الإخوان والمؤامرة الصهيوأمريكية على مصر

42

كتب :د. صبرى حافظ

فى أثناء احتدام الجدل حول الدستور الباطل، الذى كتبته جمعية تأسيسية باطلة، ولم يصوت له إلا أقل من خمس المقترعين فى مصر، ومع ذلك انطلقت الاحتفالات البلهاء بانتصاره، وصدرت المراسيم لتنفيذه، أخذ الإخوان وحلفاؤهم من المتأسلفين يتحدثون لوسائل الإعلام عن المؤامرة الصهيوأمريكية التى تشارك فيها كل أطياف المعارضة لمشروعهم البائس فى الاستئثار بالسلطة، وفرض هذا الدستور الباطل بتلك الأقلية البائسة على الشعب المصرى وثورته العظيمة. وكنت كلما سمعت كتيبتهم الإعلامية التى انتشرت كالجراد على مد الفضائيات العربية والمصرية بخاصة، تهرف بما لا تعرف، وتمارس الكذب والتزييف وتشويه الحقائق، تذكرت المثل العربى القديم: «يكاد المريب يقول خذونى». وهو مَثَل يتحدث عمَّن يرتكب جريمة شنعاء، ثم يؤكد من خلال الإفراط فى إنكاره لها، وإسقاطها على الآخرين، شبهاتها عليه. خصوصا أننى كنت أتابع فى الوقت نفسه الموقف الأمريكى الداعم لهم، والثناء الصهيونى عليهم فى مختلف وسائل الإعلام الأمريكية منها والغربية، لأن المتابع من بُعد لما يدور فى مصر، خصوصا موقف أمريكا ودولة الاستيطان الصهيونى فى فلسطين مما دار فى مصر منذ صعود محمد مرسى للسلطة فيها، وخصوصا منذ إعلانه الدستورى المشؤوم فى نوفمبر، يدرك مدى سعادة المعسكر الصهيوأمريكى بحكم الإخوان، وبما حققوه لهذا المعسكر فى الفترة القصيرة التى تولوا فيها الحكم، ويدرك أن هناك بالفعل مؤامرة صهيوأمريكية على الثورة المصرية. فقد فاجأت هذه الثورة النبيلة صناع القرار الصهيوأمريكى وزلزلت حساباتهم، وقد استناموا إلى دعة تحقيق نظام مبارك البغيض لها، وتحوله إلى الذخر الاستراتيجى للمصالح الصهيوأمريكية فى مصر. لذلك فإن من تابع أحداث هذه الثورة العظيمة ووقائعها، يدرك كيف أنها فاجأتهما، ومدى انهماك الإدارتين الأمريكية والصهيونية فى العمل على احتوائها منذ لحظة اندلاعها الأولى. فقد اجتمع مجلس الأمن القومى الأمريكى 21 مرة فى أثناء أيام الثورة الثمانية عشر، ولم تتوقف الاتصالات اليومية بين الإدارتين الأمريكية والصهيونية طوال أيامها. كما لم تتوقف اتصالات الإدارتين الأمريكية والصهيونية بمبارك، ثم الأمريكية بالمجلس العسكرى طوال أيامها، وبعدها.

ومع أننى لا أميل كثيرا إلى الحديث عن المؤامرات، لأننى أدرك أن فى السياسة حسابات ومصالح، أكثر مما فيها من مؤامرات ودسائس، وأن الحديث عن المكايد والمؤامرات كثيرا ما يُخفِى نقص المعرفة أو الافتقار إلى المعلومات، أو فى حالتنا هذه الرغبة فى ردّ التهمة عن النفس، وإبعاد الشبهات عنها، أو ما يُعرف فى علم النفس بالإسقاط (إسقاط ما فى الذات على الآخر)، فإننى على يقين من أن مصالح مصر الوطنية فى الاستقلال والازدهار والتقدم تتناقض جذريا مع المصالح الصهيوأمريكية فى المنطقة، وأن كلا من الولايات المتحدة وحليفتيها الأساسيتين فى المنطقة: دولة الاستيطان الصهيونى فى فلسطين، والمملكة السعودية فى الجزيرة العربية، يعملون بدأب على احتواء هذه الثورة والإجهاز عليها، والعودة من جديد إلى الوضع الذى كان فيه النظام المصرى الحاكم ذخرا استراتيجيا للعدو الصهيونى، وتابعا أمينا للنظام السعودى، ومنفذا دقيقا لكل السياسات الأمريكية فى المنطقة. لذلك فقد أزعجَت الموجة الثانية من الثورة المصرية التى اندلعت منذ الإعلان الدستورى المشؤوم، والتى عاد بها زخم ثورة يناير من جديد، الدوائر الصهيوأمريكية. وهذا هو سر الصمت الأمريكى الكريه على كل ما قام به الحُكم المصرى من تجاوزات مريعة، تَجَلَّت فى الاعتداء على القضاء، والزراية بالحريات، وإطلاق الميليشيات على المتظاهرين السلميين وغير ذلك. وهذا أيضا هو سر سعادة الخارجية الأمريكية فى آخر تصريحاتها بنتائج هذه التجاوزات التى أسفرت عن تمرير دستور المتأسلمين الباطل. وحتى نعرف حقيقة ما دُعى بالمؤامرة الصهيوأمريكية التى صدَّع بها الإخوان وأنصارهم رؤوسنا، علينا أن نتعرف حقيقة على الركائز الأساسية للسياسة أو ما يدعونه بالمؤامرة الصهيوأمريكية فى المنطقة، ومراميها، خصوصا أننى أتفق معهم فى أن هناك بالفعل ما يسمونه مؤامرة صهيوأمريكية على مصر، وأدعوها بالأهداف الاستراتيجية للسياسة الصهيوأمريكية فى المنطقة وضرورة السيطرة على سياسات مصر من أجل تمريرها. وأن هدف هذه المؤامرة هو بحق الإجهاز على الثورة المصرية وعلى أهدافها النبيلة فى الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية. ووضع نظام يحكم ظاهريا باسم الثورة، وينفذ فى حقيقة الأمر كل السياسات العميلة والقذرة التى كان ينفذها نظام مبارك، والتى جعلته الذخر الاستراتيجى للعدو الصهيونى.

فقد نجحت أميركا، ومعها دولة الاستيطان الصهيونى فى فلسطين، فى استغلال شبق الإخوان وشرههم المَرَضِىّ للسلطة فى تمرير كل سياساتها الرديئة التى كان يقوم بها مبارك فى المنطقة. وللسياسة الأمريكية فى المنطقة ثلاث ركائز على أى نظام يسعى لكسب التأييد الأميركى أن يتبناها كلية: أولا المشروع الصهيونى الذى يقوم بدور القاعدة العسكرية المتقدمة لها والذى يدعمه «الإيباك» أقوى لوبى سياسى فى الولايات المتحدة، وثانيا السيطرة على مقدرات اقتصاد مصر (كنموذج للمنطقة) التى تكفل تبعية اقتصادها، وتدفق منهوباته للغرب، دون تحقيق تنمية حقيقية تمكِّنها من الاستقلال الاقتصادى وهو عماد أى استقلال سياسى. وثالثا تدفق النفط، الذى أصبح الغطاء الجديد للعملة الأمريكية التى استمرأت التيسير الكمى حلا لمعضلاتها، بعد تحررها من غطاء الذهب، واستبدال الذهب العربى الأسود به، والقدرة على التحكم بأسعاره. وهذه الركيزة الثالثة هى ما يجعل المملكة السعودية ركنًا أساسيا فى السياسة الصهيوأمريكية فى المنطقة. وإذا ما تأملنا هذه الركائز الثلاثة فسنجد أن مَن ينفذها هو مَن ينفذ المؤامرة الصهيوأمريكية على مصر فى حقيقة الأمر.

وقبل أن نتناول تلك الركائز بالترتيب لنرى من الذى ينفذها، لا بد من الإشارة إلى أمرين: أولهما أن السياسة كلعبة الشطرنج لا تعرف المصادفات أو التحركات العرضية، وإنما لكل حركة فيها عواقبها. وثانيهما أن اتهام أى فريق بالانخراط فى أى مؤامرة لتحقيق مصالح الآخر لا بد أن يقوم على برهان بوجود قنوات اتصال مفتوحة مع هذا الآخر. والواقع أن الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل قد أشار فى أحاديثه التليفزيونية الأخيرة إلى أن الإخوان قد حافظوا على قنوات اتصالاتهم المفتوحة مع الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الأساسيين طوال سنوات عديدة، وبشكل دورى ومنتظم منذ عام 2007. وأشار فى هذا المجال إلى كتاب «العلاقات الخفية لمارك كيرتس Secret Affairs, By Mark Curtis». ومارك كيرتس، لمن لا يعرفه، باحث بريطانى متميز وقريب من دوائر الخارجية والمخابرات البريطانية والأمريكية، تتسم معلوماته بالدقة والمصداقية. وقد رصد فى كتابه هذا، الذى يقع فى أكثر من 400 صفحة، تاريخ التواصل المستمرّ بين هذه الدوائر والإخوان فى مصر، حيث يتناول الإخوان فيه أكثر من 40 مرة. كما أنه ليس من باب المصادفة، أن أكدت أن السياسة لا تعرف المصادفات، أنه فى أثناء إلقاء هذه الاتهامات فى وجه المعارضة، كان الرئيس محمد مرسى قد بعث أمين سر مكتبه، حسين القزاز، ومساعده للشؤون الخارجية، عصام الحداد، إلى أميركا، ثم سرعان ما لحق بهما عصام العريان.

بعد هاتين الإشارتين علينا أن نبدأ بالركيزة الأولى، فقد كان على الرئيس الإخوانى، وقد تاجر الإخوان كثيرا طوال ستين عاما بالقضية الفلسطينية، أن يقدم أوراق اعتماده للعدو الصهيونى، الذى لا تقنعه عبارات الود الحارة التى كتبها لصديقه الحميم شمعون بيريز، لأنه لا يعترف إلا بالأفعال والبراهين العملية. وقد قدمت لهم أفعاله ثلاث مرات، على مد الفترة القصيرة التى أمضاها فى الحكم، البراهين على أنه سيقوم بنفس دور الذخر الاستراتيجى للعدو الصهيونى الذى ضمن لمبارك التأييد الأمريكى لسنوات طويلة، كان أولها فى اختبار العملية «نسر» الصعب، والأمر بوقفها وإبقاء سيناء رهينة لدى العدو الصهيونى، وسحب كل القوى والمعدات التى أدخلها الجيش المصرى فى فورة العملية، حينما صدرت له الأوامر من أورشليم وواشنطن، مما أغضب بعض قطاعات الجيش وأحدث شرخا بينه وبين الحاكم الجديد. وثمة تقارير غربية تقول إن تنفيذ مرسى للأوامر الأمريكية والصهيونية ضد ردود فعل الجيش المصرى الوطنية بطبيعتها، ووقفه الحاسم للعملية «نسر»، هو ما دفع أميركا للوقوف بجانبه فى عملية التخلص من المجلس العسكرى الذى أخذته العزة الوطنية بالإثم فخرج عن الدور.

وكان ثانيها حينما وقّع بإمضائه، حسب التعبير البليغ للأستاذ محمد حسنين هيكل، على هامش معاهدة كامب ديفيد فى استعراض الاستاد الشهير فى 6 أكتوبر، بتكريم السادات صاحب المعاهدة المشؤومة، فقد كان تكريم السادات رسالة موجَّهة بالدرجة الأولى إلى دولة الاستيطان الصهيونى. لكن توقعيه على هامش كامب ديفيد لم يخلُ من «جليطة» إخوانية معهودة، حيث توهم أن تكريم السادات فى حضور من اغتالوه، سيمرر المسألة على الشعب المصرى، خصوصا أن الأمر كان مصحوبا باستعراض القوة الإخوانى الخارج من كتالوج العرض الهتلرى فى ميونخ كما كتبتُ من قبل. لكن المهم أن الرسالة الحقيقة وصلت، وتلقى العدو الصهيونى أوراق اعتماد مرسى للمرة الثانية. أما ثالثتها فجاءت فى أثناء قيامه بكل ما هو مطلوب منه أمريكيا وصهيونيا فى أثناء حرب غزة الأخيرة. ولا يزال ما جرى فى أثناء حرب غزة وفصم عُرَى علاقات حماس بإيران التى زوَّدَتها بالصواريخ التى حققت بها إنجازها، محفوفا بالأسرار. ولا يزال هناك كثير من الروابط بين ما جرى، وقرار وزير الدفاع الأخير عدم التملك فى سيناء من ناحية، ومادتين معيبتين فى الدستور الباطل الذى مر تتعلقان باللجوء السياسى وتَمَلُّك الأراضى من ناحية أخرى لم تتكشف مُضمَراتها بعد. لكن ما نعرفه بالتأكيد هو أن ما جرى حقق غايات الصهيونية، إلى الحد الذى نال معه الرئيس الإخوانى ثناء أبشع رموز العدو الصهيونى وأشدها بلطجة ليبرمان ورعاته الأمريكيين. وهذا الثناء هو الذى «أدار رأسه» كما يقول التعبير الإنجليزى، فأصدر إعلانه الدستورى التعيس، وأحدث به شرخا أكبر مع الشعب المصرى كله، من ذلك الذى أحدثه البرهان الأول مع الجيش. هذا هو بلاء الإخوان الحسن مع الركيزة الأولى للمؤامرة الصهيوأمريكية على مصر، وسنتناول الركيزتين الباقيتين فى المقال القادم.

التحرير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى