الأخبار

أفق أزمة مياه النيل

151

 

من سوء التقدير أن يتوهم البعض أن إثيوبيا وباقى دول المنابع، ممكن أن تترك مياه نهر النيل لمصر والسودان وحدهما، فالموقف الإثيوبى الذى يطالب بالحصول على حصة من المياه، هو موقف ثابت، منذ فترة حكم هيلا سيلاسى وحتى الآن، والموقف المصرى الذى لا يفرط فى أى قطرة من المياه، هو أيضا موقف ثابت، منذ فترة حكم جمال عبدالناصر وحتى الآن، نفس الأمر بالنسبة لدول حوض النيل الأخري، إذن فالهوة كبيرة بين الجانبين، وإن حاول المسئولون المصريون إخفاءها أو التخفيف من وطأتها أمام الرأى العام.
الإخفاق المصرى فى ملف حوض النيل اتخذ منعطفا خطيرا منذ نحو أربع سنوات، وعلى وجه التحديد فى مارس 2009، عندما تم إقصاء وزير الرى وقتها الدكتور محمود أبوزيد، بشكل انتقامى ومفاجئ وغير مبرر، وهو جالس على مائدة المفاوضات، وبيده كل الخيوط، فتوالت التداعيات بعد ذلك بإيقاع سريع للغاية، انتهت بالتوقيع المنفرد لدول المنابع على اتفاقية عنتيبى دون مصر والسودان فى مايو 2010، أى بعد عام واحد فقط من إقصاء أبوزيد.
صعوبة ملف حوض النيل الشائك، وتشعب موضوعاته الفنية والسياسية والأمنية والقانونية وتشابكها، جعلت مسئولو الملف الجدد، القادمون بعد ثورة 25 يناير، يشعرون بالخوف والرهبة من التوغل فيه، وإبداء أى آراء أو أفكار جديدة إزائه، ولم يجدوا أمامهم سوى استنساخ ماكان يتم فى الماضى من سياسات وإجراءات، حفاظا على ماء الوجه أمام الرأى العام، رغم ثبوت فشلها فى حل القضية، مثل تقديم المنح والمساعدات المادية لدول الحوض، لتنفيذ بعض المشروعات هناك، مما عرض مصر للخديعة والابتزاز السافر من بعض تلك الدول، كبدتها عشرات الملايين من الدولارات، وهو ما أكد عليه وزير الخارجية الأسبق أحمد أبوالغيط فى كتابه “شهادتي”، الذى أوصى فيه بتغيير تلك السياسة، رغم أنه قد شارك فى تنفيذها، ثم تبين له بعد ذلك، أنها لم ولن تحرز أى تقدم فى حل إشكالية مياه النيل.
مأساة مصر فى حوض النيل تجلت بعد ثورة 25 يناير فى أمرين خطيرين، الأمر الأول هو بدء إثيوبيا فى إنشاء سد النهضة العملاق على النيل الأزرق، والذى ستكون له تأثيرات سلبية كبيرة على حصة مصر الحالية من مياه النيل، وعلى كمية الكهرباء المتولدة من السد العالي، والأمر الثانى هو إعلان جنوب السودان عزمه الانضمام إلى اتفاقية عنتيبي، وعدم اعترافه باتفاقية 1959، التى تعطى مصر حصتها الحالية من مياه النيل، وتعطيها أيضا الحق فى الحصة الإضافية المتوقعة من مشروعات أعالى النيل، فى حالة تنفيذها، والتى تقع جميعها فى جنوب السودان، ومن بينها مشروع قناة جونجلي، والسؤال الذى يطرح نفسه بقوة على الساحة الآن هو: كيف تستطيع مصر أن تتعامل مع هذه المعضلة الكارثية الخطيرة، فى ظل تلك الظروف السياسية بالغة التعقيد فى منطقة حوض النيل، والتدخلات الأجنبية السافرة، والتغلغل الإسرائيلى المتشعب فى كل المجالات، بما فيه مجال المياه نفسه؟.
إننى أطالب الدكتور هشام قنديل، وقد عملنا سويا فى هذا الملف لسنوات طويلة، وسافرنا معا لبعض دول المنابع وحضرنا الاجتماعات، وقدمنا التقارير، بأن يسارع بتنفيذ تلك الإستراتيجية الديناميكية التى طلب منى إعداداها قبل توليه الوزارة، للتعامل مع أزمة مياه النيل بعد تفاقمها، وتتضمن سيناريوهات عديدة للمخاطر المحتملة، وتحتوى على إجراءات تنفيذية غير تقليدية، مجدولة زمنيا بالتفصيل، وأرجو ألا يثنيه انشغاله بالشئون الداخلية للبلاد عن هذا الأمر بالغ الخطورة، والذى يعلم أبعاده جيداً، ويعتبر من أهم عناصر الأمن القومى المصري.
كما أطالب الدكتور هشام قنديل: بأن يعالج بحسم، القصور الحالى الموجود فى بعض الأجهزة المعنية، والذى من أهم مظاهره تكرار أنسحاب أو تغيير المسئولين الرئيسيين عن ملف حوض النيل، سواء فى وزارة الرى أو وزارة الخارجية أو غيرها، على فترات متقاربة، مما يتسبب فى حالة من البلبلة والإرتباك، وغياب التنسيق، وعدم التواصل، وفى تقديرى أن الحل يكمن فى سرعة إنشاء هيئة عامة لمياه النيل، تتبع رئيس مجلس الوزراء مباشرة، تتولى كافة جوانب الملف فى منظومة واحدة، وتخرجنا من حالة الاسترخاء والاستسلام، التى نحن عليها الآن، تأتى بافكار جديدة، وتحدث تغييرات جذرية فى السياسات وأساليب العمل، بدلا من بعثرة الاختصاصات بين عدة جهات، تعمل فى جزر منعزلة، وتتنصل من مسئولياتها، وتلقى كل منها باللوم على الأخري، وتصبح هى نفسها جزءا من المشكلة بدلا من أن تكون صاحبة الحل، وقد سبق أن تقدمت بمقترح تفصيلى بإنشاء تلك الهيئة للدكتور هشام قنديل، قبل توليه الوزارة، إلا أنه لم يظهر على أرض الواقع حتى الآن، رغم أن عامل الوقت ليس فى صالحنا على الإطلاق.
وفى النهاية، أرجو أن يكف السادة المسئولون عن الملف، والسادة الهواة، عن الإدلاء بتلك التصريحات الإعلامية المبهمة والمتضاربة والمرتبكة، التى تولد الشك والريبة وعدم الثقة فى نفوس المواطنين، كما أرجو ألا يتخذ أى قرار مصيرى يتعلق بمياه النيل من شخص أو من عدة أشخاص، مهما تكن مكانتهم العلمية أو الوظيفية، وإنما يتم ذلك بموافقة شعبية وبرلمانية ومجتمعية، بعد طرح أبعاد القضية للمناقشة، بأكبر قدر من الشفافية، على الجامعات ومراكز البحوث والنقابات ووسائل الإعلام ومنظمات المجتمع المدنى وغيرها، حفاظا على حقوقنا، وحقوق الأجيال المقبلة من بعدنا، حتى لا يدفعوا فاتورة فشلنا
الاهرام

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى