” أبيع الورد وأنكوي بشوكه”

 

205

 

“نفيسة العلم”، لقبها الذي عرفها العالم به، لكنها كانت للمصريين “السيدة نفيسة” وفقط، مسجدا وضريحا ومقابر ونسائم روحية يعرفها من زارها ويسمع عنها القاصي والداني، بجوارها في “حوش القرافة” المجاور، منذ ستون عاما لم تتركه ولم يتركها، سكنته شابة وأم وجلست علي أعتابه جدة جف عودها وذبل وجهها، وبقيت ابتسامة الرضا وقرطها الذهبي “المدلدل” هما الأثر الباقي علي ملامح “الست زينب” بائعة الورد.

من وسط الحزن تفوح روائح الورد من كشك الست زينب و تتلون الحياة بالوان الربيع تمحوا خريف العمر من وجهها الاسمر و تبعث الحياة فى طرقات الموت تمسح زينب اثار دموع الزائرين بورد احمر و اصفر”الورد مش للميتين ، الورد للعايشيين يمسح دموعهم و يريحهم” .

“أبيع الورد فمن يشتريه” تعرف هي من يشتريه فمن هنا لا يمر سوي “المعزين” و زائري”الترب” يشترونه مع عيدان الجريد لا يهتمون لبوكيهات الورد الملون مع لفات التُل ، فتكيفهم وردة حمراء تملؤها رائحة الورد البلدي تبيعها مع دعوة ربما لا ترد”الله يرحمه و يبشبش الطوبة اللي تحته”،

انجبت ولدا واحدا و مات فرزقها الله بسبعة من بعده ، أحفادها الذي تركهم ولدها و زوجته”راحوا في حادثة” ، هكذا تلخص أسوأ أيام عمرها التي شارفت علي الثمانون عاما و هي تجلس في نفس المكان تجمع الزهرات و أعواد الجريد ، أخشي ما تخشاه في يومها أن تسبقها عربات البلدية إلي تلك الشجرة التي أسقطتها ليلة عاصفة ، فيصبح جل همها أن تسرع “البت سكينة” إلي الشجرة و تأتي بها من الطرف المقابل لكشكها المغلق”سكينة دي البت اللي فضلت من تلاتة جوزتهم و جوزت اتنين من الصبيان و فاضل اتنين ربنا يعيني عليهم”.

في حوش قرافة بدأت حياتها التي ودعت فيها ابنها و زوجها وودع أصحاب الحوش كل أهلهم تقريبا”ده حوش سراج الدين باشا و تقريبا العيلة كلها تحت التراب و ماحدش عاد بييجي” ، الحوش القديم “للناس العيلوي” أصبح بيت زينب التي تزوجت و انجبت و انجب فيه ابنها هؤلاء السبعة ثم مات و تركهم لها و لجدهم الذي أثقلته المهمة فرحل “راضيا مرضيا” تاركا لها بقايا ما استطاع ان يقتنصه من الأيام ، “كشك ألوميتال برخصة” افتتحه الزوج قبل ثلاثة عشر عاما ثم مات و اصبح الكشك هيكلا يذكرها بسنواتها القليلة بعيدا عن “شوك الورد” و آلامه”نفسي ارتاح من الشوك و اريح البت سكينة ،مش عايزه اسيبها في الهم ده من بعدي”.

“سكينة” الفتاة ذات الخمس عشر ربيعا شديدة السمرة و صاحبة الإبتسامة الوضاءة”شبه أمها..لكن اخواتها قشطة طالعين لإبني” ، تسأل سكينة بالصدفة علي تاريخ اليوم”24″ ثم تلتفت إلي جدتها “يعني نقطع اربع ورقات من النتيجة اللي واقفة علي يوم 19″، لم تتعلم سكينة و لم تذهب يوما إلي مدرسة ليس لأنها لا ترغب و لم يكن فقرها سببا في ذلك، فقط “شهادة ميلاد” لم يستخرجها والداها كانت سببا في حرمانها من التعليم، شهادة الميلاد التي حرمتها التعليم لم تستطع أن تحرمها من الفرحة”كل سنة بشتري لبس المدرسة و الشنطة ألبسهم شوية و افرح بيهم” ، سكينة لا تحمل هما ليومها أو غدها مثلها مثل جدتها ، فهي لا تسأل عما يحدث خارج جدران “الحوش” ، كل ما يهمها يوميا أن تلزم بجوار الجدة تناولها دوائها و كسرة الرغيف “متغمسة بالجبنة” وجبة إفطارها التي تحتفظ بعدها بنصف الرغيف المتبقي للغداء”ربنا ما بينساش النمل في الأرض يبقي هينسانا ..إحنا مش بنشيل هم الاكل و لا الدوا ربنا مش بينسانا و مصر مليانه خير للي عايز يشوفه”.

 

 الوطن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى