الأخبار

طريقة وحيدة للهروب من القصر

7

 

 

 

 

 

أعترف، مساء الخميس10 فبراير 2011 شعرت بالشفقة تجاه مبارك.
كنت آتيا من اجتماع دعاني إليه صديق، مع مجموعة من الشباب أعرفهم لأول مرة وينشطون سياسيا للمرة الأولى، كانالاجتماع لمساعدتهم في التخطيط لطباعة مجلة ومنشورات توزع ورقيا على الجمهور الأقل تعرضا للإنترنت، تدعوهموتحرضهم لاستكمال الثورة، لا تراجع.
وصلنا خبر الاستعداد لبث خطاب لمبارك. نزلنا جريا إلى ميدان التحرير لنسمعه هناك. كان الميدان ممتلئا عن آخره. توجهتإلى مقهى أبحث عن مكان هناك. بعد فترة من الانتظار بدأ بث الخطاب. فرق كبير من ملامح مبارك في خطابه السابق بدايةفبراير، وبين ملامحه الآن. صوته أيضا كان مختلفا. كأنما مرت عليه أيام في مستشفى تحاول عبثا وقف تردي حالته فلم تزدهإلا إنهاكا.
لم أستطع تبين مشاعري إلا عندما بدا من مضمون الخطاب ما يوحي أنه ليس خطاب تخلي عن السلطة، وبدأت الشتائمالمنفعلة تقاطعه غير مبالية بوعوده وتطميناته لتعلن أنه لا أقل من تخليه عن السلطة. وانقسمت الشاشة إلى نصفين لأرىالأحذية المرفوعة في وجهه في ميدان التحرير.الشفقة ..
اتضحت لي مشاعري: هذا رجل مثير للشفقة، وهذه وعود وتطمينات رجل مثير للشفقة. ليست الشفقة هنا تلك الوصمةالسياسية المعتادة من باب الإهانة. كانت فعلا شفقة إنسانية على رجل محبوس داخل أسوار السلطة ولا يتصور لنفسه مهربامنها. حسنا، ونحن سنساعده على ذلك بلا أدنى رحمة.
“إلى قصر الرئاسة!” خرجت مجموعة من أمام المقهى في مسيرة إلى قصر الرئاسة. المسافة بعيدة وكنت متعبا. فضلتالانضمام إلى مجموعة أخرى اتجهت لمحاصرة مبنى الإذاعة والتليفزيون، القريب من التحرير والمقهى.
أمام مبنى الإذاعة والتليفزيون على كورنيش النيل، على الرصيف البارد، جلست بجوار صديقة في مواجهة الأسلاك الشائكةووراءها جنود الجيش الذين ينظرون إلينا بترقب وقلق، كأننا نحن من نقف فوق المدرعات نمسك البنادق.
فكرنا بصوت عالي:
– لوتنحى مبارك تنحى، من سيتسلم السلطة بعده؟
  • غالبا الجيش.
  • يادي المصيبة! سيتمسكون بها لفترة، ولو أجروا انتخابات طبعا سيتصدر..
  • نعم، غالبا الإخوان.
  • يادي المصيبة!
بالنسبة للبعض كان هذا الحوار كفيلا بجعلهم في صف أعداء الثورة، ولكننا بقينا حتى أول الفجر نناقش في حماس نافد الصبركيفية التصعيد كما لو أن مدينتنا الفاضلة ستسود مع مطلع الشمس.
مع مطلعها بدأت أعداد المتظاهرين تتوافد لمحاصرة مبنى الإذاعة والتليفزيون فرجعت إلى البيت، نمت بضعة ساعاتوأخذت حماما ثم نزلت وركبت تاكسي: “إلى قصر الرئاسة لو سمحت”.
بالقرب من قصر الرئاسة نزلت وتمشيت مع الأصدقاء وتبادلنا الأخبار مع المجموعات الأخرى التي تحاصر المداخل المختلفةإلى القصر. ركبت تاكسي لأصل إلى أقرب مجموعة بجوار سور القصر. نعم كانت الحياة تسير حول القصر بشكل معقولوالكل يتناقش عن مصير ذلك البائس ساكن القصر. في التاكسي سمعت خطاب عمر سليمان يلقي بيان التخلي عن السلطةوانتقالها للمجلس العسكري. نزلت قرب أسوار القصر واحتفلنا.
لم يمر وقت طويل، حتى بدأ مأزق السكان الجدد للقصر، لم يدم شعار “الجيش والشعب إيد واحدة” طويلا، وتابعت كيف بدأهتاف “يسقط حكم العسكر” بين عشرات ثم مئات ثم مئات الآلاف ليهدر في شوارع وميادين مصر في يناير 2012.
المؤسسة العسكرية التي كانت عماد الدولة المصرية الحديثة، وكانت القصر الحقيقي للرؤساء منذ ناصر إلى مبارك، عندماأدار قادتها المرحلة الانتقالية للحفاظ على نفس هيكل وطبيعة مؤسسات هذه الدولة، كلما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، كلمااتسعت قاعدة المشاركة في حصارهم. بدأ يتضح لي أكثر فأكثر كيف أن الثورة تحيل القصور إلى سجون، وأن حالة ساكنيالقصور تتردى لتثير الشفقة أكثر فأكثر. وكلما اعتصم ساكني القصور بسلطتهم ورغباتهم السلطوية وتمسكوا بحقهموصلاحيتهم في إدارة حياة الناس على مسافات متفاوتة من رضاهم وحريتهم وإرادتهم، فإن الناس يمكن أن تحيل أسوارالقصر إلى أسوار سجن.
