وقفة مع العقل وقيم الإسلام

109

 

 

ما جرى قبل أيام في الأردن من تعدّ لحراس السفارة العراقية على نشطاء سياسيين وصل حد الضرب والسحل أثار موجة غضب أردنية، كون ما جرى شكل تعديا على كرامة الأردنيين في عقر دارهم. والحقيقة أن الأعراف الدبلوماسية غابت عن كامل النشاط الذي أقامته السفارة في المركز الثقافي الملكي، أي خارج حيز السفارة المحصنة دبلوماسيا ودون إذن من الحكومة، وحتى دون أن تعلم الجهات الأمنية بهذا، حسب أعذار الحكومة نفسها لعدم تدخل الأمن لحماية مواطنيها.
القول بأن للنظام العراقي الحالي أفضالا على الأردن والأردنيين مردود جملة وتفصيلا، فأفضال العراق كلها من الماضي وتحديدا من عهد الرئيس صدام حسين

وعذر الحكومة هذا أقبح من ذنبها، فهي تقر لسفارة بأن تتصرف بمرافق حكومية في أنشطة سياسية، والأدهى أنها تقر لها بأن تأخذ “الأمن” في ذلك الموقع وذلك النشاط بيدها.. فجاء تصرف السفير وحراسه مع المواطنين الأردنيين على طريقة تصرف حكومة المالكي مع العراقيين الذين يختلفون معها أو يتظاهرون ضدها. وزادت حكومتنا على هذا بأن اعتقلت أردنيين احتجوا سلميا على مساس كهذا بكرامة الأردن والأردنيين أمام السفارة العراقية، وحولتهم لمحكمة “أمن الدولة”. وهذا بمجموعه يظهر حقيقة غير خافية على الأردنيين، لكنها تبدت في هذه الحادثة لغير الأردنيين.

فالقول بأن للنظام العراقي الحالي أفضالا على الأردن والأردنيين مردود جملة وتفصيلا، فأفضال العراق كلها من الماضي وتحديدا من عهد الرئيس صدام حسين، وانتهت باحتلال العراق الذي قدم له الأردن الرسمي تسهيلات كبرى، ووحده حقق منها منافع مادية هائلة لم تصل للشعب الرافض للاحتلال ولأي ثمن مقابله مهما عظم.

وهذا لا ينفي حقيقة أن الثمن كان مشروطا من مصدره بألا يصل للأردنيين الذين عوقبوا ولا يزالون على موقفهم القومي مع أشقائهم العراقيين، خاصة أثناء الحصار. واستمرار انتفاع المتنفذين في الحكم من الحكومات العراقية التي أتت على ظهر الدبابات الأميركية أصبح يجري على حساب الشعبين العراقي والأردني. والأخير تضرر في قوته، فقد زيد على انقطاع النفط الآتي بسعر رمزي زمن صدام أن بذخ أسر حكام العراق الذي أقاموا بأعداد ضخمة في الأردن فيما أرباب تلك الأسر يحيلون العراق لأرض محروقة منهوبة، أدى لتضخم لا يضبطه التدهور الهائل في القدرة الشرائية لغالبية الأردنيين.

وتضرر الأردن في أمنه، إذ استجلبت علينا سياساتنا المسترضية لحكام العراق الجدد تقوية “القاعدة” محليا وتفجيرات قاعدية آتية من العراق. وتضرر حتى في سيادته كما تبدى في حادثة الضرب والسحل لمواطنينا في عقر دارنا.. وهي الحادثة التي كشفت كم هي كسيرة عين حكومتنا أمام حكومة المالكي!

ولكن الأخطر من كل هذا هو ردود فعل بعضها عفوي وجاهل، ولكن بعضها ملغوم وبفعل فاعل. فما جرى إطلاقه من عبارات تطول مكونا رئيسيا من الشعب العراقي الذي لم تقم يوما بينه وبين الشعب الأردني أية عداوة، فيما العداء المستجد هو مع نظام حكم يثور العراقيون ضده حاليا.

وبالمعية يجري النفخ الأهوج في عداوات بين المسلمين تعود لقرون يكفي للدلالة على كونها فتنة أنها بعمر دولة الإسلام بعد وفاة الرسول ناقصة بضع سنين. أخطر ما في هذا النفخ غير المسؤول أنه يمس العقائد لا السياسات، وبشتائم بذيئة بدأت تطول شعوبا وطوائف شتى وتخوض في الأعراض لا أقل.

ويطول “الشتم المباح” دون غيره من حرية الرأي والنقد مكونات من الشعب الأردني الواحد بقسمتهم هم أيضا عرضا لطوائف رغم صغر بعضها بحيث لم تكن ترى قبل تضخيمها هذا، ولم نستشعر منها خطرا أو حتى غرابة، وطولا لأعراق وأصول ومنابت، بما يهدد أمن بلد صغير المساحة فلا يحتمل التصادم وصغير التعداد السكاني فلا يحتمل عداوات القسمة. وهو ما يستدعي توقفنا عند مبادئ وحقائق وبدهيات لا يجوز أن تغيب عن منصف عاقل.

أولها أن معركة الشعوب العربية في ربيعها ومعركة الأمة العربية من قبل هي معركة حقوق وحريات الإنسان وحقوق المواطن التي تصادرها الأنظمة الاستبدادية أو القوى الاستعمارية  في مختلف حللها. وهذه حقوق وحريات لا تقبل التمييز بناء على أعراق وديانات وطوائف لا دوليا ولا داخل القطر الواحد. وهي حقوق منصوص عليها في دستورنا الأردني ومثله في دساتير العالم العربي حيث وجدت، وفي القوانين والشرائع الدولية، ومصونة في ديننا الحنيف لكل البشر بقوله تعالى “ولقد كرمنا بني آدم”.. ومثلها جاء في رسالة المحبة التي نزلت بها المسيحية من قبل. وحين نبخس نحن غيرنا شيئا منها نؤكد أننا “عالم ثالث” تخلفنا يوظف لإباحة انتقاص حقوقنا وفرض وصايات علينا.

وديننا الحنيف سابق على كل تلك الشرائع الدولية بنصه على الكرامة والمساواة بين البشر وإعطائهم  حقوقا وحريات منزلة بآيات لا تقبل أي تأويل ينتقص منها، بدءا بحرية العقيدة ذاتها في قولة تعالى “لا إكراه في الدين” و”فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”، ومرورا بحق أتباع الأديان الأخرى في العدالة والمساواة أمام الدولة والقضاء بدءا بالمساواة بالواجبات (الجزية مقابل الزكاة) وفي قوانين العقوبات كما في القوانين الناظمة للحقوق والضامنة للحريات (العمل والأجور وحفظ الكرامات والأعراض وحرمة البيوت وعدم التمييز في القصاص …) على سبيل العينة لا الحصر.

والأردن التاريخي لا ينفصل عن فلسطين (الفصل لسايكس-بيكو)، وهو مهد وموطن المسيحية، وأغلب من أسلم من أهله كان إسلامهم بعد الفتح، فيما جزء كبير من عالمنا العربي، وتحديدا دول الجزيرة العربية والعراق وسوريا ولينان، تفرض عليها جغرافيتها وتاريخها التعايش مع طوائف غير سنية.

بث رسائل عداء على أسس عقائدية أو مذهبية في أي جزء من العالم العربي، خاصة في زمن الفضائيات والإنترنت، هو دعوة لحالة قلاقل وعدم استقرار سياسي دائم في العالم العربي كله وتسعير لحروب طائفية

وبث رسائل عداء على أسس عقائدية أو مذهبية في أي جزء من العالم العربي، خاصة في زمن الفضائيات والإنترنت هو دعوة لحالة قلاقل وعدم استقرار سياسي دائم في العالم العربي كله على أقل تقدير، وتسعير لحروب طائفية بين المسلمين لا تبقي ولا تذر.

وهنا يتوجب التذكير “بمفارقة” أن الأقلية الصغيرة جدا من اليهود الذين عاشوا لقرون مضت في بلاد عربية مسلمة في غالبيتها الساحقة ودين دولها الإسلام (ومنها مدن فلسطينية) لم يجر تمييز ضدهم ولا اضطهاد، ولم يجر ذم لدينهم ولا تحقير ولا منعوا من القيام بشعائرهم رغم الفروق الواضحة بين الدين الذي كانوا يدرسونه والشعائر التي كانوا يؤدونها عما نزل في القرآن عن اليهودية وأنبيائها، فقد أعطوا حرية التفسير وحتى الإضافة ولم يفرض عليهم التقيد بالفهم الإسلامي لديانتهم، فلم يضطروا لإخفاء دينهم ولا لممارسة شعائرهم سرا في أرض العرب والمسلمين كما اضطروا في أوروبا وأميركا حتى بدايات القرن العشرين.

ورغم ما قام به اليهود الصهاينة، وهم جماعة سياسية حاكمة متنفذة عالميا، من اعتداءات صارخة على حقوقنا وصلت حد احتلال أرض فلسطين كاملة وبعض أراضي الأردن وسوريا ولبنان ومصر، وتشريد سكانها ومصادرة حقوق وحريات من بقي منهم على أرضه وممارساتهم العنصرية (المسنودة في تفاسير دينهم اللاحقة لعهد الأنبياء كالمنشاة والجماراة) التي ترقى للإبادة العرقية والجرائم ضد الإنسانية.. لم نسمع شتما لديانتهم كالذي نسمعه بيننا كمسلمين.

وقد كنا تاريخيا وحتى أثناء النكبة نتوقف في رفض الدعاوى المستجدة التي أسست للصهيونية على قاعدة اليهودية، عند المحاججة الفقهية والفلسفية والتاريخية المسنودة بمنطق العقل الذي لم تُعْل أي ديانة من شأنه كما فعل الإسلام. فلم نشتم عقيدتهم ولا ولغنا في أعراضهم كما ولغوا في أعراضنا، ولا حتى توقف عند اعترافات تسيبي ليفني الشخصية المفصلة هؤلاء الذين يشتمون مسلمين في أعراضهم بزعم التدين أو الوطنية!

وفي تاريخنا الحديث مجدنا أبطالا ذادوا عن أرض العرب والمسلمين، من أمثال صلاح الدين الأيوبي والظاهر بيبرس ومحمود سامي البارودي، ولم يشر لأصول هؤلاء العرقية إلا في سياق الحديث التقريري الذي يورد الحقائق ولا يصدر الأحكام. بل كرسناهم رموزا في تاريخ الأمة العربية التي ارتضى كل من انتمى إليها (عرقا أو بخياره) الإسلام دينا لمن اعتنقه بخياره، أو ارتضاه إرثا حضاريا يعتز به إلى جانب الإرث المسيحي المبجل في القران الكريم حد قوله تعالى “ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى”.

في ضوء هذه الحقائق والمبادئ والبدهيات التي يعرفها كل عاقل ويقر بها كل منزه عن الغرض الشخصي، نستنكر أن يجري تراشق بينيّ يصل حد الشتم المسف باسم الإسلام، يُخرج مسلمين منه بفتوى أشخاص وليس بحكم منزل من رب العالمين، ورسوله هو القائل “إذا كفر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما”، بل قال لمن كان مؤمنا يحارب إلى جانبه في بداية الدعوة وحين كان المسلمون هم الأضعف، من كان يعرض نفسه للموت في اختلاف قرار يتخذه في ثانية .. مقولته الإنسانية الخالدة “فهلا شققت عن قلبه؟؟”.

في كل الأديان تظهر تفاسير قد تؤدي لظهور شيع وطوائف، والسنّة حين حاولوا حصر المذاهب السنية لم يقدروا على اختصارها لأقل من أربعة مذاهب لأربعة أئمة. ومنذ البداية نجد أتباع مذهب اختاروا أحكاما بعينها من مذهب آخر. وحديثا جرى رفض هذا الحصر وهذا الحجر على التفسير والاجتهاد في بحوث إسلامية معمقة نال بعضها شهادات علمية من جامعات إسلامية عريقة، وكلها تحظى بتقدير أهل العلم بغض النظر عن مدى توافقهم مع فقه الكاتب.

وحين سقط نظام شاه إيران كان الإخوان المسلمون في مقدمة المرحبين “بالجمهورية الإسلامية” وزارتها وفود لهم. وبغض النظر عن الخلافات التي تلت، فإن هذا الترحيب يضعها في سياق الخلافات السياسية. مما يجعل صمت الإخوان عن شتائم تطلق باسم التدين وتفرق بين مسلمين فرقة أبدية لا تجبر كسرها سياسات ومصالح مشتركة مهما تغيرت أمرا مثيرا للشك.

احترام الإنسان لدينه يكون بالترفع عن شتم معتقدات الآخرين والخوض في أعراضهم، ومن يشتم عقائد الآخرين ويخض في أعراضهم يعرض عقيدته وعرضه لشتم مشابه

فالسياسة متغيرة بطبيعتها. واللمز والتنابز بالألقاب حرمه الإسلام. واحترام الإنسان لدينه وحرصه على كرامته وعرضه وشرف أهل بيته يكون بالترفع عن شتم معتقدات الآخرين والخوض في أعراضهم. ومن يشتم عقائد الآخرين ويخض في أعراضهم يعرض عقيدته وعرضه لشتم مشابه.

هذه قيم ناظمة لحقوق وحريات إنسانية، وقواعد أخلاقية في التعامل مع الآخر أقرها ديننا السمح ونبيّ “على خلق عظيم”. وهي قيم مطلقة لا يجوز تطويعها وقصقصتها وتفصيلها على مقاسات بعينها ولأهداف آنية أو مصالح ذاتية. ويكفي أن من أسماء الله الحسنى والمقتصرة منها عليه جل جلاله، اسم “الحق”.

والخالق أشاد بنبيه ليكون قدوة لمن بعده، بقوله “ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك”.. فمن يحق له بعد هذا أن يزعم ملكية “الحق” وأن يلجأ لغليظ القول وحتى نابيه وفاحشه، ويجعل قوما كثيرين من المؤلفة قلوبهم أو كادوا، ينفضون عن دين الله؟؟ وأقله يظهر الأمة العربية وكأن حالها لم يتغير على مدى قرون من حضارة باهت العالم، عن حال الأعراب الذين ورد ذكرهم في القرآن الكريم, أصحاب داحس والغبراء.

المصدر:الجزيرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى