“الإنجيل “بحسب جوزيه ساراماغو

في روايته “الإنجيل بحسب يسوع المسيح”، يقدّم جوزيه ساراماغو رؤية بديلة وجريئة لسيرة المسيح، منذ ولادته حتّى موته. لكنّ “بطريرك” الأدب البرتغاليّ لا يؤسّس هنا لكتاب دينيّ جديد، ولا يهمّه حتّى أن يرسي حقائق “تاريخيّة” أكثر صدقيّةً، إنمّا هو يريد، ببساطةٍ، أن يُعمل أسئلته الوجوديّة، الشعريّة، الحداثيّة، والسياسيّة، وذلك في حوارٍ مشرَّع بين الإنسانيّ والإلهيّ، بين الترابيّ والهيوليّ، بين الأرضيّ المغمَّس بالألم واللذّة والسماويّ الغيبيّ المتلفِّع بألف قناع وقناع.
لدى صدورها عام 1991، أثارت رواية “الإنجيل بحسب يسوع المسيح”، للبرتغاليّ جوزيه ساراماغو (1922-2010)، عاصفةً عنيفة من الردود والمقالات التي انهالت على الرواية وصاحبها، هجوماً ودفاعاً، من كلّ فجٍّ وصوب. الكنيسة الكاثوليكيّة استنكرتها بشدّة واعتبرتها تجديفيّة، أمّا الحكومة البرتغاليّة فمارست الرقابة عليها، معتبرةً إيّاها “مهينةً بحقّ الكاثوليك”، وبذلك، حالت دون ترشّحها لجائزة الأدب الأوروبيّة الرفيعة لعام 1992. إثر هذه الحادثة، غادر ساراماغو البرتغال مكسور الخاطر، وانتقل إلى منفاه الاختياريّ في لانثاروتي، إحدى جُزُر الكاناري الإسبانيّة، حيث عاش حتّى أيّامه الأخيرة. مع هذا الانتقال المكانيّ، شهدت تجربة صاحب نوبل للآداب (1998) مرحلةً جديدة، تمثّلت في ابتعاده أكثر فأكثر عن الأسلوب المباشر لمصلحة التجريد والمجاز.
يُمكن أن توضع رواية “الإنجيل” في سياق عدد من الأعمال حاولت إعادة كتابة حياة المسيح (أبرزها في القرن العشرين رواية كازانتزاكيس “التجربة الأخيرة للمسيح” (1955)، التي نُقلها سكورسيزي عام 1988 إلى الشاشة الكبيرة)، متّكئةً، في الأغلب، على الأناجيل الأربعة، وعلى ما وصَلَنا من الأناجيل المنحولة والكتابات اللاهوتيّة القديمة، ومحتفظةً لنفسها بهامش للمناورة والتخييل. لكنّ ما يميّز رواية ساراماغو عن هذه الأعمال، إلى جانب جرأتها المستفِزَّة وشاعريّتها الاستثنائيّة وغموضها المشعّ وحبكتها العصماء، انحيازها الراديكاليّ للأرضيّ ضدّ السماويّ، للمحسوس ضدّ المجرّد، وللإنسانيّ ضدّ الإلهيّ. كذلك في الإمكان قراءتها، رمزيّاً، كاستعارة عن حريّة الخيال الذي يرفعه الكاتب بديلاً من الواقع أو الحقيقة التاريخيّة. فالتاريخ، كما يعلّمنا صاحب “قايين” (2009)، ليس شديد التماسك، إذ في الإمكان روايته و/أو كتابته بطريقة مختلفة طالما أنّ ذلك يتمّ بوساطة اللغة، وطلما أنّ كلّ سرد إنّما يتضمّن ذاتيّةً ما، انزياحاً ما، شقوقاً منسيّة تتسلّل منها الشاعريّة، ويتسلّل منها ضوء غريب، مشكّك، يصبح للأشياء تحته شكلٌ جديد وللكلمات مذاق حرّيف. هكذا نجد أنّ ساراماغو ليس مهتمّاً على الإطلاق بأن يعرف مَن “كان” يسوع حقّاً من المنظار التاريخيّ، بمقدار ما هو مهتمٌّ بأن يتساءل: مَن “يجب أن يكون” يسوع في المنظار الإنسانيّ؟!
إذاً، بين أيدينا “إنجيل” لا يشبه الأناجيل التي نعرفها، يمكن أن نعتبره تجديفيّاً منذ قراءة عنوانه، والمرور به وعدم الوقوع في التجربة. لكنّ الغوص فيه سيضعنا أمام معطى آخر: ليس هناك شيء محسومٌ ونهائيّ، ليس هناك ما يمكن الجزم بأنّه تجديفيّ في هذا الكتاب. في هذا المقال، نحاول أن نقرأ رواية ساراماغو قراءةً تخرج من المواضعات الضيّقة إلى الفضاء الإنسانيّ الرحب، حيث تتشكّل صورةٌ للمسيح، ليس كإنسانٍ خارق نازل علينا من فوق، بل كمجرّد إنسان: يتنفّس، يأكل، ينام، يتوق، يحلم، يُقلقه الماوراء ويغيظه، فيخاف، يتمرّد، ويحبّ، مثله مثل سائر الناس.
