من الفرات إلى النيل.. ومتى نفيق !

1221

 

” نجا مبارك فنجت مصر ”

كان هذا هو المانشيت الرئيسي للأهرام في صباح اليوم التالي للمحاولة الفاشلة لاغتيال المخلوع أثناء زيارته لأثيوبيا في عام1995 والتي لم يكررها حتى نهاية حكمه. في ذلك الوقت لم تكتف الأهرام بذلك، بل طبعت مع نسخة الجريدة كتيبا ملونا فاخرا عالي التكلفة ووزعته مع عدد الجريدة مجانا يحمل ذات العنوان ويمجد الزعيم ويشرح ملابسات الحادث. أتذكر جيدا أني وما أن انتهيت من تصفحه حتى توجهت إلى مقر الجريدة في شارع فؤاد بالإسكندرية حيث يعمل أحد أصدقاءالطفولة وزميل دراستي في مركز مرموق. اقتحمت مكتبه بعد أن ركلت الباب المغلق بقدمي وأنا أصيح في وجهه وجريدته بما تيسر في تلك اللحظة من ألفاظ السباب له وللجريدةالتي يعمل فيها وهو يحدق في بوجه يطفح ذهولا. تبارى هو وزملاءه في محاولات تهدئتي ولم صوتي المرتفع وإحضار عصائر الليمون وخلافه خوفا من عبده المهم بتاعهم ( لاأعرف من هو وأين هو!) ، وأخيرا يهمس لي بهدوء معترفا ” مصالح.. مصالح!”.

واليوم، وفي الوقت الذي تجري فيه عملية “زلط ” قناة السويس في كرش مكتب الإرشاد بهدوء وثقة ، وبينما لا تزال كارثة انفلات سيناء في عز مجدها دون أن يتكرم علينا أحد ليخبرنا من قتل وخطف جنودنا باعتبار أن هذا طبعا سر من أسرار  الدولة الخطيرة، وليس مجرد طرمخة على الخيبة التقيلة في الحد الأدنى، والخيانة والتفريط في الحد الأقصى في حق حكام لا يدركون مفهوم كلمة دولة ، بل ولا يعترفون به أصلا ، تسقط على رؤوسنا من السماء كارثة جديدة يقترن اسمها باسم “النهضة” المشئوم . هو سد النهضة الأثيوبي ليلقي في وجهنا بالحقائق التالية :

 

أولا: أنه ومنذ أن اتقمص المخلوع ورفع يده ويد مصر ونفوذها تماما عن دول حوض النيل اكتفاء بحقيقة أن أمن مصر القومي وأمن سيادته الشخصي هما شيء واحد بمباركة وتهليل فريق الخونة والمطبلين في ذلك الزمان الأسود ( أصبحوا اليوم مع الثوار) ، ومن ثم قامت إحدى الدول الصديقة من ذوات الوفاء مشكورة بملء الفراغ المصري المتروك لتباشر فرض الوجود والنفوذ والمساعدات والقوة الناعمة على راحتها تماما في ساحة دول حوض النيل التي تركتها مصر خالية  اكتفاء بنجاة مبارك ، هذه الدولة طبعا هي إسرائيل التي لا تزال خريطة حدودها المعلقة في الكنيست هي من النيل إلى الفرات حتى تاريخ كتابة هذا المقال، إسرائيل التي تسربت إلى تلك الدول  كالميكروب مدركة هي وحلفائها من دول العالم المتقدم  عالمة أن حروب البشر القادمة سوف تكون على المياه، وأن مقتل مصر هو أنها ليس لديها سوى مصدر واحد للمياه بغيره تموت أو على الأقل تذل لإسرائيل بغير حروب ووجع قلب . ويسقط المخلوع ليواصل حكام الأهل والعشيرة المسيرة، ويتقدمون بمسوغات تعيينهم إلى السفارة الأمريكية، وهي ضمان أمن اسرائيل، (باعتبار أن الأمن المصري داخليا وخارجيا مش شغلتهم  هو حالة ميئوس منها ومنتهية على كل حال )،والثانية هي ضمان بقاء النفوذ الأمريكي داخل غرف النوم في كل بيت مصري، مع خالص الترحيب  بالأخت السفيرة الأمريكية ضيفا معززا مكرما في مكتب الإرشاد في أي وقت بما في ذلك أوقات الوجبات والتواليتات أيضا، ليتم فتح جبهة جديدة في عملية تركيع مصر التي تعمل على مدار الساعة من ناحية الشرق ، لتعمل اليوم من الشرق والجنوب في وقت واحد.

