو مسجد ميونيخ ليكون أيضا قاعدة فى حربهما فى ذلك الوقت ضد «عبدالناصر» (ويتسق هذا أيضا مع ما جاء فى كتاب «إم آى سكس.. مغامرة فى داخل العالم السرى للمخابرات البريطانية»، الذى تحدث عن مساعدة تلك المخابرات للإخوان فى ترتيب انقلاب ضد عبدالناصر عام 1965 بقيادة سيد قطب، الذى انتهى بالمحاكمات الشهيرة لهم وإعدام عدد منهم على رأسهم سيد قطب نفسه).
وإذا كانت الولايات المتحدة قد انشغلت فى الحرب الفيتنامية طوال الفترة بين 1965 و1975، فإنها فى الفترة اللاحقة، عادت للاهتمام بالعلاقة بالإخوان المسلمين فى سياق حربها المتصاعدة ضد الشيوعية الدولية والاتحاد السوفيتى، خاصة مع الغزو السوفيتى لأفغانستان فى أواخر عام 1979.
لقد انطوى الدعم الأمريكى لـ«المجاهدين» الأفغان على علاقة غير مباشرة بالإخوان، خاصة مع وجود اهتمام إخوانى قديم بأفغانستان التى كانت تدخل ضمن لجنة «الشرق الأقصى» فى لائحة قسم الاتصال بالعالم الإسلامى والبلاد العربية التى وضعها الإخوان فى عام 1944. وتذكر أدبيات الإخوان كلمات حسن البنا فى إحدى رسائله: «إيران وأفغانستان حكومات مضطربة تتوزعها الأطماع فى كل مكان؛ فهى تحت كف هذه الأزمة تارة، وإلى جانب تلك تارة أخرى»، كما أشار إليها أكثر من مرة فى كتاباته بمجلة المنار باعتبارها بالطبع بلدا إسلاميا يشمله الاهتمام الإخوانى العالمى.
فى هذا السياق كانت العلاقة الإخوانية – الأمريكية إحدى القنوات الأساسية لتسهيل وتمرير الدعم الأمريكى لـ«المجاهدين» الأفغان ضد الاحتلال السوفيتى لأفغانستان منذ ديسمبر 1979، وطوال العقد الثانى حتى انسحاب السوفيت عام 1989.
ولا شك أن سقوط الاتحاد السوفيتى وانحسار الشيوعية منذ بداية التسعينات كانا عاملين مؤثرين فى تقليل أهمية الإخوان لدى الأمريكيين، وإن أخذ الأمريكيون فى ذلك الوقت يتساءلون عن مصير تلك القوى «الإسلامية» التى سبق أن رعوها وشجعوها لمواجهة الشيوعية والقومية العربية معا. ولم يكن غريبا أن ظهر فى ذلك الوقت الكتاب المهم لـ«صموئيل هنتنجتون» عن صدام الحضارات (1993) الذى لم يبشر فيه فقط بحلول الصراع بين الحضارات، محل الصراع الأيديولوجى الذى طبع المواجهة بين الشيوعية والرأسمالية حتى نهاية الثمانينات، وإنما تنبأ بأن الحقبة اللاحقة سوف تشهد نهوضا وغليانا وصراعات فى داخل العالم الإسلامى بالذات. لقد تحققت نبوءة «هنتنجتون» على نحو مأساوى فى أحداث الحادى عشر من سبتمبر عام 2001، الأمر الذى دعا «هنتنجتون» ليكتب مقالته الشهيرة الأخرى فى ديسمبر عام 2001، لكن هذه المرة فى عدد «نيوزويك» السنوى تحت عنوان «عصر حروب المسلمين»، التى كشفت عن التفكير الاستراتيجى الأمريكى المنشغل بكيفية التعامل مع تحولات العالم الإسلامى.
فى ذلك السياق، كان حصول الإخوان المسلمين على ربع مقاعد البرلمان المصرى فى انتخابات 2005 (88 مقعدا) أمرا لافتا للمؤسسات الأمريكية المعنية بشئون المنطقة، ويذكر هنا أيضا إيان جونسون أنه بتلك المناسبة نظمت الخارجية الأمريكية مؤتمرا فى بروكسل يجمع بين الإخوان المسلمين فى أوروبا وممثلى التجمعات الإسلامية فى أمريكا الشمالية أو «الجمعية الإسلامية لأمريكا الشمالية»، القريبة من الإخوان، مستندة إلى تحليلات المخابرات الأمريكية التى أوصت بدعم الإخوان فى المنطقة، خاصة فى مصر والأردن وقطر وتونس، فضلا عن «حماس» فى غزة! الدعم الأمريكى للإخوان إذن ليس جديدا، وليس سرا، وليس أمرا طارئا، وإنما هو أمر يصب فى المصلحة الأمريكية المباشرة، ويتسق مع الهدف الأمريكى الأصيل فى ضمان أمن وحماية إسرائيل، الذى أثبت الإخوان تصميمهم على تحقيقه بلا أى تردد أو مواراة!
فى هذا الإطار، يبرز الدور الفاعل للكوادر الأمريكية الكفؤة والمدربة من نوعية السفيرة آن باترسون! فمن المؤكد أن اختيارها لمنصبها فى القاهرة كان مرسوما بدقة، وهى الدبلوماسية المتمرسة منذ أن التحقت بالخارجية الأمريكية عام 1973 وسبق أن عملت فى السعودية خبيرة للعلاقات الاقتصادية بين البلدين بين 1984 و1988، كما عملت سفيرة فى باكستان بين 2007 و2010 قبل تعيينها سفيرة بالقاهرة. ولا شك أن تلك الخبرة فى باكستان كانت فى مقدمة أسباب تزكيتها لتولى منصبها فى القاهرة فى ظل حكم الإخوان.. ووفق العديد من المصادر فإن «باترسون» اكتسبت فى باكستان خبرة ومهارات التعامل مع القوى الإسلامية وترويضها، خدمة للمصالح الأمريكية. وقد زارت «باترسون» أكثر من مرة حزب الحرية والعدالة، والتقت المرشد العام وقادة الإخوان؛ لذلك لم يكن غريبا ما نُسب إليها من تعليقات عن الأوضاع السياسية فى مصر، واعتبارها أن «عودة الجيش إلى الحكم ستكون كارثة غير مقبولة لواشنطن وحلفاء مصر الآخرين»!
غير أن نفى السفارة لتصريحات «باترسون» لا يوحى فقط بإدراك الأمريكيين حساسية هذا الحديث الفج عن الجيش، وإنما أيضا لحقيقة الرفض الشعبى المتصاعد للسيطرة الإخوانية على البلاد، التى تُحدث توترا ورفضا سياسيا غير مسبوق رغم كل التحليلات والتنبؤات والرغبات الأمريكية والإسرائيلية!
الوطن