حداثةٌ مشكِّكة
تصلح أقصوصة بورخيس الشهيرة “بيار مينار، مؤلّف دون كيشوت” (1939) التي صدرت أوّلاً في مجموعة “البستان ذو الطُّرق المتشعّبة” (1941) وجُمعت في “خيالات” لاحقاً، خيرَ نافذةٍ ندخل منها، أوّلاً، لنفهم بعض ما أراد ساراماغو أن يفعله في “إنجيله”. قرر مينار، صديق بورخيس المُتخيَّل، أن يقوم بمهمّة شبه مستحيلة: إعادة كتابة رائعة ثرفانتس، حرفاً حرفاً، من دون أن يبدّل شيئاً أو أن يضيف شيئاً. كان ينوي، أوّلَ الأمر، أن يتقمَّص شخصيّة المدريديّ البائس، ثمّ أن يتقن الإسبانيّة جيّداً، يعتنق الكاثوليكيّة، ينسى تاريخ أوروبا بين 1602 و1918، فيصل بذلك إلى “الكيشوت”. لكنّ مينار، وبعد دراسته الطرق المختلفة، بدا له أنّه من التقليل “أن تكون في القرن العشرين روائيّاً شعبيّاً من القرن السابع عشر”، فوجد أنّ التحدّي يكمن في أن “يظلّ بيار مينار وأن يصل إلى “الكيشوت” من طريق اختبارات بيار مينار نفسه”. لن نغامر في المتاهة البورخيسيّة التخييليّة أكثر من ذلك. ما يعنينا هنا هو أن الصعوبة التي واجهت ساراماغو، والتي لم يُرِدْ أن يتجنّبها، هي أن يظلّ ساراماغو، وأن يصل إلى “الإنجيل” عبر اختبارات ساراماغو نفسه، باختلافَين رئيسَيين عن مينار، جعلا مهمّة البرتغاليّ أكثر صعوبةً حتّى: الأوّل يكمن في أنّ للكتاب الذي يتعامل معه هالةً من القدسيّة وشهرةً تفوق شهرة أيّ كتاب آخر، بما يعنيه ذلك من انتهاك وتجديف وهرطقة ومروق. أمّا الاختلاف الثاني فهو أنّ ساراماغو لا يقف عند الحَرفيّة التي يلتزمها مينار، بل يتعدّاها لتقديم صيغة بديلة لحياة المسيح، وإن كان يعرف أنّه ليس في صدد تقديم كتاب يؤسّس لأجوبة ما، وإنّما هو يكتب ليبذر الشكّ ويقوّض المسلّمات، وهو، تالياً، شأنه شأن بورخيس، يرفع التخييل رايةً ويقول بانعدام الحدود بين الرواية التاريخيّة والأدب “الملفَّق”.
لم يُرِدْ سليلُ بيسوّا إذاً أن يتخلّى عن إحساسه الحداثويّ، ووعيه التاريخيّ، كما أنّه لم يُرِد أن يتخلّى عن سخريته التي وراءها ذكاءٌ باهر. فالتطابق بين الراوي والكاتب، كما في أغلب روايات صاحب “رحلة الفيل” (2008)، يكاد يكون تامّاً. هكذا يطالعنا في “الإنجيل” هذا الصوتُ الصبور، الحنون، الدافئ، المتفهّم، الشكّاك والمتهكّم، الذي ليس سوى صوت ساراماغو نفسه. إنّه يكتب في أوروبا أواخر القرن العشرين، وفي نفسه مرجعيّاتُه السياسيّة (الماركسيّة) والدينيّة (الإلحاد) والفلسفيّة (الماديّة التاريخيّة) والثقافيّة (اليهوديّة-المسيحيّة، في هذه الحالة) والقوميّة (البرتغاليّة أو الأوروبيّة، بشكلٍ أوسع). لكنّ ما يميّز ساراماغو، ويجعل منه صوتاً استثنائيّاً، هو أنّ في نَفْسه، إلى جانب كلّ ما سَبَق، حسّاً إنسانيّاً، بديهيّاً، طفوليّاً، نقيّاً، شاعريّاً، قادراً أن يجعله يتخلّى عن كلّ ما سبق ليسير وراءه مغمضَ العينَين. لكنّ عينيّ ساراماغو لم تعرفا إغماضةً. كانتا، على مدى تجربته الكتابيّة، تتناوبان السهر والنوم، فتقرُّ عينٌ وتظلُّ أخرى جاحظةً في ليل العالم، تتلمّس مآسي الإنسانيّة، خصوصاً تلك التي تضرب العالم الثالث آتيةً من العالم “الأوّل”، في أغلب الأحيان!
من هو، إذاً، هذا المسيح الذي تتشكّلُ صورتُه على امتداد صفحات “إنجيل” ساراماغو؟
النهار