منحة ومحنة!!!!

صدفة أن نحتفل بذكرى ليلى مراد وعيد ميلاد فيروز فى نفس اليوم، أدَّى الحداد على أرواح شهداء الواجب المصريين إلى إلغاء كل المظاهر الاحتفالية على مدى ثلاثة أيام ليتوافق رحيل ليلى الثامن عشر مع عيد ميلاد فيروز الثامن والسبعين.
فارق زمنى بين القمتين الغنائيتين يصل إلى 17 عاما، أى أننا نتحدث عن جيل انتمت إليه ليلى التى وُلدت عام 18، وجيل ثانٍ عاشته فيروز التى وُلدت عام 35، إلا أن المفارقة هى أنه فى اللحظة التى بدأ فيها نجم ليلى مراد يأفل بعد الطعنة الغادرة من أنور وجدى فى منتصف الخمسينيات كانت هى نفس اللحظة التى شهدت انطلاق فيروز إلى عنان السماء بجناحَى الرحبانية.
ليلى مراد لم تنسحب من الحياة الفنية كما ردد العديد من المراجع الفنية ولكنها أُجبرت على الابتعاد، ولا أقول الاعتزال، فلقد ظلت قبل رحيلها بسنوات قليلة تسجل أغانى فى الإذاعة، وفى عز سنوات عطائها ومجدها الفنى أُطلقت الطعنات الغادرة ممن كان أقرب الناس إليها أنور وجدى طليقها الذى أراد الانتقام منها فاستغلّ ديانتها السابقة وبدأ فى ترويج شائعة مساعدتها لإسرائيل.
لم تكن ليلى وقتها قد بلغت بعد السابعة والثلاثين، بينما فيروز وهى فى العشرين من عمرها تتزوج من عاصى فيضع هو وشقيقه منصور كل الطاقة الإبداعية وتصبح هى والرحبانية مثل شجرة الأرز عنوانًا ورمزًا للبنان. انظر ماذا فعلت ليلى بعد أن لاحقتها تلك الشائعة السخيفة؟ ترتبط بوجيه أباظة، أحد رجال الضباط الأحرار، لكى يضمن لها حماية سياسية وتنجب منه الطفل أشرف بعد زواج عرفى قصير وتخوض المعارك لإثبات الطفل رسميا، ثم تتزوج بعدها من المخرج الكبير فطين عبد الوهاب وتنجب ابنها الثانى زكى، ولكن أين ليلى مراد على الخريطة فهى لم تستفد شيئا من أزواجها الثلاثة فهى التى وقفت إلى جانب أنور وجدى فى أول فيلم يخرجه «ليلى بنت الفقراء».
بينما كان أنور يريد أن يحتكرها، وعندما كانت تتعاقد لبطولة فيلم لشركة منافسة يسعى جاهدا لإثارة الخلافات فى المنزل حتى تذهب للاستوديو وهى فى حالة مزاجية سيئة.
بينما فيروز رغم أن الأخوين أحاطاها بسور عالٍ مكتوب عليه ممنوع الاقتراب، ومارسا على صوتها قدرا لا يُنكر من الاحتكار، فإن هذا لم يمنع من أن تغنى مثلا مذاقا موسيقيًّا مختلفا لفيلمون وهبة، وهو واحد من عباقرة النغم فى لبنان، لديه جملة لحنية شقية وخفيفة الظل مثل «يا مرسال المراسيل» و«طيرى ياطيارة» و«من عز النوم» و«فايق يا هوى»، وبالطبع سوف نكتشف أن الكلمات والتوزيع منحا تلك الأغانى أيضا مذاقا رحبانيًّا، وهو ما تكرر مع عبد الوهاب فى ألحانه لها مثل «سهار» و«مُر بى» و«سكن الليل» وغيرها، وتتوقف تجربة الأخوين فى منتصف الثمانينيات وتكمل المشوار بمذاق عصرى مع ابنها زياد فهو مِنحة عصرية مدت فى عمرها الفنى ولا تزال على مدى تجاوَز ربع قرن.
قدمت ليلى 27 فيلمًا وكانت هى النجمة الأولى رغم أن محمد كريم المخرج الرائد كان يرى أنها لا تصلح للشاشة وتردد كثيرا قبل الموافقة على أن تشارك عبد الوهاب بطولة أول أفلامها «يحيا الحب».
ليلى بالدرجة الأولى مطربة سينمائية تراثها الغنائى مَدين فى القسط الأكبر منه للشاشة الكبيرة، فلقد كانت تخشى مواجهة الجمهور فى الحفلات، بينما فيروز لم تُقدم سوى 3 أفلام ولا تملك حضورا أمام الكاميرا ورصيدها المسرحى وفى الحفلات الغنائية هو عمقها الاستراتيجى.
ليلى ظلت تشكو من تجاهل مؤسسة السينما التابعة للدولة لها وذلك فى الستينيات ولم يهيئ لها أحد الفرصة لكى تواصل المشوار، وظلت حتى الثمانينيات تسجل أُغنيات إذاعية بعد أن فقدت الكثير من لياقتها الصوتية، إلا أنها فى الحقيقة لم تفقد حضورها وسجلت حلقة من برنامج «جديد فى جديد» إنتاج بليغ حمدى وغنَّت على عوده «يا مسافر وناسى هواك رايداك والنبى رايداك» تلحين أحمد صدقى بأروع وأرقّ أداء، والغريب أنها طلبت من التليفزيون المصرى وقتها أن لا يعرض الحلقة.
الدائرة التى أحاطت فى البداية بليلى مراد منحتها كل عوامل النجاح، فوالدها مطرب شهير (زكى مراد)، ويدفعها عملاقان مصريان يهوديان (توجو مزراحى فى السينما) و(داوود حسنى فى الموسيقى)، وكان أنور وجدى هو منحة القَدَر الثانية قبل أن يُصبح هو المحنة التى ظلت تعانى منها حتى الرحيل، بينما الأخوان رحبانى كانا هما المنحة الإلهية الأولى وبعدها كان زياد هو عطية السماء الثانية.
الجورنال