الضوابط القانونية لفض الاعتصامات بالقوة

تجاوزت حصيلة اليوم الأول لعملية فض اعتصامي “رابعة” و”النهضة” وما تبعها من أعمال عنف بالقاهرة والمحافظات، 420 شخصًا وفقًا للتقارير الرسمية، وذلك في عمليات أمنية وصفتها وزارة الداخلية بـ”الحرفية والمهنية”، فيما اعتبرها آخرون استخدامًا مفرطًا للقوة، بينما يرى فريق ثالث إنها تأتي في إطار قانوني ضد اعتصامات انتفت عنها صفة السلمية، مدينين موقف الدول الغربية “المتشدقة” بالحريات – حسب رؤيتهم – والتي لا تنأى عن استخدام القوة في فض التظاهرات والاعتصامات التي تخرج عن النظام العام، مستشهدين باعتقال المئات وإصابة العشرات بالولايات المتحدة خلال صدامات الشرطة ومحتجي حركة احتلوا وول ستريت بنهاية عام 2011.
ومن المعروف إن المواثيق الدولية أقرت حق الاعتصام والتظاهر السلمي وغيرها من أشكال التجمع، بيد إنها تركت للدول الحق في التنظيم المحلي لذلك وفق ضرورات الأمن والسلم العام، وهي الضرورات التي كانت سببًا في انتهاك حرية التجمع ببعض الدول، فيما تعاملت معها الدول الراسخة ديمقراطيًا بشكل جاد ووفق منظومة متكاملة للعدالة، تنظم فيها القانون الموضوعة بطرق ديمقراطية لحقوق وواجبات كل من المتظاهر ورجل الأمن، مع إتاحة المجال للطعن والتظلم والرقابة الشعبية.
وفي إطار الاعتبارات السابقة بات ضروريًا تسليط الضوء على تجارب الدول الديمقراطية التي سبقتنا نحو تنظيم ذلك الحق ووضعت ضوابط لحدود وحالات التعامل بالقوة معه، بما يخلق التوزان المطلوب بين الحقوق والواجبات، وذلك بالتركيز على القوانين المطبقة بالولايات المتحدة وبريطانيا في هذا الشأن، بهدف التعرف على القواعد التي تتبعها سلطات تلك الدول في التعامل مع التظاهرات والاعتصامات.
حرية التجمع السلمي: ضمانات وقيود
أولت العديد من الإعلانات والاتفاقيات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان أهمية كبيرة للحق في التجمع السلمي وأكدت على وجوب حمايته والتعاطي معه، كان من أبرزها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في 1948م والذي أكد في المادة (20) على الحق في حرية الاشتراك في الجماعات السلمية.
ولم يقتصر التأكيد على الحق في التجمع السلمي على المواثيق والاتفاقيات الدولية والعالمية ، وإنما ذهبت الاتفاقيات الإقليمية لحقوق الإنسان هي الأخرى إلى التأكيد عليه، كان أبرزها ذلك ما نصت عليه الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان في المادة (11) بأن يكون لكل إنسان الحق في حرية الاجتماعات السلمية، وكذلك ما نص عليه الميثاق العربي لحقوق الإنسان لعام 2004 في المادة (24) بأن لكل مواطن حرية الاجتماع والتجمع بصورة سلمية.
بيد أن تلك المواثيق على الرغم من تأكيدها على ذلك الحق وضورة التعاطي معه لم تجعل من حق التجمع السلمي حقاً مطلقاً إذ نصت عليه المادة (21) من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية حيث نصت على جواز فرض قيود على ممارسة حق التجمع السلمي طبقًا للقانون، وبهدف صيانة الأمن القومي أو السلامة العامة أو النظام العام أو حماية المصلحة العامة أو الآداب العامة أو حماية حقوق الآخرين وحرياتهم.
الضوابط القانونية لتنظيم التجمعات السلمية
فيما تعبر تلك الأطر القانونية الدولية، عن الإجماع العالمي على حق المواطنين في التجمع السلمي، إلا إن كيفية تطبيق هذا الحق وتنظيمه اختلفت باختلاف النظم القانونية المحلية من دولة لأخرى، وهو الاختلاف الذي جعل حرية التجمع السلمي محل تقدير واحترام في دول، فيما لا تحظى بنفس القدر من التطبيق بدول أخرى.
وفي كل من بريطانيا والولايات المتحدة، أجازت الأطر القانونية المنظمة لحق التجمع السلمي في كل من بريطانيا والولايات المتحدة للسلطات المعنية سواء (كانت شرطة محلية أو غيرها) أن تقوم بوضع قيود على التجمعات، وإدخال تعديلات على ترتيباتها إذا ما كان من شأن إنعقادها على النحو المقدم من منظمي التجمع أن يفضي إلى الإضرار بالنظام العام أوالصحة العامة أوالسلامة العامة، كما أعطت للسلطات المعنية الحق في منع / حظر أية تجمعات إذا لم تأت بالإتساق مع القانون، وإذا شكلت تهديداً للنظام العام، والسلامة العامة، والأمن العام.
فقد نص القانون الأمريكي في المادة (106) على أن لرئيس شرطة العاصمة (MPD) أو من ينوب عنه الحق في إدخال تعديلات على برنامج التجمع (Procession Plan) أو رفضه أو إلغائه، ولكن قبل 30 يوم من تاريخ انعقاد التجمع.
وأجاز لرئيس الشرطة بعد التفاوض مع منظم/منظمي التجمع المتقدمين بإشعار إدخال بعض التعديلات المعقولة على موقع التجمع، ومسيرته إذا ما أرتأى أنها من الأهمية للحفاظ على الأمن العام وذلك قبل 10 أيام من تاريخ انعقاد التجمع.
معطيًا في مقابل ذلك لمنظم/منظمي التجمع اللذي يرى تعسفاً من قبل شرطة العاصمة في إلغاء خطة التجمع الذي سينظمه، أو رفضها أو تقييدها من خلال إدخال تعديلات عليها؛ الحق في الاستئناف، والطعن على هذا القرار أمام عمدة المقاطعة (mayor of district) أو من ينوب عنه والذي يكون مخولاً بإتخاذ إجراء من ثلاثة إجراءات هي أما الموافقة على قرار رئيس الشرطة سواء بالتعديل أو الإلغاء أو الرفض، أو تعديله، أو رفضه، على أن يقوم بتقديم قراره كتابةً ومشفوعاً بالسبب، وعلى وجه السرعة وذلك قبل وذلك قبل الموعد المحدد لإنعقاد التجمع.
وعلى جانب آخر، أجاز القانون البريطاني في الفقرة 4 من المادة (13) لرئيس الشرطة إذا ما رأى أن هناك من الظروف الخاصة في أي مقاطعة أوجزء منها، أو عدم توافر قوات كافية لتأمين التجمعات ومنع الإضرار بالنظام العام أن يقوم برفع طلب إلى مجلس المقاطعة بإلغاء إنعقاد أية تجمعات وذلك لمدة لا تتجاوز 3 أشهر، وللمجلس بعد موافقة وزير الدولة إصدار أمرا إما بوضع شروط لعقد التجمع، أوإدخال تعديلات عليه بإستثناء التجمعات التي من المفترض أن يتم إنعقادها بمدينة لندن أو في الــ Metropolitan Police District.
حيث أن لمفوض شرطة مدينة لندن أو مفوض شرطة العاصمة بعد موافقة وزير الدولة الحق في إتخاذ قرار بمنع إنعقاد أية تجمعات لا تتجاوز 3 شهور إذا ما رأى أن هناك من الظروف ما يجعل إنعقاد أي تجمع في أي مقاطعة أوجزء منها خطراً على النظام، والأمــــن العام. إلا أنه أعطي في مقابل ذلك لمنظمي التجمعات المتضررين من تلك الترتيبات الحق في الطعن عليها أمام المحكمة العليا.
كما نصت المادة (14) على أنه يحق لضابط الشرطة (السينور) بهدف الحفاظ على النظام والأمن العـام، وكبح الفوضىالتدخل باجراء تعديلات علي خطة التجمع وبرنامجه من خلال تحديد موعد أقصى لإنتهائه، وحد أقصى للمشاركين فيه إنعقاد التجمع، كما يحق له التدخل بإجراء تعديلات على خطة التجمع أو إلغائه إذا كان من شأنه أن يفضي إلى إلى إجبار الآخرين علي القيام بفعل لهم الحق في عدم القيام به أو العكس.
ضوابط استخدام القوة في فض التجمعات
بصفة عامة اشتركت القوانين المنظمة لحق التجمع السلمي في بريطانيا والولايات المتحدة في النص على عدم جواز تفريق التجمعات طالما بقيت سلمية، وأن تكون تدابير تفريق التجمعات هي الملاذ الأخير إذا ما شرع الأفراد المشاركين في التجمعات في ارتكاب أعمال من شأنها إحداث فوضي وتخريب، أو التأثير على النظام العام، والأمن العام، أو السلامة العامـة، وأن يكون إستعمال القوة بالقدر الذي يتناسب مع الحدث وبالحد الأدنى ودون إفراط في استخدامه، والبعد عن استخدام الأسلحة الثقيلة والمميتة في حالات تفريق المتظاهرين، واستخدامها في أضيق نطاق إذا لزم الأمـــــــر.
بيد أن ذلك لم يمنع القانون الإنجليزي من إعطائه الشرطة في حالة خرق القيود المفروضة على التجمع وحدوث انتهاكات جماعية من قبل المشاركين في التجمعات الحق في فضها، وتفتيش أي شخص يشتبه في ضلوعه في القيام بأى أعمال إجرامية أو عدائية تهدد الأمن والنظام العام والقبض عليه، كما أعطى لقوات الشرطة الحق في اتباع تكتيك الـkittling أي تطويق المتظاهرين المشاغبين واحتجازهم، معطياً للمنظمات غير الحكومية ومنظمات المجتمع المدني المعنية بحقوق الإنسان كذلك الحق في مراقــبة سلوك وتصرف المشاركين في التجمعات لتحديد من قام بالخرق والانتهاك وما إذا ما قامت به الأجهزة الأمنية قد مثل تعسفاً من عدمه.
وكذلك أعطى القانون الأمريكي في المادة (107) للشرطة بعد توجيه التحذيرات الشفوية، الحق في إلقاء القبض على المشاغبين وإصدار أمر عام بتفريق المتظاهرين من مواقع عدة شريطةً أن يتم ذلك على نحو مسموع بوضوح، ويفهمه المتظاهرين عن طريق استخدام أجهزة تكبير الصوت، وبعد إعطاء فترة زمنية معقولة وكافية لتفرق المتظاهرين، وبعد أن يقوم رجال الشرطة بتسجيل الأمر بتفريق المتظاهرين بالصوت أو الفيديو كلما كان ذلك ممكنا وذلك في حالة فشل نسبة كبيرة من المشاركين في التجمع بالالتزام بالقيود المفروضة، أو انخراط عدد كبير منهم في الأعمال العدوانية أو ظهور بوادر تشير إلى أنهم يوشكون على الانخراط في سلوك غير منضبط وغير قانوني أو ينطوي على استخدام العنف تجاه الآخرين أو ممتلكاتهم، أو عند إعلان حالة الطوارئ الأمنية من قبل رئيس البلدية خشية أن تؤدي التظاهرات إلى الإضرار بالسلامة العامة، كما أعطي للشرطة الحق في استخدام police lines أي تكتيك تطويق المظاهرات بإستخدام خطوط محددة لها في حالة قيام المشاركين في التظاهرات بأعمال غير قانونية تخرق القانون، واستخدام أسلحة غير مميتة (non- lethal weapons) إذا كان لا مفر من استخدام أسلحة لتفريق التجمعات.
ملاحظات للحالة المصرية:
في إطار هذه النبذة القانونية عن القواعد التنظيمية لفض التجمعات بكل من بريطانيا والولايات المتحدة، وفي ضوء تطورات الأوضاع بمصر، يمكن إدراج عدة ملاحظات بشأن التعامل مع الحق في التظاهر والتجمع السلمي بمصر:
– أهمية التأطير القانوني المتوازن والقائم على أسس من الحوار والديمقراطية لأسلوب التعامل الأمني مع المحتجين، وبما يتوافق مع القواعد الدولية، ليس فقط على صعيد واجبات منظمي التظاهرات والاعتصامات، وإنما على صعيد حقوقهم أيضًا والضوابط الدقيقة للتعامل الشرطي مع تلك التجمعات، دون إغفال للتفاصيل المتعلقة بتكنيكات التعامل الأمني، وعقوبات المتجاوزين من رجال الشرطة، وتعويضات الضحايا، وحقوق المعتقلين، وعدم التتبع الأمني اللاحق وغيرها من الأمور.
– التحلي بقدر معقول من المرونة عند وضع قيود إجرائية على استخدام الحق في التظاهر السلمي، ووضع آليات وإجراءات مناسبة لضمان الاستمتاع العملي بممارسة الحق وعدم خضوعها للإجراءات البيروقراطية المفرطة والمرهقة التي تفرغ الحق من مضمونه،لاسيما وأن ذلك الإرث لا زالت مصر تعاني منه حتى الأن.
– الأخذ في الاعتبار التجمعات، والمظاهرات التي تحدث بشكل عفوي، وعلى نحو طارئ والتجمعات المتزامنة، وإقرار الحق في المراجعة والاستئناف والطعن على القرارات التي يترتب عليها إلغاء أو تفريق التظاهرات أو التجمعات.
– تحديد الظروف المبررة لاستعمال القوة إذا كان لامفر من استخدامها واللجوء إليها تحديداً واضحاً غير مبهماً، ودونما إغفال الحاجة إلى التحذيرات المسبقة، واستخدام مستوى مقبول من القوة دون إفراط لمواجهة التهديدات والمخاطر المحتملة عبر استخدام أسلحة غير قاتلة (non- lethal weapons) للقمع في الحالات الاستثنائية فقط.
– حظر اللجوء إلى استخدام الأسلحة القاتلة من جانب الشرطة في فض المظاهرات والتجمعات إذا ما انتهك أو أخل المشاركين فيها بقواعد الحفاظ على السلم العام أوالأمن العام، ووضع قواعد لإستخدامها في الظروف القصوى إذا كان لا مفر من استخدامها، بحيث إذا ما أخل بها أفراد الشرطة يمكن أن يكون عرضة للمسألة القانونية، مع تحمل المتجاوزين للمسؤلية المدنية / أو الجنائية على حسب نوع الجرم الذي ارتكبوه بحق المتظاهرين أو المشاركين في التجمع.
– إتاحة الفرصة أمام المنظمات غير الحكومية ومنظمات المجتمع المدني المعنية بحقوق الإنسان لمراقــبة التجمعات وسلوك رجال الأمن إزائها، وهنا تجدر الإشارة إلى إن شرطة مدينة لندن سبق أن وجهت دعوة لمنظمة الحرية “Liberty” لكي تعمل عمل المراقب المستقل خلال عمليات الشرطة لحفظ أمن مسيرة نظمها مؤتمر نقابات العمال في لندن سنة ٢٠١٠.
– إتاحة المعلومات بشأن قواعد تنظيم الاعتصامات وتفاصيل الإجراءات الأمنية لتنظيمها أو فضها إذا استلزم الأمر، وذلك بقدر وافر من الشفافية والوضوح للجميع، وبما يضع كل جهة أمام مسؤولياتها.
المصرى اليوم