آدم ياسين يكتب: نوستالجيا الفساد

105

 

 

 

فى فيديو شهير ومنتشر على الإنترنت مؤخرًا لمظاهرة هزيلة لمؤيدى مبارك، يظهر شاب موفور الصحة يكاد يبتلع الميكروفون الذى أمامه من الحماسة وهو يهتف «كفاية بقى! اللى اتعمل فى تلاتين سنة فساد اتهد فى 8 أشهر». هذا الشاب نال قدرًا هائلًا من السخرية من كل حدب وصوب.. لقد خانه التعبير، ولكنه وضع يده دون قصد على ما بدأ يظهر للأسف على السطح مؤخرًا بشكل واضح، وهو الحنين إلى عصر مبارك، عملًا بقول الشاعر القديم: دعوت على صفوت فراح فسرنى عاصرت عبد المقصود بكيت صفوت.. واليوم ومع الجدب والقحط الذى ضرب البلاد والعباد على يد حكم مرسى لن تستغرب أن تخرج مظاهرة حاشدة ترفع شعارات تطالب بعودة زمن الفساد الجميل.. زمن كان الفساد يمارس بحرفنة وباقتدار على يد «أدارجية» تربوا وترعرعوا فى كنف الدولة المصرية البيروقراطية التقليدية من الاتحاد الاشتراكى، مرورًا بحزب مصر انتهاء بالحزب الوطنى الغابر الذى علاه الهباب من أعماله السوداء.. هذه النوستالجيا الحارة لا تبحث عن استدعاء عصر مبارك بجهامته وكآبته وحلوه فحسب، بل تبحث عن كل ما هو قديم عن مهرب من واقع ينتفخ كورم ولا ينفثئ.. ومثلما كان البرلمانى العتيد «ناظر المدرسة» كمال الشاذلى، يقود التلاميذ بإشارة من إصبعه أو بزغرة من عينيه، فيرفعوا أيديهم بالموافقة فى ثبات، فإن الجنرال القادم من العالم السرى صفوت الشريف أيضًا كان أستاذًا فى مجاله الإعلامى، حتى إن كان يطبّق مدرسة جوبلز وزير إعلام هتلر الشهير.. وربما لو كان صفوت الشريف هو الممسك بزمام الإعلام وقت الثورة، لكان أدّى أداء أرقى بكثير من الأداء البائس الذى أتحفنا به صديق الوريث أنس الفقى، والذى تجلّى فى «صورة الكوبرى الثابتة» ومكالمة تامر من غمرة الشهيرة.. نتذكّر فى زمن الفساد الجميل مشهدًا مكررًا قبل البطولات الكروية الشهيرة، عندما كان المصريون عالقين بين مطرقة التليفزيون وسندان صالح كامل ويصبح الشغل الشاغل للمصريين فى أرجاء البلاد: هل ستُذاع المباراة أم ستُشفر؟ وتطل علينا البشارة قادمة من شريط الأخبار: المباراة مذاعة على القنوات الأرضية.. بشارة ترقص لها القلوب بين الحنايا.. ألم يكن إطلاق أول قمر صناعى مصرى تحت رعاية الجنرال صفوت الجالس فى منزله الآن يجتر ذكرياته فى الإفساد، والتى قاربت نصف قرن من العمل فى خدمة الدولة العتيقة؟ ألم يكن التحديث الذى طال القنوات المصرية وجعلها فى خط المنافسة مع القنوات الخاصة تحت إدارة أسامة الشيخ فى زمن الفساد الجميل؟ هل المكتوب هو تبييض لوجه الإعلام الحكومى فى عصر مبارك بالطبع لا على رأى راقية إبراهيم، لكن اليوم وتحت إدارة صلاح عبد المقصود، ماذا جرى؟ الرجل إخوانى الشكل والنوع والتطبيق، لا يملك أى خبرة إعلامية سابقة إلا العمل فى مجلات ذات طابع إسلامى محدودة التوزيع والتأثير.. وهو يتحدّث تشعر كأنك تتحدث مع موظف حكومى فى شركة صباغى البيضا مثلًا أو الزيوت والصابون، تخرج منه تعبيرات تتحول إلى مانشيتات ويتداولها الناس كمادة للتندر على غرار «أسئلة سخنة زيك؟»، و«ابقى تعالى وأنا أقولك»، و«أنا قاعد على قلبكم».. كل هذا الأداء الركيك يجعلك تترحم على نظام بائد متآكل مثل مبارك وعلى قنوات اليوم لا تجد ما تنتجه وبعد أن كان موسم رمضان يشكو تخمة المسلسلات الآن لا يجد ما يعرضه، وأراهن بنصف عمرى لو أن أمام وزير الإعلام اليوم خطة إنتاج لبرامج رمضان.. فقط هو منشغل بإعداد قوائم سوداء لمنع البرامج من استضافة المعارضين والمشاغبين، ناسيًا أن الفضاء حافل بعشرات القنوات.. فى 2010 بمناسبة احتفال التليفزيون المصرى بيوبيله الذهبى ومرور 50 عامًا على إنشائه، أطلقت قناة التليفزيون العربى، والتى عرضت تراث التليفزيون منذ إنشائه، وعاش المتفرجون لأيام مع خطب عبد الناصر وحوارات ليلى رستم واسكتشات ثلاثى أضواء المسرح ومونولوجات سيد الملاح وحفلات الربيع، حتى كما تردد فى التليفزيون وقتها، أتت التقارير الأمنية بوقف بث القناة، رغم نجاحها بدعوى أن الناس سوف يتعلقون بالعصر الماضى والشارع معبّأ ضد النظام، فأغلقت القناة واستبدلت «نايل دراما 2» بها، التى أغلقت هى الأخرى، واستبدلوا أخيرًا قناة الشعب بها، التى شاهدنا فيها اسكتشات 2011، والآن تعرض لنا اليوم بين الحين والآخر مقتطفات من الكائن المبتسر المسمى مجلس الشورى، مع أغانى تعبوية ومارشات عسكرية.. وها نحن انتقلنا من زمن «إحنا حاضنين الناس» ومدرسة صفوت الشريف فى التنويم التى استفاق منها الناس يوم 25 إلى زمن «تعالى وأنا أقولك»، الذى كشفه الناس مع أول لحظة ظهر فيها.. وأنا مستعد من موقعى هذا أن ألبّى دعوة صلاح عبد المقصود وأن يصطحبنى كما اصطحب شارلى الأطفال فى فيلم «شارلى ومصنع الشكولاتة»، ليرينا الإنجازات المزعومة.

 التحرير 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى