خالد على يكتب: الطريق إلى العدالة الاجتماعية

إن العدالة الاجتماعية ليست أمنية أو شعارا أو مجرد حزمة من السياسات، أو طريقة فى ترتيب الأولويات لكنها نظام حكم له انحياز اجتماعى واقتصادى وسياسى واضح ومحدد يهدف إلى القضاء على الفقر، وتحقيق التوزيع العادل للثروة والسلطة فى المجتمع، وإزالة الفوارق بين الطبقات، وتمكين المجتمع من أدواته، وأن يتمتع الجميع بحقوق وواجبات متساوية، وحريات مطلقة، وفرص متكافئة.
إن الوصول إلى العدالة الاجتماعية ليس أمرا مستحيلا لكنه يحتاج أولا إلى إرادة سياسية ومجتمعية تبغى تحقيق هذا الهدف، كما أن الوصول إليها ليس أمرا يسيرا فهو يحتاج إلى تضحيات كما يحتاج إلى شجاعة وجرأة فى التفكير والتنفيذ خارج حدود الدولة القديمة التى ثار عليها الشعب.
ومن خلال هذه المقالة نطرح هذه الرؤية شخصية بقدر ما هى ترجمة لمناقشات عدة دارت بين عدد من الأصدقاء فى (حركة بلدنا حقنا) وقراءة لآراء وأطروحات كبار الكتاب والاقتصاديين المنحازين للعدالة الاجتماعية، شأن الدكتور جلال أمين والدكتور إبراهيم العيسوى وأحمد السيد النجار ووائل جمال، لعلها تساعد مصر لتكون على المسار الصحيح للتأسيس للعدالة الاجتماعية، ولتمهيد الطريق لتحقيقها على أرض الواقع. فالعدالة الاجتماعية التى نتمناها نعلم تمام العلم أنها لن تتحقق بين يوم وليلة وتحتاج إلى وقت حتى تؤتى ثمارها، ولكن كل ذلك مشروط بأن يكون المسار فى الاتجاه الصحيح وليس بالعمل على إعادة إنتاج النظام القديم. وتنطلق هذه الرؤية من عشرة محاور:
1- الحق فى المعرفة وحرية تداول المعلومات:
يجب العمل على تمكين المجتمع من الحق فى المعرفة وحرية تداول المعلومات، ليس فقط بتهيئة البيئة التشريعية، ولكن أيضا بتطوير الجهاز الإدارى للدولة وما يستتبعه ذلك من تدريب كل العاملين ليتعاملوا مع المعرفة وتداول المعلومات باعتبارهما حقوقا للمواطنين ومداخل رئيسية لا غنى عنها لتحقيق الشفافية فى إدارة الدولة، ولتمكين المجتمع من التفاعل مع كل المسارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية إما بدعمها أو بمعارضتها بما يسهم فى التأسيس لمحاور جديدة للرقابة الشعبية التى لا يجب أن تقتصر فقط على أعضاء المجالس النيابية أو المحلية، فضلا عما يمثله التداول الحر للمعلومات والحق فى المعرفة من أساس جوهرى يساعد المواطنين على الاختيار ويضمن تحقيق التنافسية والمساواة وتكافؤ الفرص.
2- التعليم المجانى والجيد:
التعليم هو الوسيلة الوحيدة للخروج من دوائر الفقر، وهو قاطرة التنمية فى أى مجتمع، الأمر الذى يستدعى تمكين كل أبناء المجتمع من فرص متساوية لتعليم مجانى وجيد عبر القضاء على الطبقية التى أصابت التعليم، فالأسر المصرية تستطيع أن تمنح أبناءها فرصا متفاوتة من التعليم حسب قدرتها المادية، فيجب على الدولة أن تتعامل مع التعليم باعتباره قضية قومية عابرة للانحيازات الحزبية والسياسية، وبما يسهم فى رسم السياسة التعليمية، ووضع المناهج بطريقة مستقلة عن أى حزب حاكم، وأن تعمل الدولة على زيادة المؤسسات التعليمية وتوزيعها بشكل عادل على المستوى الجغرافى وفقا لنسبة السكان، وأن يتم تطوير هذه المؤسسات باعتبارها مؤسسات تنشئة تعليمية واجتماعية وصحية ورياضية وثقافية (التغذية المدرسية- التأمين الصحى- المكتبات- الملاعب- المسرح- المعسكرات المحلية والخارجية- المسابقات وبرامج التثقيف).