 

ثانيا: أن الأداء المصري في ظل الحكام الجدد لا وصف له أقل من أنه مخز ومكلل بالعار . فمن الآخر، وبصرف النظر عن كون سد النهضة الأثيوبي يضر بمصالح مصر أو لايضر، ففي الحالين ما كان ينبغي أصلا أو يجوز لأثيوبيا أن تجرؤ على التفكير في بناء سد على النيل دون الحصول على الإذن المصري والضوء الأخضر من القاهرة أولا ،لا أن يذهب الرئيس إلى هناك فلا يجد من يستقبله، وما أن يغادر حتى تنكسر خلفه”قلّة” ( مملؤة بماء النيل طبعا) وبمجرد رحيله من أثيوبيا تقوم الأخيرة –وفي اليوم التالي مباشرة – بتحويل مجرى النيل دون انتظار لا للجنة ولا لتقارير ولا لكلام فارغ ، ثم يصل الأمر لدرجة أن يتجرأ كاتب صحفي أثيوبي مثل السيد/ إنييل بريهاني ليتشدق بنجاح أثيوبيا الباهر في كسر العنجهية المصرية، وبعد كل ذلك تكتفي مصر باستدعاء السفير الأثيوبي في القاهرة لا لكي تسلمه بيانا شديد اللهجة مثلا ،ولكن فقط  لتؤكد على ضرورة أن يجري بناءالسد بالتشاور بين البلدين !!!

ثالثا: أنه وإمعانا في الخزي المثير للقرف لدرجة الرغبة في التقيوء، وعلى طريقة المثل الانجليزي القائل إن لم تستطع ضربهم فانضم لهم  If you can’t beat them, join them !

 

لا تجد الرئاسة والجهات الرسمية مفرا للدفاع عن نفسها أحقر من اللجوء للدفاع عن أثيوبيا وسد النهضة نفسه!!،وعلى رأسهم المتحدث الرسمي لرئاسة الجمهورية ووزير الري لتشكل الدولة المصرية فريق دفاع ينضم للحكومة الأثيوبية في الدفاع عن.. المصالح الأثيوبية ! في محاولة للتهرب من المسئولية ورفع الحرج عن نفسها بمستوى من الكذب يصل لدرجة النطاعة والتجرمة لم نعرفه سوى على يد إخواننا المسلمين ليقولوا لنا أن السد  الاثيوبي أمان أمان، ولا دليل أوضح من مستوى الكذب أن الحكومة المصرية، استبقت هي الأخرى اللجنة المكلفة بدراسة الأضرار المحتملة من بناء السد والذي لم ير تقريرها النور بعد، تماما كما فعلت أثيوبيا،فقط لكي يبرروا أداءهم المخزي أمام الشعب، ولتبقى حقيقتين، الأولى أن أمن مصرالقومي تحدده اليوم أثيوبيا وليس مصر،  فإذا قررت أثيوبيا أن السد لا يهدد أمن مصر فلا بديل من أن نستمع إليها، بل ونتقدم لها بآيات الشكر والامتنان على عشقها لمصر وأفضالها على الأمن القومي المصري لأن هذا هو أقصى ما نملك ، وسلم لي على اللجنة.. وعلى تقرير اللجنة، الثانية أن هذا التخاذل وذلك السكوت بل والدفاع عن اثيوبيا من جانب حكام مصر في شأن بهذه الدرجة من الخطورة والحساسية  هو خيانة عظمى تستحق المحاكمة بنص الدستور.

 

رابعا: أن ما يثير رعبي ويقض مضجعي هو مشهد مصر العام الذي يتجاوز بمسافات طويلة موضوع أثيوبيا وسد النهضة، مؤشرات قرأتها في مئات من كتب التاريخ عن أعراض انهيار الأمم وتداعي الأمم المحيطة عليها كالأسماك المتوحشة تنهش أصبعا من هنا وطرفا من هناك من جثة الأمة المنهارة  قطعة بعد قطعة، أو كالنسور التي تحوم  في السماء فوق رأس إنسان تائه في الصحراء يحتضر، سمّها ما شئت ولكني أرى كل هذه المؤشرات متحققة في الحالة المصرية الراهنة، فاليوم تدفع مصر ثمن ميراث المركزية الطويل لتخف قبضتها وتضعف عن الإمساك  بأطراف الدولة، فنامت مصر على جنبها وانفتحت حدودها في الاتجاهات الأربعة ويبذل الجيش محاولات مستميتة في ناحية واحدة فقط هي الناحية الشرقية بينما يتم تهريب السلاح كالمطر من كل الاتجاهات الأخرى، دعوات من انفصاليين في سيناء تنادي بخروج المصريين منها واستقلالها عن مصر ويتكون فيها في هذه اللحظات ما يسمى بجيش مصر الحر على الطريقة السورية، ، دعوات مماثلة آتية من النوبة تنادي هي الأخرى بانفصال النوبة عن مصر ،حلايب وشلاتين اللتان لا أعرف ولا يعرف أحد فعليا إن كانت لا تزال ضمن حدود مصر أو أنها لم تعد كذلك . الحقيقة أنه منذ تحطيم الأسطول البحري المصري في موقعة نافارون في عهد محمد علي باشا فإن مصر لم تكن أضعف ولا أهون مما هي عليه الآن ، والمصيبة أني أشعر على البعد أني أرى كل هذه المؤشرات وحدي تماما ولا يراها معي أحد كالأطرش في الزفة أو المؤذن في مالطة،   وأخشى ما أخشاه أنه وبعد عشر سنوات من الآن سوف”تبوش” مصر ولا يتبقى منها سوى منطقة القاهرة الكبرى ونصف البلد يتقاتل فيها كل أبطال الزفة  كالمعتاد من فاقدي حاسة السمع بالتخصص من ثوار وفلول ومكتب إرشاد وجبهة إنقاذ ( بعدما لن يعود هناك ما يمكن إنقاذه!) إضافة لمئات الحركات وعشرات الائتلافات وكل هؤلاء المنشغلين بالاقتتال والاختلاف والتخوين والباحثين يأسا عن القصاص والمتنازعين حول قانون السلطة القضائية ومتخصصي السب والقذف بأقذع الشتائم على تويتر وفي اللجان الإلكترونية ممن كانوا جميعا يجمعهم بالأمس أمر واحد تحول اليوم إلى ماض وسراب بالكاد نتذكره اسمه الجنسية المصرية، ليستيقظ الكل ذات صباح مبهوتا مذهولا ليجد أنه لم يعد هناك مصر،وساعتها لن يتبقى أمامنا جميعا سوى أن نجلس في الظلام على شط بقايا الخرابة التي كانت يوما نيل، منضمين  لذلك العبقري الفذ نجم نجوم الرغيف ليمسك كلمنا بغصن بقايا شجرة جافة  ننتف أوراقها واحدة بعد أخرى ونحن نهمس ” فيوز وللا سويتش..فيوز وللا سويتش!!”

 

خامسا: وفي ظل كل المؤشرات التي تتراقص أمام عيناي ألتفت باحثا عن حكام مصر، جماعة الإخوان المسلمين، فلا أرى فيهم سوى شريكا في عملية النهش والتقطيع الجارية على قدم وساق، لا يشغلهم في قلب كل ذلك سوى موضوع الأخونة، وهم على كل حال لايعنيهم مفهوم الدولة في شيء ولا يهمهم سوى ابتلاع أكبر قطعة ممكنة من مصر في كرش الجماعة حتى ولو ذهبت فتات كثيرة من بقاياها لهذا أ ولذاك، والدليل مركز حماس الممتاز في “سيناء وقطاع غزة” حسبما تقول بطاقات الرقم القومي الإخوانية الجديدة، وحرص السيد الرئيس على حياة الخاطفين مع المخطوفين على حد سواء، أما الدليل الأكبر فهو قطعة الذهب التي يسيل لها لعاب الجماعة، مشروع قانون محور قناة السويس ولهذا حديث آخر. وفي قلب هذا التصور الدائر في ذهني فأنا لا أرى مكتب الإرشاد أو الرئيس العياط في ثوب الحكام أصلا، بل أراهم أقرب ما يمكن شبها بعصابات المافيا في الأفلام القديمة الأبيض والأسود والتي نشأت في جزيرة صقلية في القرن قبل الماضي ، المقر المحصن على رأس الجبل يجلس فيه المافيوزو الكبير، الرجل العجوز الصامت حرامي الثورة وحوله صبيانه ، دون باديعوتي ووصيفيه المخلصين دون شاطروتو ودون ماليكوني الذين أتوا من الأزمنة القديمة بمنطق دون كيشوت الراغب في الانتقام من كل ما هو مصري بعد عشرات السنوات من الاضطهاد والمرارة على يد تلك الدولة المصرية، وأنه آن أوان التعويض والنهش والانتقام، والشباب الإخواني المضحوك عليه مع البسطاء والغلابة من متوسطي الثقافة جاهزين وقودا بالروح والدم، وباسم الشرع والدين وهتافات عالقدس رايحين شهداء بالملايين!