الفترة الانتقالية كانت “لانتقال السلطة” ولكن لم تقم “بتقويم السلطة” ولم يصبها خيال تفكيك الطابع السلطوي للدولة.مؤسسات الدولة المصرية التي بلورها أو أسسها الانقلاب الناصري السلطوي لا زالت على حالتها، والناس في الشارع لايزالون على حالتهم يطلبون “عيش وحرية وعدالة اجتماعية”. والأهم أنهم لن يقعدوا في بيوتهم في الانتظار بعد الإدلاءبأصواتهم في صناديق، إنهم بأنفسهم هناك في كل مكان يحاصرون أسوار السلطات جميعا ولا يستأذنون للاشتراك والتشاركفي إدارة شئون حياتهم وفي احتلال مساحات حرية أوسع وانتزاع ضمانات أفضل للعدل.
بدا لي الحوار على الأسفلت أمام مبنى الإذاعة والتليفزيون يتحدث عن الترتيب المتوقع لسجناء القصر: الجيش، الإخوان.
هؤلاء الذين سيتداولون السلطة والقصر.سيبدأون مدركين لمأزق السلطة وسجن القصر وقت الثورة. وسيسعون مخلصينأحيانا للتوافق، وسيعلنون صادقين عن مخاطر تولي السلطة منفردين في هذا التوقيت المتأزم وفي مواجهة هذه التحدياتالجسيمة.ولكنهم بدلا من تفكيك الأسوار، يتمسكون بطبيعة السلطة ويدعون الآخرين للتوافق معهم على دستور سلطويوإدارة سلطوية. يدعونهم لمشاركتهم سجن القصر.
رغباتهم السلطوية تسبب الشقاق وتحول بينهم وبين الحركة في اتجاه الثورة، في اتجاه إزالة أسوار السلطة والقصر والتفكيرفي أوسع مساحات الحرية وأكبر توزيع للسلطات والمسئوليات وأكبر مساحة للتشارك،
في اتجاه تواضع فكرة السلطة لفكرة الحرية.
سيبنون أسوارا قديمة وجديدة لحماية تصورات الأكثر والأقوى وأحقيته في تشكيل حياة الناس بدلا من تركهم في ساحة الحريةالخطيرة ووسط التنوع الجميل المرعب الصاخب.
ربما تتزين الأسوار باسم الثورة، وبديباجات: الشرعية، الاستقرار، الهوية، الشريعة، الأغلبية، الصناديق.
ولكن المأزق يتكرر، ولا يتصورون بديلا عن مأزق السلطة إلا السلطة. كما تصور الرئيس محمد مرسي أن الحراكالمتصاعد والمطالبات غير الخاضعة لسلطته هم مؤشر مؤامرة، وأن المهرب من المؤامرة هو إعلان دستوري يمنحه المزيدمن السلطات وسرعة إنجاز الدستور بأي ثمن وبأي شكل ليستكمل بناء مؤسسات نفس الدولة، ليتمكن حزب الأغلبية منممارسة المزيد من السلطات. لا مهرب من مأزق السلطة إلا إليها؟
عادت مشاعر الشفقة إليّ، وأنا أتوجه في مسيرة إلى قصر الرئاسة مرة أخرى عقب إعلانه الاستبدادي. الشرطة هناك كانتتعاني من الترقب والقلق – مرة أخرى – كأننا نحن من يحمل السلاح. بعد احتكاكات طفيفة وسحابات باهتة من الغاز تبخرتسريعا، انسحبت الشرطة إلى شوارع جانبية.
وصلنا هذه المرة لأسوار القصرـ وسمعنا أن سيارة الرئيس هربت مسرعة قبل أن تتمكن حشود المتظاهرين من محاصرة كلمداخل القصر.
اشتريت عددا كبيرا من علب الإسبراي من مكتبة قريبة وأهديت بعضها لمن لا أعرفهم وكتبنا على أسوار القصر العديد منرسائلنا حتى بدا مشهد القصر جميلا ومثيرا للشفقة. وكانت الرسالة الأساسية: هذا سجنك لو احتميت به في مواجهة حريتنا.
غالبا سأتوجه بعد أيام، في 25 يناير 2013، مرة أخرى في مسيرة إلى قصر الرئاسة. لست مشغولا بالجدل عن الاحتمالاتوالتكهنات. ولكني ببساطة سأفعل ما اعتدت أن أفعله منذ سنوات، واعتاد آخرين فعله بغير حسابات كثيرة: سنحاصر بحريتناهذا القصر وقصور أخرى لكي نساعد ساكنيها المثيرين للشفقة الذين يصرون على حبس أنفسهم بالداخل، ونعلمهم أن هناكطريقة وحيدة كريمة للهروب من حصار الثورة للقصر: لا مهرب من الحرية إلا إليها.

ما بدا لي

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى