السيسي رئيسًا: تقديرات غربية

 

239

 

ثمة حالة من الالتباس والغموض تكتنف المحللين والكتاب الغربيين بشأن شخص الفريق أول عبد الفتاح السيسي، مع اجتهادات البعض منهم لتصنيفه فكريًا وأيديولوجيا من جهة، والتساؤل بشأن مرتكزاته القيمية من جهة أخرى، وهل هو شخص ذو مبادئ سامية أم إنه  شخص وصولي يسعى عن كثب إلى السلطة؟ وهل سيقدم على ترشيح نفسه للرئاسة القادمة أم إنه سيكتفي بأن يدير دفة الحكم من وراء ستار؟ بل إن بعضهم بحث في تاريخ مصر عن نموذج مماثل للسيسي تربع من قبل على عرش مصر، في محاولة لاستلهام خبرات الماضي وسياقاته لمعرفة ما سيؤول إليه مستقبل البلاد إذا ما تولى السيسي بالفعل مقعد الرئاسة.

جدالات التحليل الذاتي: إسلامي أم قومي؟

القائد حورمحب: النموذج الفرعوني للسيسي

إشكالية “الشعب يريد”

الرهانات الخاسرة: رئيس على كل الأحوال

جدالات التحليل الذاتي: إسلامي أم قومي؟

في محاولة منه للكشف عن الجوانب الغامضة من شخصية الفريق السيسي، عمد ريموند ستوك، الباحث بمعهد أبحاث السياسة الخارجية بواشنطن Foreign Policy Research Institute، إلى استجلاء رأي روبرت سبرينجبورج الأستاذ بقسم شؤون الأمن القومي بالكلية البحرية الأمريكية ومدير مركز الشرق الأوسط للعلاقات المدنية العسكرية، والذي استعان في تحليله بالأطروحة التى كان السيسي قد أعدها أثناء دراسته بالولايات المتحدة الأمريكية عام 2006، حول رؤيته بشأن الإسلام والدولة.

ويؤكد سبرينجبورج، الذي يعد أول من كشف عن أطروحة السيسي تلك، إنه على الرغم من كون الورقة المقدمة من السيسي مصنفة على إنها وثيقة سرية، برغم عدم اشتمالها على أى من أسرار الدولة المصرية، إلا إن هيئة الرقابة القضائية قررت في أغسطس 2012 الإفراج عنها والسماح بنشرها بموجب قانون حرية تداول المعلومات الأمريكي، ولولا ذلك لما خرجت تلك الوثيقة إلى النور.

وفى هذه الورقة البحثية يذهب السيسي إلى إنه “يوجد أمل في تحقيق الديمقراطية في الشرق الأوسط، وفي مصر تحديدًا، على المدى البعيد، ولكن نموذج الديمقراطية التي سيطبق في مصر سيكون مغايرًا لذلك الموجود فى الغرب”، وقصد السيسى بذلك إن الديمقراطية في الشرق الأوسط لن تكون مبنية على مبادئ العلمانية وإنما على مبادئ الفكر الإسلامي. وفى ضوء تلك الورقة يرى سبرينجبورج إن السيسي، الذى وعد بعد عزل مرسي باستعادة الديمقراطية خلال تسعة أشهر هي فترة المرحلة الانتقالية الثانية، لديه النيه للاستئثار بالسلطة، وحذر من “أجندته الإسلامية” مؤكدًا إن السيسي لن يستعيد “السلطوية العلمانية” التي انتهجها مبارك، ولكنه سيطبق نظامًا مختلطًا يجمع بين الإسلامية من جهة والعسكرية من جهة أخرى.

ويرى ريموند ستوك إنه على الرغم من تقدير السيسي، في أطروحته البحثية، للخلافة الإسلامية باعتبار ما لها من فضل فى توحيد العالم الإسلامي وإكسابه القوة والشموخ، إلا إنه أشار إلى استحالة عودة الخلافة الإسلامية مرة أخرى، بخلاف مرسي الذي يعتقد جازمًا بعودتها، وإنها حتى لو عادت فإن السيسي يتمنى أن تكون عاصمتها القاهرة، وليس القدس كما يتمنى مرسي، الأمر الذى يبرز انتماء السيسي لبلاده وحبه لها(1).

وعلى العكس من ذلك يرى كل من مايك جيجليو وكريستوفر ديكي، إن نشأة في أسرة محافظة متدينة باعتدال تؤمن بمبادئ القومية، جعلت الاعتبارات القومية هي المحدد ذو التأثير الأبرز في تصرفاته وهي الدافع الرئيس لما اتخذه من إجراءات أفضت في الأخير إلى عزل مرسي عن السلطة، ذلك إن الفوضى الحاصلة والتردي الاقتصادي والاضطراب السياسي كانت قود الثورة الشعبية التي أطاحت بمبارك، ومن ثم فإن استمرار حضور تلك العوامل هو الذي دفع السيسي للتحرك ضد مرسي الذي فشل في التعاطي الإيجابي مع تلك الملفات الحساسة للدولة(2).

القائد حورمحب: النموذج الفرعوني للسيسي

ويذهب ريموند ستوك بعيدًا ليبحث في أعماق التاريخ المصري في محاولة منه لعقد مقارنة بين السيسي وعدد من الشخصيات العسكرية التى تولت عرش مصر، ليخلص إلى إن أشدهم قربًا لمسلك السيسي هو القائد العسكري حورمحب آخر ملوك الأسرة الثامنة عشرة، والذي كان يشغل منصب قائد  الجيش فى عهد الملك إخناتون، أمنمحتب الرابع، الذى حكم مصر خلال الفترة بين 1353-1336 قبل الميلاد، وأطلق على نفسه اسم “فرعون التوحيد”، حيث انشق عن عقيدة الكهنوت وانشغل عن متابعة اقتصاد البلاد وأمنها بملاحقة من لا يزال على العقيدة القديمة.

وكحال محمد مرسي، فقد حرص إخناتون على محاباة التابعين له وتنصيبهم فى الوظائف العليا بالدولة، الأمر الذي أدى إلى التدهور الاقتصادي والأمني فسادت الاضطرابات وعمت الفوضى والسخط الشعبي أرجاء البلاد، وعلى الصعيد الخارجي تهاون إختانون فى ضياع إمبراطورية الشرق الأدنى وذهابها للغزاة من دون محاولة واحدة للدفاع عنها، وهو ما يتشابه مع مسلك مرسي في أواخر يوينو 2013 حينما هدد بإعلان الجهاد ضد بشار الأسد، في خطوة لم يرض عنها الجيش الذى ليس لديه أى نية للدخول فى حرب مع دمشق، كما سمح للبعض فى مؤسسة الرئاسة بإطلاق تهديدات بضرب سد إثيوبيا من دون استشارة الجيش، والأكثر خطورة تصريحه للرئيس السوداني عمر البشير بأنه سيتنازل له عن جزء من الأراضي المتنازع عليها بين البلدين، الأمر الذي دفع حورمحب إلى الإطاحة بإخناتون، وتنصيب نفسه فرعونًا لمصر في التاريخ القديم، ودفع السيسي إلى الإطاحة بمرسي مؤخرًا، ربما بانتظار أن يتبوأ مقعد الرئاسة في الوقت المناسب على غرار سلفه حورمحب(3).

إشكالية “الشعب يريد”

وإذا كان الوقت وحده هو الذى سيوضح ما إذا كان السيسي الذى يحاول اجتذاب تفاصيل المشهد السياسى باتجاه تشكيل حكومة تكنوقراط مدنية من اختياره هو بالفعل شخصية تنتمي للفكر القومي أم للفكر الإسلامي، وما إذا كان سيعيد لمصر مكانتها مثلما فعل حورمحب ويسعى إلى تعزيز الاستقرار والديمقراطية، أم إنه سيكشف لنا لاحقًا عن شخصية عسكرية تعسفية كانت تتخفى وراء ستار الديمقراطية لتحقيق مأربها بالوصول للحكم، فإن الرأي العام الغربي منشغل بقضية الضغوط الشعبية التي تدعم ترشيح السيسي رئيسًا لمصر، ولو بدون انتخابات وفقًا لما جنحت إليه بعض الحملات الشعبية النشطة في هذا الإطار.

وعن ذلك عرض لأبيجال هوزلنر بصحيفة الواشنطن بوست مقالة بعنوان “المصريون يعدون السيسي للرئاسة”(4)، تناول فيها الحملة التى انطلقت فى شوارع مصر، لجمع توقيعات الهدف منها هو إقناع الفريق أول عبد الفتاح السيسي بالترشح للرئاسة، حيث يجوب منظمو الحملة الشوارع لجمع توقيعات المؤيدين والأرقام الخاصة ببطاقات هويتهم، وقد نجحت الحملة، وفقًا لمنظميها فى جمع أسماء حوالى تسعة ملايين شخص، أى ما يعادل 10% من إجمالي سكان مصر، لتأييد السيسي الذي وصفته الصحيفة بإنه “انقلب” على أول رئيس منتخب في مصر.

 أما روث بولارد بصحيفة الجارديان، فقد أشار، فى مقالة بعنوان “كل العيون تذهب إلى السيسي وتسأله السلام”(5)، إلى تصاعد نفوذ المؤسسة العسكرية داخل المنظومة السياسية فى ضوء حقيقة مفادها إن السيسى بات في عيون المصريين بمنزلة المنقذ الذي سيعيد الأمن والسلام إلى أرض الاضطراب، وركزت الصحيفة على ربط المصريين بين صورتي الفريق السيسي والرئيس الراحل جمال عبد الناصر، لإقناعه بالدخول إلى معترك السياسة لاستعادة أمجاد الحقبة الناصرية.

وإلى جانب الاضطرابات وحالة العنف السائدة في مصر يوضح بولارد إنه على الرغم من رفض جماعة الإخوان المسلمين وحلفائها لأفعال السيسي ووصفهم لها بالانقلاب على الشرعية، فإن حالة الانقسام التي باتت تمثل سمة من سمات الأحزاب السياسية فى مصر تشكل تربة خصبة لصعود شخصية من المؤسسة العسكرية نجحت، إلى حد كبير، في استقطاب دعم شعبي لها مكنها من أن ترسخ وجودها داخل الفراغ الحاصل فى السلطة والذى أحدثه ذلك الانقسام.

ويشير بولارد في ذات السياق إلى تمتع السيسي نفسه بكاريزما خاصة لدى المصريين، مكنته من أن يضع نفسه فى قالب شخصية عبد الناصر ليصبح انعكاسا لصورة الجنرال الراحل فى أذهان المصريين، وكمثل أنور السادات ظهر السيسي بمظهر الشخص الورع الذى يخاف الله ويحافظ على مظاهر التدين التي تمثل لدى المصريين قدسية خاصة.

ترى قطاعات واسعة من المصريين، وفقًا أبيجال هوزلنر، إن مصر بحاجة إلى حاكم قوي، يكون ولاؤه للشعب وليس لفرد أو جماعة، وأن يكون غير طامع فى سلطة، وفكرة الطمع فى السلطة هذه هي التي تجعلهم يشبهون السيسي بعبد الناصر الذى تنحى عن منصبه بعد هزيمة 1967 ليعود إليها بضغط شعبي، ومثلما خلص مصر من الحكم الملكي وشن الحرب على القوى الغربية العظمى، وأمم قناة السويس، فإن السيسي، وفقًا لمؤيديه، خلص مصر من التبعية للولايات المتحدة من خلال الإطاحة بمحمد مرسي، حيث يعتقد الكثير من المصريين إن الولايات المتحدة تدعم جماعة الإخوان المسلمين، والكثير من المصريين يتوسمون في السيسي القدرة على إعادة مصر إلى مكانتها، لذلك ترى صوفيا جونز(6) إن قرار الولايات المتحدة الأخير بتعليق بعض مساعداتها إلى مصر قد أضاف للسيسي زخمًا شعبيًا جديدًا، وجعل منه بطلاً قوميًا، حيث رحب المصريون بقرار التعليق واحتمالية القطع ورأوه خطوة جادة على طريق تحقيق الاستقلال السياسي لمصر.

الرهانات الخاسرة: رئيس على كل الأحوال

وفي سياق متصل يشير المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في ورقة بحثية بعنوان “مصر: تغير السياسات تحت سيطرة الجيش”(7) إلى تغير ميزان القوى فى مصر وتحول السياسات العامة تحت حكم الجيش وكيف ستضرب المؤسسة العسكرية بجذورها في معترك التنافس الانتخابي القادم، وتحاول أن تعلي من رصيدها الشعبي مشتغلة في ذلك على وتر الكرامة ومشاعر العزة القومية، ومعتمدة في خطابها الإعلامي على تمصير الإسلام وإظهار تبنيها النموذج المعتدل منه على عكس ما فعل الإخوان المسلمون، وإبداء إمارات الولاء للشعب، ولعل المظهر الذى يخرج به السيسي على الشعب مرتديا عباءة حمال عبد الناصر تبرز هيمنة المؤسسة العسكرية على السلطة المدنية، ما دفع العديد من المصريين للالتفاف حول المؤسسة العسكرية لاستعادة النظام العام.

السؤال الأجدى بالطرح في هذه المرحلة ليس هو هل سيترشح السيسي للرئاسة أم لا؟ ولكن هل سيحكم السيسي البلاد بشكل مباشر من خلال خوض الانتخابات الرئاسية القادمة والفوز فيها، أم إنه سيعزف عن الترشح وسيؤثر البقاء بنفوذه وسطوته في الخلفية ومتابعة المشهد من بعد تاركًا رئيس الجمهورية وحكومة تكنوقراطية تدير شؤون البلاد وتبقى في الصدارة؟

أجاب على هذا التساؤل معهد كارنيجي للسلام فى ورقة بحثية أعدها الباحث سكوت ويليامسون بعنوان “ضعيف للغاية…ومتأخر للغاية: رهان المعارضة الليبرالية فى مصر”(8) شدد فيها، بداية، على خطورة عودة النفوذ العسكري على العملية الديمقراطية. ويشير الباحث إلى إنه على الرغم من إن التعاون مع الجيش أتاح  لليبراليين هزيمة خصومهم الإسلاميين، على الأقل فى الوقت الحاضر، إلا إن رهانهم على حصان العسكر حمل فى طياته خطرًا كبيرًا يتمثل فى تجدّد السطوة الأمنية على حساب القيم الديمقراطية التي تعد المسعى الأكبر لعدد كبير من الأحزاب العلمانية والناشطين الليبراليين في مصر.

وبعد أكثر من ثلاثة أشهر على عزل مرسي، يستحيل الخطر المحتمل، في نظر ويليامسون، باديًا للعيان في ظل حملات التضييق على الإخوان المسلمين ومعارضي الانقلاب بشكل عام، في مشهد يعيد إلى الأذهان إحياء الدولة البوليسية التي تتجلى مظاهرها فى الإجراءات القانونية والمؤسسية الحالية، ولاسيما قانون الطوارئ الذى أعيد فرضه من جديد، وهي الأجواء التي تتزايد فيها التكهنات وتترجح احتمالات ترشح السيسى كونه الشخصية الأكثر قبولًا وشعبية فى الوقت الحالي، الأمر الذى يعزز من مخاوف عودة الدولة البوليسية بكامل سطوتها القمعية، وفقًا للباحث.

ولذلك يرى ويليامسون أن هذا بدوره  دفع  بعض رموز العلمانيين إلى التعبير عن معارضتهم، على استحياء، لفكرة ترشح السيسي للرئاسة خوفًا من بلوغ شخصية عسكرية سدة الحكم، ومن بينهم حمدين صباحي الذى تراجع عن دعمه لترشح السيسي، وكذلك فريد زهران نائب رئيس الحزب  المصرى الديمقراطى الاجتماعى، وبعض أعضاء حركة تمرد اللذين رفضوا التعليق على تصريحات القيادي بالحركة محمود بدر بإن تمرد ستدعم السيسي رئيسا لو لم يعود الأمن إلى البلاد.

ووفقًا لويليامسون، فإن أوان التعبير عن الرفض قد فات، حيث إن القوى الأمنية، وفي القلب منها الجيش، قد أرست لنفسها قواعد سيكون من الصعب العودة عنها، ذلك إن قيام الجيش بعزل مرسي أضفى نوعًا من المشروعية على  تدخل المؤسسة العسكرية فى إدارة البلاد والتأثير على كل الرؤساء  القادمين، وخاصة ممن لا يتمتعون بشعبية واسعة، وعلى الجانب الآخر فإن العنف الذى تم التعامل به مع مؤيدي مرسي سيؤثر على أي حملات تعبوية شعبية في المستقبل، من غير المؤيدين لمرسي، ضد المؤسسة العسكرية، وبذلك يصبح الليبراليون هم الطرف الخاسر في رهانهم على التحالف مع الأجهزة الأمنية التي ذهبت لصالح الدولة البوليسية الصاعدة التي تتمتع بالفعل بالقوة، وكل المؤشرات تؤكد أن الجيش والشرطة سيمضيان قدما في تثبيت سلطتيهما بالشكل المناسب داخل المنظومة السياسية فى مصر لأجل غير مسمى.

المصرى اليوم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى