“جبروت التلفزة” في تشكيل الواقع..

فيما باتت التلفزة موضع دراسات ثقافية عميقة في الغرب بقدر ماهي جذابة فان ثمة حاجة ثقافية للكتابة عن تاريخ حميم للمصريين امام التلفزيون بخطاب موجه للقاريء العادي وبعيدًا عن الجفاف الذي كثيرا مانسب وينسب ظلما للكتابات الأكاديمية وكأن هذه الكتابات لابد وان تكون جافة باردة طاردة للقاريء العادي!.
وعلى إيقاع مايعرف “بجبروت التلفزة” كظاهرة لاتفرق بين غرب وشرق ولا بين بريطانيا ومصر تتوالى الاسئلة ومن بينها : هل تحول المصريون الى أمة مقعدها الدائم امام الشاشة الصغيرة وماتوصيف هذه العلاقة؟!..أتكون علاقة حب أم استسلام سلبي ؟!..وهل بات المصري مجرد متلقٍ لما تبثه التلفزة على مدار الساعة؟!.
إذا كان الأمر كذلك فلا مناص من التسليم بالقوة الجبارة للتلفزيون ولابد من محاولات جادة لتوظيف هذه القوة بما يخدم التطور الثقافي للمصريين.
إن الأمر في هذا السياق يتجاوز بكثير مايسمى بالقنوات الثقافية وينبغي ان ينطلق من رؤية عميقة بقدر ماهي رحبة لبحث التأثير الثقافي للتلفزيون بخصائصه على وجه العموم في الحياة الثقافية المصرية وعلى ثقافة المصريين ونظرتهم للذات والحياة والعالم.
والحقيقة أن الأمر ليس وقفا على مصر ونظرة على كتاب صدر مؤخرا بالانجليزية بعنوان :”امة على مقعد: تاريخ حميم لبريطانيا أمام شاشة التلفزيون” لجوي موران الذي يسترجع اياما لم يكن متاحا فيها للبريطانيين سوى الاختيار بين ثلاث قنوات تلفزيونية.
ذلك ماكان في بريطانيا ستينيات القرن العشرين ولعل البعض في مصر يسترجع تلك الأيام التي لم يكن عدد القنوات التلفزيونية المصرية يزيد عن قناتين ولعل مسألة التأريخ والرصد لدور التلفزيون في تشكيل ثقافة المصريين بحاجة لباحثين على طراز جوي موراي مؤلف هذا الكتاب الجديد فهو بروفيسور شاب متخصص في “التاريخ الثقافي” وصاحب عين لاقطة وذهن متوثب بقدرة إعادة بناء التفاصيل والوصول لنتائج واستنتاجات بما يخدم الثقافة البريطانية.
هل استفادت الثقافة المصرية من تلك الطفرة التلفزيونية بقنواتها الفضائية التي احالت تلفزيون الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين لمجرد ذكرى يسترجعها من عرفوا تلك الأيام وسكنت ذاكرتهم؟..
ولكن هذا الكتاب الجديد يؤكد ايضا ان قطاعات هامة في المجتمع البريطاني تشعر بالقلق ان لم يكن الغضب حيال هذا الدور المتعملق للتلفزيون وبعض الشرائح في المقابل تشعر بأنها مهمشة في ظل جبروت التلفزة ناهيك عن المخاوف الاخلاقية مع استشراء النزعة الحسية البصرية الصارخة وللمفارقة فان الوجه الآخر للعملة يتمثل في خطابات مشوهة لجوهر الدين كما تبدى في بلد كمصر.
إذا كانت مصر تقف في مفترق طرق وتمر بلحظات فارقة فما هو دور التلفزيون بالضبط في تلك اللحظات وهل يمكن تصويب هذا الدور أن كان بوضعه الراهن يلحق اضرارا بالمصريين تصل لحد تهديد امنهم القومي؟!.
نعم هذا الكتاب الجديد يؤكد على ان هناك في بريطانيا من يعتريهم القلق حيال تأثير المتغيرات كما يظهرها التلفزيون على التماسك المجتمعي كما ان هناك اهتماما “بتعزيز التلفزة البريطانية عبر البحار في الحروب الاعلامية العالمية والتنافس بين الثقافات ” فيما يرغب البعض في تحويل هذا التنافس الى صراع له ابعاد دموية.
في تلك الحروب وسواء بالأصالة او بالوكالة باتت التلفزة السلاح الجبار في سياقات معولمة وسواء رضى البعض ام لم يرضوا فان الكثير من نتائج هذه الحروب يتوقف على مدى كفاءة النخبة التلفزيونية..وغني عن القول ان غياب التكوين الثقافي الراسخ لهذه النخبة لايعني سوى الانحطاط والهزيمة في حروب تفرض فرضا على الأمم.
فهل حان الوقت لمراجعة ثقافية شاملة لتلك القضية في مصر بجد لاهزل فيه؟!..هل حان الوقت ليقوم التلفزيون بالدور المأمول في بناء الغد الأفضل للمصريين وفي بناء الوعي لاتزييفه؟!..نعم التلفزيون قوة جبارة لكنها يمكن ان تكون قوة للبناء او قوة للهدم!..ومن هنا فالشأن التلفزيوني شأن مجتمعي بامتياز وقضية ثقافية بالدرجة الأولى.
بوابه الاهرام