كواليس زيارة مرسي لروسيا

الزيارة التي قام بها الرئيس محمد مرسي لسوتشي في نهاية الاسبوع الماضي وما واكبها من تصريحات اعادت الكثير من ذكريات ستينيات القرن الماضي, اثارت الكثير من اللغط والجدل بين الاوساط السياسية.. الداخلية والخارجية.
ورغم عدم التوصل الي اتفاقات محددة بصدد الكثير من موضوعاتها, فان الوقت لا يزال مبكرا لاستباق الامور واصدار الاحكام القاطعة, وإن يظل الايجاب هو الغالب في هذا الشأن.
عادت روسيا لتولي اهتمامها شطر مصر علي نحو يعيد الي الاذهان الكثير من ذكريات ستينيات القرن الماضي, تقديرا لتاريخ واجلالا لمكانة واستجابة لرغبة من جانب القيادة السياسية المصرية حار الكثيرون في تفسيرها بين الاستراتيجية والتكتيك, واذا كانت روسيا استقبلت الرئيس مرسي في توقيت ثمة من يقول ان النجاح فيه يصب في مصلحة الاخوان, وهي المنظمة التي تظل بموجب قانون المحكمة العليا الروسية منظمة ارهابية يحظر نشاطها في روسيا اعتبارا من14 فبراير2003, فان الواقع يقول ان الكرملين طالما أعلي العام علي الخاص من منظور براجماتية السياسة وقدسية المصلحة المتبادلة, واعتبار العلاقة مع الشعوب هي الدائمة, وان الحاكم في زوال وان طال الزمن. ولعل المتابع لشخصية الرئيس فلاديمير بوتين منذ ان تسلم قمة السلطة في الكرملين, يدرك انه امام شخصية من طراز خاص, وقدرات نادرة يساندها ما تراكم لديه من تجارب, وما استوعبه من دروس طوال سنوات دراسته وعمله بين جنبات أحد اعتي أجهزة المخابرات العالمية.ولعل كل من قيض له اللقاء مع هذا الزعيم, أو حضور ما يعقده من لقاءات او مؤتمرات يدرك مدي ما يتمتع بوتين به من حضور طاغ, كثيرا ما يفقد المرء القدرة علي منازلته ولا سيما اذا كان الامر يتعلق بقضايا الوطن التي طالما اعلنها خطا أحمر لا يسمح لاي كائن كان بتجاوزه. وفي هذا الصدد يذكر المراقبون خطابه في مؤتمر الامن العالمي في ميونيخ في2007 الذي اعلن فيه رفضه لهيمنة القطب الواحد والتحول نحو دعم القدرات العسكرية لبلاده واستعادة مواقعها علي خريطة السياسة العالمية. علي ان بوتين ورغما عن كل ما يظهر عنه من تشدد وعدم مهادنة فيما يخص قضايا الوطن, يظل محاورا براجماتيا لين الجانب لا يغمط الآخر حقه وفرصته في الحصول علي بعض ما يريده دون تجاوز ما يراه خطا أحمر يمس مصالح الوطن.
ويذكر المراقبون ان بوتين سبق والتقي مرسي علي هامش قمة رؤساء بلدان مجموعة’ بريكس’ في مارس الماضي, حيث تطرق الحديث الي جانب قضايا الحاضر الثنائية والاقليمية والدولية, الي الكثير من ذكريات’ الستينيات’, وما حفلت به من انجازات ابان سنوات حكم الرئيس عبد الناصر, وهو ما عاد واشاد به الرئيس مرسي في حديثه الي وكالة’ تاس, فيما اعرب عن تطلعه لاستعادة بعض ذلك التاريخ وطالب بعودة روسيا الي مصر لتنفيذ الكثير من مشروعات التعاون, التي علمنا انها تشمل ايضا المجالات العسكرية!!. ونذكر ان اللقاء الذي كان مقررا له ثلث الساعة, طال وامتد لما يزيد عن الساعة ونصف الساعة, لم تكن لتكفي علي ما يبدو لتقرير ما كان يصبو اليه الرئيس المصري, ليعرب عن تطلعه لزيارة روسيا في اقرب فرصة ممكنة وهو ما حدده الجانب الروسي مبدئيا في اواخر مايو, وإن عاد الجانبان ليتفقا علي تقديمه الي19 ابريل الجاري..
علي ان ما تمخضت عنه زيارة سوتشي من نتائج يصعب التكهن اليوم بمدي امكانية وضع ما اعلن منها حيز التنفيذ, فاننا نقف امام بوادر مرحلة جديدة تقول ان روسيا تتفهم حرج المرحلة, ومدي حاجة الجانب المصري الي الكثير مما لم تستطع الحصول عليه من آخرين. ولم تكن لتتخذ موقفا مغايرا وهي التي طالما هرعت لاقالة عثرات الاصدقاء علي ضفاف النيل منذ توجه اليها الرئيس عبد الناصر عن طريق شواين لاي رئيس وزراء الصين الاسبق لامدادها بالاسلحة في عام1954 بعد ان عجز علي صبري موفده الي واشنطن حتي في لقاء اي من المسئولين الامريكيين لبحث هذه القضية, وهو ما استجابت له من خلال صفقة الاسلحة التشيكية. ونذكر ان موسكو عادت واتخذت قرارا مماثلا حين سحب البنك الدولي عرضه لتمويل بناء السد العالي. وثمة من يقول في موسكو, ان القيادة السياسية الروسية لم تكن بعيدة عما تناثر من انباء حول تعثر الاتفاق حول زيارة الرئيس مرسي لواشنطن مرتين.. الاولي في سبتمبر2012 في اعقاب مشاركته في اجتماعات الجمعية العامة للامم المتحدة, والثانية في فبراير الماضي, فضلا عن عدم زيارة باريس في اعقاب زيارة برلين في نفس الشهر علي خلفية انتقاداته لسياسات فرنسا في مالي, وعدم ادانته لنشاط التنظيمات الاسلامية الارهابية هناك, الي جانب صعوبة الاتفاق حول زيارة مماثلة لبريطانيا, وبغض النظر عن صحة ما يقال حول تعثر بعض السياسات الخارجية لمصر لاسباب لا يتسع لها الحديث.. مناسبة ومساحة,فان ما نجح الجانبان في التوصل اليه, يعتبر انجازا واختراقا وبما يسمح لنا بالقول اننا ازاء مرحلة جديدة تقترب بنا من أجواء الستينيات, وإن تتباين مفرداتها وملامحها. فقد توصل الجانبان الي اتفاقات مبدئية حول احلال وتجديد الكثير من مشروعات ذلك الزمان وفي مقدمتها توربينات السد العالي ومجمع الالومنيوم ومصانع الحديد والصلب وفحم الكوك الي جانب الاتفاق المبدئي حول التعاون في مجالات الغاز والنفط واستخراج اليورانيوم وبناء اول محطة نووية في منطقة الضبعة, والمساهمة في بناء البنية التحتية لقناة السويس ومشروعات السكك الحديدية ومترو الانفاق الذي كان الاتحاد السوفييتي أول من تقدم لبنائه في مصر في منتصف ستينيات القرن الماضي مستفيدا من معدات وخبرات بناء انفاق السد العالي بعد الانتهاء من المرحلة الاولي للسد في عام1964 وهو ما لم يتم في حينه. ولعل ما استبق به أركادي زلوتشفسكي رئيس اتحاد منتجي الحبوب في روسيا, زيارة الرئيس المصري من تصريحات قال فيها: إن بلاده لا تملك حاليا ما يكفي من القمح كي تقدمه لمصر, وانها لن تستطيع توريد كميات كبيرة إلا خلال موسم التسويق الجديد, وما قيل حول ان موسكو تنظر بعين الاهتمام الي تلبية ما يطلبه الجانب المصري, يعيد الي الاذهان استجابة الزعيم السوفييتي الأسبق نيكيتا خروشوف يوم لطلب عبد الناصر حول امداد مصر بما كانت تحتاجه من الحبوب, في الوقت الذي كان الاتحاد السوفييتي نفسه يستورد هذه الحبوب من كندا بسبب الجفاف الذي عصف بإنتاجه في ذلك العام, وهو ما تمثل في اصدار خروشوف اوامره لتحويل بعض السفن التي كانت في البحر المتوسط في طريقها الي الموانئ السوفيتية, لافراغ شحناتها في الاسكندرية!. ويذكر الكثيرون ان هذا الموقف وما تبعه من مواقف ومنها قرار المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفييتي في1967 حول تعويض مصر عما خسرته من اسلحة في سيناء في يونيو من ذلك العام باخري حديثة وبالمجان, كان مقدمة لرفض عبد الناصر الانضمام الي حملة ادانة الغزو السوفييتي لتشيكوسلوفاكيا في اغسطس1968, معلنا عدم جواز ادانة الصديق الوحيد الذي يقف الي جانب مصر في محنتها ويعمل من اجل اقالتها من عثراتها والمساهمة في اعادة بناء قواتها المسلحة. ولعل استعادة مثل هذه الوقائع التاريخية تقول ضمنا بضرورة استشراف الحاضر والمستقبل من خلال استعادة بعض تاريخ الامس.. البعيد منه والقريب, وكان الجانبان تطرقا في مباحثات سوتشي الي الازمة السورية من منظور انتقاد روسيا لقرار الجامعة العربية حول منح المعارضة السورية لمقعد الحكومة السورية في الجامعة, وهو ما قالت المصادر بتوريط امير قطر للكثير من اعضاء الجامعة بانتزاع الموافقة علي هذا القرار, تحت وقع’ مباغتتهم’ بدعوة الوفد السوري للدخول الي قاعة المؤتمر وشغل موقع الحكومة السورية الشاغر في قمة الدوحة في مارس الماضي.وبغض النظر عن حقيقة ما يقال بهذا الشأن فقد وجد الجانبان الكثير مما يجمع مواقفهما تجاه هذه القضية وفي مقدمته رفض عسكرة النزاع وضرورة تبني الحوار سبيلا الي التسوية السياسية دون اي تدخل خارجي, ويبقي ان نتوقف عند ما قاله الرئيس الروسي حول’ دهشته’ من ارتفاع السياحة الروسية في مصر بنسبة35% في العام الماضي رغم ما تعيشه مصر من عدم استقرار امني لم يكن لمجرد الاقرار بواقع كان بعيدا عن ناظريه, فليس بوتين الذي يباغته مواطنوه بالسفر بهذه الاعداد الكبيرة الي الخارج والي بلدان لا يتوقف الحديث عن عدم استقرار اوضاعها الداخلية, وهو ما نربطه بما قاله لنا احد كبار المسئولين في موسكو انه وعلي الرغم مما يصادفه السائح الروسي من متاعب واخطار في مصر لم تتخذ موسكو اي قرار من شانه التحذير من مغبة استمرار سفر السائح الروسي الي بلادكم. يقيني ان ذلك لم يكن سوي مجرد اشارة الي أمر, طرحه بوتين ورفاقه ضمن امور كثيرة, علي الاصدقاء الجدد ممن صارحوه علانية برغبتهم في رفع مستوي التحالف السياسي. وكان مرسي استهل حديثه مع بوتين بالاعلان عن’ حاجة مصر الي تحالف حقيقي مع موسكو, وبامكانية رفع العلاقات إلي مستوي أعلي مما هي عليه الآن, وان المسألة أكبر من مجرد زيادة حجم التبادل التجاري وعدد السياح. ولعل ما قاله مرسي تخفيف من وقع عدم تعجل موسكو الاعلان عن موقفها من طلب القرض المالي الذي كان الجانب المصري حاول احراجها بالكشف عن قيمته دون اتفاق سابق, وهو ما يفسر ما قاله مستشاره للشئون الخارجية يوري اوشاكوف حول ان الموضوع لا يزال قيد البحث.. شأنه شأن اشياء أخري كثيرة من التي جري الاعلان عنها
الاهرام