3- الطابع الاجتماعى لعلاقات العمل:
العمل ليس سلعة فى سوق العرض والطلب فهو حق اجتماعى يجب أن يتمتع بحماية قانونية تشعر العامل بالأمان الاجتماعى وتضمن توازن العلاقة بينه وبين أى صاحب عمل، وهو ما يستدعى تغيير قانون العمل لتصبح أحكام القضاء بشأن فصل العامل من عمله واجبة النفاذ، وأن تلغى النصوص التى تتيح لصاحب العمل الامتناع عن تنفيذ حكم العودة للعمل مقابل منح العامل مجرد تعويض، وأن يضمن للعامل كل حقوق العمل كالتأمينات الصحية والاجتماعية، وضمانات الصحة والسلامة المهنية، والأجر العادل الذى يتناسب مع مستويات الحياة الكريمة، والحصول على نسبة من الأرباح التى تحققت، كما يجب تطوير مؤسسات الدولة المرتبطة بهذا الحق شأن وزارة القوى العاملة وهيئات التأمين الاجتماعى والصحى، والعمل على إنشاء وزارة للتدريب المهنى والتحويلى تسعى لوضع برامج تدريبية حقيقية تطور العمالة المصرية وتخدم سوق العمل.
4- مؤسسات العدالة الاجتماعية:
إطلاق الحريات النقابية والحق فى التنظيم للعمال والفلاحين والصيادين والحرفيين وأصحاب المعاشات.. عبر النقابات والاتحادات والروابط هو الطريق لبناء هذه الفئات للمؤسسات التى تدافع عن حقوقهم وتنظم صفوفهم، وهى القادرة على إحداث التوازن فى علاقات القوى المجتمعية والسياسية، وبالتالى فإن العصف بهذه الحريات لا يستهدف إلا إبقاء هذه الفئات مبعثرة ومتناثرة مما يفقدها القدرة على المطالبة أو المقاومة، وإطلاق الحريات يعنى الحفاظ على استقلالها، وأن يكون توحدها أو تعددها رهنا بإرادة جمعيتها العمومية ولا يفرض بقانون، وأن تمكن من باقى الحريات النقابية كالحق فى الإضراب، والتظاهر السلمى، والتفاوض الجماعى بين العمال وأصحاب الأعمال، والمشاركة فى الوساطة والتحكيم.
5- القضايا الاقتصادية والاجتماعية المحورية:
هناك عديد من القضايا الاقتصادية والاجتماعية المحورية التى يتم الالتفاف حولها دون الولوج إلى معالجتها وطرح حلول جذرية بشأنها مثل (عدالة خدمات التأمينات الاجتماعية وأمواله لدى الدولة، تطوير التأمين الصحى بما يحافظ على طابعه الاجتماعى، الدعم وعلاقته بالتوزيع العادل للدخل والثروة فى المجتمع، عدالة الأجور، الصناديق الخاصة، أسعار السلع والخدمات ومستويات الأجور، التنافسية ومنع الاحتكار…) وغيرها من القضايا التى تتعلق بوسائل الحماية الاجتماعية، وجميعها قضايا تستدعى عقد حوار مجتمعى وسياسى بشأنها بما يضمن تنفيذ ما انتهى إليه هذا الحوار من رؤى وتوصيات.
6- العدالة الضريبية:
الضرائب هى تعبير عن انحيازات سياسية واقتصادية واجتماعية، ويجب أن يتم إقرارها من خلال إطار يضمن عدالتها باعتبارها محورا هاما من محاور الوصول إلى العدالة الاجتماعية، وأن لا يسيطر الهدف الجبائى على ذهنية واضع السياسات الضريبية، وأن لا يستهلك سعر الضريبة كل أو معظم الوعاء الضريبى، وأن يكون إسهام الأفراد فى الأعباء الضريبية متناسبا مع دخولهم، فالضريبة أداة لإعادة توزيع الدخل والثروة ويجب العمل على فرض نظام جاد للضرائب التصاعدية، ومن خلال فرض ضريبة على الأرباح الرأسمالية والضرائب على الثروة كالضريبة العقارية والضرائب على السيارات وما إلى ذلك، ومن خلال رفع الضرائب الجمركية وضريبة المبيعات على السلع الكمالية. ويجب العمل على إحداث التوازن بين الصادرات والواردات عبر فرض ضرائب على الواردات الترفيهية والكمالية والسلع الغذائية الترفيهية كبعض الفواكه واللحوم والمقبلات.
7- مكافحة الفساد:
هناك فارق كبير بين مكافحة الفساد وبين التستر عليه بالتصالح معه والحصول على جزء مما سرقه بغير حق، خصوصا فى مجتمع مثل مصر عاش فى ظل نظام حكم كان الفساد أحد الأدوات المنهجية له، وبلغ درجة صياغة قوانين وتشكيل لجان وزارية تساعد وتسهل على الفساد -مثل اللجنة الوزارية للخصخصة- وهو ما يستدعى ضرورة تشكيل لجنة مستقلة من رجال القضاء وممثلين لأحزاب وقوى سياسية تتمتع بخبرة وكفاءة فى ذات المجال تتولى مراجعة كل العقود التى أبرمتها الدولة على الأراضى والشركات واستخراج الثروات الطبيعية من الأراضى المصرية وتصديرها، وأن تلتزم الدولة بتنفيذ أحكام القضاء فى شأن بطلان العقود الإدارية. وإعادة توزيع الأراضى على الفلاحين وشباب الخريجين بعقود انتفاع متوسطة وطويلة الأجل، وإحياء القطاع العام ليتولى إدارة الشركات العامة.
8- الصناعات الصغيرة وصغار المنتجين:
يجب العمل على توجيه رعاية أكبر لصغار المنتجين فى مجالات الزراعة والصيد والحرف، وإيلاء عناية خاصة لمشكلات الفئات الأضعف، لا سيما المهمشين وسكان العشوائيات وذوى الإعاقات، والعمل على دمجهم فى الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وحماية المكتسبات التى تحققت للمرأة فى العهود السابقة والتصدى لمحاولات الانتقاص منها، بل والسعى لتوسيع هذه الحقوق، وكذلك توفير الحماية الكافية لحقوق المستهلكين.
9- التنمية الشاملة:
إن مطالب الثورة بالعدالة الاجتماعية فى جوهرها تحتج على النمط الاقتصادى الذى انتهجه النظام السابق، لكونه لا يحقق تنمية بقدر ما يحقق للدول الكبرى اقتصادا تابعا وغير مستقل يحقق لمتخذ القرار والدوائر القريبة منه منافع شخصية. لذا يجب التخلص من هذا النهج الاقتصادى «النيوليبرالية» والتحول إلى نهج التنمية المستقلة المعتمدة على الذات. هذا هو الضمان لعدالة قابلة للاستدامة تدفع مصر قدما على طريق التصنيع العميق والزراعة الحديثة والخدمات المتطورة، مع توفير ما يلزم للإنتاج الوطنى من حماية مؤقتة، وتعتمد على آليات للتخطيط التكاملى للإنتاج والتوزيع، بحيث تنطلق الخطط من أهداف الوفاء بالحاجات الأساسية وتخفيض الفقر وزيادة التشغيل كأهداف أساسية تشتق منها أهداف الإنتاج والاستثمار، لا العكس كما هو متبع عادة. وهو ما يستلزم توفير بيئة متكافئة لقطاعات الإنتاج الثلاثة الخاص والتعاونى والعام.
10- إطلاق الحريات العامة ودسترتها:
لا عدالة اجتماعية دون حريات لأبناء الوطن تضمن المساواة وتكافؤ الفرص وإطلاق الحريات الشخصية والتنظيمية واحترام سيادة القانون واستقلال القضاء وأن يكون ذلك من خلال إدماج المنظومة الحقوقية الدولية بالدستور المصرى وبالتشريع.
كل هذه المحاور أدوات أولية للتأسيس للعدالة الاجتماعية وتمهيد الطريق لها، ونؤمن أن تمهيد هذا الطريق والوصول إلى مستويات أعلى من العدالة الاجتماعية يرتهن بمساهمة كل قوى الثورة الداعمة للعدل الاجتماعى بتحدى سياسات النظام الحالى والثورة عليه، عبر السعى لتعديل ميزان القوى السياسية لصالح الفئات المهمشة فلقد علمنا التاريخ أن الحكام لا تهب شعوبها العدالة أو الحرية، وإنما كفاح الشعوب ونضالها هما السبيل لتحقيقهما.
التحرير