 

 

سادسا: من الآخر ، إن مصر اليوم في أمسّ الحاجة إلى رئيس قوي وبأسرع مايمكن، رئيس يلملم شتات الدولة المصرية ويضبط حدودها بعقل وحزم وسرعة، رئيس يصارح شعبه بشجاعة ويشركهم في الأمر، رئيس يتخذ في الموقف الأثيوبي المهين الإجراءات المحددة التالية ولو من باب التهديد وشد الأذن لا أكثر، وفي إطار تشاور عسكري مخابراتي : (1) مراجعة وتعزيز شبكة الدفاع الجوي حول السد العالي (2) بناء شبكة إنذار مبكر على خط الحدود الجنوبية المصرية مزودة بشبكة صواريخ دفاع جوي متقدمة ومهبط طائرات يسمح بإقلاع وهبوط الطائرات المقاتلة وقاذفات القنابل الثقيلة (3) تكليف وحدة مظلات صاعقة وعمليات خاصة بوضع خطة إنزال تفصيلية وإبرار للتدخل بتفجير منشآت سد النهضة حال الضرورة. كل ذلك بهدف نقل رسالة واضحة ومحددة، أن مصر جادة في الحفاظ على أمنها القومي وقادرة تماما على ذلك عند الضرورة، وساعتها ستهرع الولايات المتحدة الأمريكية محاولة التوسط والحث على التفاوض، وسيأتينا رئيس أثيوبيا لغاية عندنا ليطلعنا على كل خطط السد طلبا لموافقة مصر عليه وتطمينها، وفي أقل تقدير فإذا أراد الرئيس المصري أن يزور أثيوبيا فسوف يجد الرئيس الأثيوبي حتما يقف زنهارا في استقباله في المطار ! نريد رئيسا أبعد ما يكون عن ذلك العياط الذي يحاول أن يحتمي من الإهانة بقانون يحبس به شابا مثل أحمد دومة بينما يتفرج على مصر وهي تهان وتغرق غير مدرك أنه هو في ذاته وشخصه ليس إلا إهانة كبيرة ، وأنه أهان مصر كلها معه.

 

سابعا: كمصري، فأنا لدي اليوم كل المبررات التي تدفعني لعدم الاعتراف بالعياط رئيسا، وكل المبررات القانونية والشرعية لأن اعتبر أعضاء مكتب الإرشاد خارجين على القانون يتعين القبض عليهم جميعا ومحاكمتهم بتهمة الخيانة العظمى، هذه بلدي التي أحب، ولن أسمح أن يحدث ذلك لبلدي وأقف متفرجا بينما لا تزال خريطة إسرائيل هناك معلقة ، فقط سأبذل كل ما في وسعي كثر أم قل، ولكني سأفعله أيا كانت النتائج، إني أعلن انضمامي لحركة تمرد وبأني وقعت على استمارتها، أنا قادم إلى بلدي وأدعو كل وطني مخلص قرأ مقالي ولديه بعض غيرة على مصر أن يخرج يوم 30 يونيو لإسقاط نظام الحكم في مصر أو إرغام رئيسها على الإعلان عن انتخابات مبكرة، ، وأتوجه بهمسة لسيادة الفريق/ عبد الفتاح السيسي، موقفك وعلمناه وفهمناه وله منا كل التقدير والاحترام، أرجو ألا تتدخل لصالح النظام في اللحظة الحاسمة وقف على جنب وفقط أفسح لنا الطريق ونحن سندخل، للمرة الثانية أنا أدعو الشعب المصري أن يسمو على آلامه ومعاناته ويخرج لإسقاط النظام متصورا ثلاثة

نقاط جغرافية رئيسية ، مصر الجديدة ، المقطم ، ماسبيرو، هل هذه دعوة للموت؟ أنا جاهز للموت.

 

 المستشار/ أشرف البارودي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى