بائعات وسط البلد: « لحمنا مش رخيص »

19

 

 

 

وسط البلد حكايات.. ناس تسعى فى مناكب الأرض طلبًا للقمة العيش، وآخرون يتسكعون على غير هدى، يتفقدون الفاترينات، أو يجلسون على المقاهى.. متحرشون ومتحرش بهن، وميادين اقترنت بالثورة، وشوارع شربت من دماء الشهداء، ويبدو أنها لم تشبع بعد، وصالونات ثقافية ومنتديات أدبية وصفقات تجارية.
وسط البلد.. قلب قاهرة المعز، فيه كل الأجناس والأفكار والآراء تتلاقى وتتصارع، وفيه الفقر المدقع الذى يمثله أطفال الشوارع، وفيه أيضًا الباعة الجائلون.. وفيه البوتيكات المزدحمة بالزبائن، والبائعات اللاتى يحصلن على الفتات، ولهؤلاء قصصهن وأحلامهن وهمومهن.
أحلامهن ككل الفتيات، الفارس الذى يأتى على حصانه الأبيض، والبيت الصغير الذى يملؤه الدفء والسكينة، أى «الستر لا أكثر».. وفيما يلى كلامهن.

 

سعاد: سبب تشغيل أصحاب المحلات للبنات يكمن فى أنهن أنجح فى جذب الزبائن.. والرواتب من ٤٥ إلى ٦٠٠ جنيها
كوثر: أخشى من نظرة الزبائن وأشعر أنهم يعرونى من ملابسى
إيمان: نتعب ونحصل على الفتات.. ولا نعرف طعاما إلا الفول المدمس

تعمل سعاد البالغة من العمر 23 عامًا بمحلات وسط البلد منذ 4 سنوات، لإعالة أسرتها، وهى ككل فتاة تحلم بفارس الأحلام، الذى يأتى على حصانه الأبيض، لكنها فى قرارة نفسها تحس بأن هذا من الأحلام المستحيلة.
تتقاضى سعاد راتبا شهريا قدره 650 جنيهًا، وهى تسعى  جاهدة أن تحصل على الراتب حتى تتمكن من الإنفاق على أسرتها التى تعيش معها بمدينة دار السلام إذ ليس أمامها  خيار آخر.
ولم يحالف الحظ الفتاة العشرينية لأن تستكمل تعليمها، كونها تولت مهمة الإنفاق على إخوانها الذين لا يزالون فى سن التعليم.
وتعود سعاد إلى منزلها بعد منتصف الليل، بسبب تأخرها فى العمل، وهى ليست محجبة، وتخشى من أن يتولى من تصفهم بالمتطرفين شئون الحكم فى مصر، لأنهم حسب اعتقادها سيعودون بالمرأة إلى العصور الحجرية.
وترى أن سبب  تشغيل أصحاب المحلات للبنات يكمن فى أنهن أنجح فى جذب الزبائن.. ويمتلكن قدرات إقناعية أكبر من الرجال.
أما عفاف التى تبلغ من العمر 18 عامًا وتعمل بمحلات وسط البلد منذ فترة طويلة وتسكن بحى إمبابة، وتعول أسرة مكونة من أربعة أفراد، فقد بدأت رحلتها مع المعاناة مع تعرض والدها لحادث أدى لفقدانه نعمة الإبصار، حيث خرجت من سن الطفولة ودخلت إلى متاعب الكبار، إذ بدأت العمل دون الخامسة عشرة.
وعملت الطفلة بأحد محلات الملابس بمنطقة إمبابة مع رجل كانت تعتبره مثل أبيها، يملأ الإيمان قلبه وهو بشوش الوجه وزبيبة الصلاة تنتصف جبينه.
وكانت تتقاضى راتبا شهريا قدره 450 جنيها، وكان يكفيها وأسرتها بالكاد، خصوصا أن إيجار الغرفة التى تجمعهم جميعا يبلغ مائتى جنيه.
وكثيرًا ما كانت الفتاة تضطر فى أحيان كثيرة إلى الاقتراض وكان صاحب المحل لا يمانع أبدا فى إعطائها ما تريد إلا أنه وبعد كثرة طلباتها، رفض إعطاءها مبالغ أخرى.
وتضيف «كانت الحياة قد ضاقت فى وجهى، ولما شعر «الرجل التقى» أنى غير قادرة على أن أنهض بأعباء أسرتى، عرض على الزواج سرا.. هكذا فعل الرجل المتدين رغم أن فارق السن بينى وبينه يزيد على ثلاثين عامًا، فما كان إلا أن تركت العمل وتوجهت إلى محلات وسط البلد، لأبدأ رحلة أخرى من المعاناة، من صاحب محل إلى زبون إلى المتحرشين فى الطريق».
أما رغدة التى تبلغ من العمر 25 عامًا فقد جاءت من الريف بعد وفاة أبيها وأمها لتبحث عن الرزق ومعها شقيقها الأصغر، حتى تعيش بالقاهرة، وتعبت كثيرا من كثرة البحث عن مكان تقيم فيه، وبعد مشقة طويلة،أرشدها أحد الاشخاص إلى غرفة بمنطقة دار السلام، ثم بدأت رحلة البحث عن عمل.
واضطرت للعمل خادمة فى المنازل وبعد شهرين من العمل، أرشدتها صديقة إلى أن رجلا يملك محلا من محلات وسط البلد يطلب بائعات، فذهبت على الفور، وتقابلت مع صاحب المحل، وطلبت منه العمل معها، فقبلها وأصبحت تتقاضى راتبا شهريا قدره 750جنيها، كانت تدفع إيجار الغرفة 350 جنيها.
وتقول: «البائعات يتعرضن لمعاناة يومية، فهن بالنسبة للكثيرين «فرائس سهلة»، لذلك هم يرسلون لنا نظراتهم الوقحة».
وتروى أنها يوم وقفة الأضحى الماضى، عملت حتى الثالثة بعد منتصف الليل حتى تحصل على بقشيش أكثر، وفيما هى عائدة لمنزلها استقلت تاكسى، من شدة التعب، وأغمضت عينيها بعض الوقت، ثم فوجئت بأن السائق اتخذ طريقًا غريبًا عليها، فلما استفسرت منه أجابها بأنه طريق مختصر ثم أوقف السيارة وشرع يتحرش بها، فصرخت بكل ما أوتيت من قوة، حتى أنقذها المارة بعد أن تعرضت لكدمات وجروح وتمزقت ملابسها جزئيًا.
أما  إيمان فهى سيدة تبلغ من العمر 35 عامًا وتعول أسرة مكونة من زوج وطفلتين، إضافة إلى والدة زوجها ووالدتها.
تقول: كتب علىّ الزمن أن أعول هذه الاسرة ولا مفر من أن أؤدى واجبى.
زوجها أصيب بالسرطان وهو طاعن فى السن،  ووالدتها ووالدة زوجها  لا تقدران على العمل.
وتسكن إيمان فى  حى الوراق، وتعمل  بمحلات وسط البلد منذ 6 سنوات، وقد رأت إيمان الكثير من العناء فى عملها دون شكوى ودون أن يشعر أحد بها ودون ان تطلب المساعدة من أحد.
إيمان تتقاضى راتبا شهريا قدره 1000 جنيه وتدفع 450 جنيها إيجار الغرفة التى يقيمون بها، والحمام مشترك بينهم وبين المدرسة، والطريف أن تلك المدرسة تتخذها بعض الاسر مأوى لهم، فالمدرسة عبارة عن 9 فصول، فى كل فصل تقيم أسرة مختلفة، وجميعهم يستخدمون دورة مياه واحدة فقط.
ولا يتبقى لها من الراتب إلا القليل الذى تقوم بالإنفاق منه على الأسرة وتأكل دون أن تستطيع أن تلحق  أولادها بالمدارس نظرا لعدم وجود ما يكفيها للإنفاق عليهم أثناء دراستهم.
كما اضطرت لإلحاق أطفالها  بإحدى الورش كى يتعلموا حرفة تعينهم على معيشتهم فيما بعد  فكل ما تقدر عليه إيمان هو أن تشترى الطعام ودواء زوجها.
ويتطلب العمل أن تعود إلى المنزل ليلا، حيث تعرضت لمواقف محرجة أكثر من مرة، مثل التحرش ليلا والإهانة من الزبائن فوسط البلد من وجهه نظر إيمان حكاية تعيشها كل يوم .
أغرب ما عاشته إيمان هو سرقة الملابس من قبل الزبائن، إيمان تشاهد يوميا زبائن من مختلف الطبقات، فذات يوم دخلت سيدة ترتدى أفخم أنواع الملابس، ومظهرها يدل على أنها من الطبقة الراقية، وأخذت تنظر فى المحل ثم دخلت البروفة، وارتدت قميصًا من المحل يبلغ ثمنه 380 جنيها تحت ملابسها ثم خرجت قائلةً: «مش عاجبنى حاجة».. ولدى خروجها نظرت إيمان لها، ورأت  أن فى آخر ملابسها قطعة من القميص فأوقفتها إيمان فصفعتها الزبونة على وجهها قائلة لها المقولة الشهيرة: «إنتى مجنونة إنتى مش عارفة أنا مين»، فقام صاحب المحل وقتها بالتدخل وطلب الشرطة.
أما فادية فتبلغ من العمر 27 عاما وتعول أسرة مكونة من والدتها وأشقائها وتسكن بغرفة فى حى إمبابة تعمل بمحلات وسط البلد منذ 3 سنوات تتقاضى راتبا 350 شهريا تدفع 100 جنيه إيجار الشقة، وتعيش ما تبقى من الشهر
بـ 250 جنيها هى وأسرتها.
وتقول: لا نعرف طعامًا إلا الفول المدمس، فاللحوم من الرفاهيات التى لا يجوز لأمثالنا أن نحلم بها .
وعلى الرغم من ذلك لم تشتك ولم تندب حظها يوما، فهى تحمد الله على كل حال وتقول إنها أحسن من غيرها بكثير .
أغرب ما عاشته فادية، أنها ذات مرة أتت إلى المحل سيدة كانت ترتدى المجوهرات وأشيك الملابس وكانت تأتى أسبوعيا إلى المحل الذى تعمل به وتعطى لها100 جنيه على سبيل البقشيش .
ففرحت «فادية» إلا أن فرحتها كانت تملؤها الحيرة، على ما تفعله معها تلك السيدة، فكانت تقوم بإعطائها النقود دون مقابل، وتقوم بسؤالها عن أحوالها، وعن حالتها الاجتماعية، لدرجة أن فادية توقعت أن تأتى ليها بعريس على الرغم من أنها متزوجة، ودائما ما كانت السيدة تبدى إعجابها بجسد فادية وجمالها ومدى خسارتها فى العمل بمحلات وسط البلد .
ثم جاء اليوم الذى عرضت فيه تلك السيدة على فادية أن تأتى إلى منزلها، كى تقوم بقضاء لها بعض الاحتياجات، ثم ذهبت فادية إلى منزل تلك السيدة، واكتشفت السبب الذى جعل تلك السيدة تغدق بالكثير من الأموال عليها، حيث تقوم تلك السيدة هى وإحدى شريكاتها بإدارة منزلها للأعمال المنافية للأداب، فاندهشت مما رأته، وعرضت عليها السيدة أن تعمل معها، وسوف تقوم بإعطائها الكثير من المال وقالت لها إن معظم زبائنها من دول الخليج ويتعاملون بالدولار، وعرضت عليها ذلك نظرا لأنها على قدر كبير من الجمال، فنهرتها بشدة.
وقالت لها كيف تظنين بى ذلك فعلى الرغم من ضيق ذات اليد إلا أننى لم أفكر فى يوم من الأيام أن أفعل شيئا يغضب الله .

كوثر: «إحنا مش لحم رخيص».. وهالة: لقمة العيش مرة
تروى كوثر البالغة من العمر 20 عاما وتعمل بمحلات وسط البلد منذ سنتين أنها استمرت فى عملها رغم العناء التى تواجهه طوال يومها .
تعول الفتاة أسرة من 5 أفراد، وتسكن بإحدى العشوائيات بمدينة دار السلام، وتتقاضى 350 جنيها راتبا شهريا.
تقول: هذا الراتب لا يكفى لتناول الخبز «بلا غموس» ولولا البقشيش لما تمكنت من إعالة أسرتى، وكثيرًا ما تتعرض كرامتى للإهانة لكن «ليس على الفقير حرج».
وتروى: «ذات يوم كنت أقوم بتنظيف المحل تمهيدًا لإغلاقه، دخل رجل ومعه زوجته كى يشترى لها ملابس، وبعد انتهائهما من الشراء، قام بإعطائها مبلغا من المال، ثم ابتسم ابتسامة عريضة قائلاً: «علشان تعبك معانا وإنتى تستاهلى أكثر من ذلك بكثير» .
وبعد خروجهما، وجدت ما لم تكن تتوقعه، حيث وجدت أن الزبون ترك لها مبلغ 200 جنيه، وعنوان شقته ورقم تليفونه مع ورقة مكتوب فيها «مستنيكى يا جميل وهديكى كل إللى تطلبيه» .
ورغم كل ما تتعرض له كوثر يوميا، إلا أنها مستمرة فى عملها، وأثناء حديثها  أجهشت بالبكاء بسبب ما يحدث لها، وقالت: أصبحت أخشى من نظرة الزبائن وأشعر أنهم يعرونى من ملابسى «إحنا مش لحم رخيص».
أما هالة التى تبلغ من العمر 17 عاما وتعمل منذ سنة فهى تعول أسرة مكونة من أربعة أفراد، تركهم والدهم بعد أن تزوج من فتاة فى عمر بناته وتسكن بحى إمبابة وتتقاضى راتبا 250 جنيها شهريا، وتحلم أن تحصل على شهادة تمكنها من الالتحاق بعمل أفضل لكنها تحلم أن هذا الحلم من المستحيلات .
وتقول: منذ عملت فى محلات وسط البلد أرى يوميًا كوارث،  لكن « لقمة العيش هى اللى مصبرانى».
وتروى: «فى يوم متأخر من العمل والمحل على وشك الغلق، دخلت سيدة ومعها رجل يشاهدان الملابس الموجودة داخل المحل وكان الوقت يقترب من الـ10 مساء ثم أعجبت تلك السيدة بقطعة من الملابس المعروضة، فدخلت غرفة البروفة.. وانتظرها الرجل أمام باب الغرفة، حتى نادت عليه فدخل معها بروفة الملابس فاندهشت من الموقف، وطلبت من الرجل ألا يدخل، ومنعت الرجل من الدخول إلا أنه قال لها: «أصل مراتى بتتكسف».
دخل البروفة، ومكث بها فترة طويلة، وعندما شكت  فى الأمر، اقتحمت الغرفة عليهما فوجدتهما فى وضع مخل بالأداب، فما كان من الرجل إلا أن صفعها بقوة حتى سقطت أرضا وفر هاربا.

وفاء: «وظيفتنا ما فيهاش كسوف»
تعمل وفاء البالغة من العمر 25 عاما تعمل بمحل ملابس داخلية بوسط البلد منذ 5 سنوات، وتسكن بحى الوراق وتتقاضى 650 جنيها شهريا لإعالة أسرة مكونة من 4 أفراد وهى حاصلة على دبلوم تجارة .
وفاء لم تخجل يوما من أنها تعمل بمحلات الملابس الداخلية وترى من وجهة نظرها أنها سلعة مثل أى سلعة لها الحق فى أن تتداول فى الأسواق والحرية فى طريقة عرضها .
فى بداية عمل وفاء كانت تخجل حين يدخل عليها رجل ويشترى منها ملابس داخلية ولكن بعد عملها بفترة أصبح معظم الزبائن الخاصين بها من الرجال .
وفاء قالت: إنها تترك الخجل والحياء قبل أن تغادر بيتها، وهى فى طريقها إلى العمل؛ نظرا لأن الخجل والحياء ليسا مطلوبين فى عملها، وقالت إن أهم شرط من شروط العمل وفاء هو إراحة الزبون والتعامل مع أى نوع من الزبائن، فهى ترى أن العمل بمحلات الملابس الداخلية، يدر عليها الكثير من الربح، حتى لو اضطرها ذلك إلى التخلى عن شىء من حيائها .
وتقول: «أنا بسأل الزبون بكل احترام «هو حضرتك عاوز مقاس كام، فى جسمى ولا فى جسم حضرتك»، ولم تخجل سارة يوما فى تكرار أسئلتها على الزبائن.
وعند سؤال وفاء إذا تم منع عرض الملابس الداخلية ماذا ستفعل ؟
سكتت لحظة ثم قالت «احنا لازم نعرض الملابس الداخلية بره علشان نجذب الزبون» .
وتتهكم على دعوات البعض بعدم المتاجرة بالملابس الداخلية قائلةً: لو منعوا بيعها بالمحلات سننزل فى مظاهرات لبيعها بميدان التحرير».
وأضافت: «إنه لو منعوا تدوال بيع الملابس الداخلية إحنا مش هنسكت حتى لو اضطرنا الأمر لأن نبيع الملابس الداخلية فى الشارع ».

الكساد يضرب المحلات بسبب شائعة «الكاميرات»
عاشت محلات وسط البلد فترة خوف بسبب شائعة سرت فى أرجاء القاهرة بأنه توجد كاميرات فى غرف بروفات محلات وسط البلد تقوم بتصوير السيدات وهن عاريات لبث الصور بعد ذلك على مواقع الإنترنت.
وتسببت الشائعة فى تعرض المحلات التجارية لحالات كساد كبيرة، بعد امتناع السيدات عن التوجه إليها .
وتقول هدى التى تعمل بمحلات وسط البلد منذ 10 سنوات، وتتقاضى راتبا  شهريا قدره 850 جنيها، وتبلغ من العمر 32عاما.. وتعول أسرة مكونة من طفلين وزوج أصابه الشلل حتى اضطر إلى الجلوس فى المنزل.
وتعرضت هدى لضائقة اقتصادية بعد كساد حركة البيع والشراء فى المتجر الذى تعمل به، ما أدى إلى عدم تقاضى راتبها لمدة ثلاثة أشهر، إثر انتشار شائعة الكاميرات.
وقالت إنه بعد فترة طويلة من إطلاق الشائعة، أصبحت السيدات تأتين إلى المحل، ويقمن بتفتيش البروفة خوفا من وجود تلك الكاميرات، وإذا منعتهن من ذلك تعرضت لوابل من الإهانات .

 

الصباح

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى