مصر تصارع مشروع الإسلام السياسي

 

79

 

لا يتوقع أن يكون 30 يونيو القادم هو يوم الحسم بالضربة القاضية ضد مشروع الإسلام السياسي الحاكم الآن في مصر. ثمة تعارض وتناقض يصل إلى حد الصراع المضمر أحياناً والمعلن في أخرى بين مشروعين مختلفين لمصير مصر المعاصرة- مصر الدولة الوطنية كما أسسها محمد علي باشا قبل حوالي قرنين من الآن، ومصر الولاية الإسلامية كما كانت تحت حكم الخلافات الإسلامية المختلفة منذ فتحها عمرو بن العاص حتى نهاية عصر المماليك في عهد الخلافة العثمانية.

دائماً وأبداً كان الفارق الحاسم ما بين “مصر الوطنية” و”مصر الولاية” شيء جوهري: القوة المسلحة الوطنية. خلال أغلب العهود الفرعونية على امتداد أكثر من سبعة آلاف سنة مضت، كانت مصر بالفعل “دولة وطنية” مستقلة وذات سيادة تحميها قوة مسلحة وطنية من أبنائها وبناتها المصريين أنفسهم؛ وما كانت مصر تفقد هذه الاستقلالية والسيادة الوطنية ما دام الجيش المصري قوياً ويقظاً ومتأهباً لصد العدوان. لكن بعد كل هزيمة ونحر للجيش الوطني المصري، كانت مصر تفقد استقلاليتها وسيادتها الوطنية للغازي المنتصر، سواء كان قادماً عبر الحدود الجنوبية من السودان وإثيوبيا أو من الغرب من شمال أفريقيا عبر ليبيا، أو شمالاً عبر البحر من أوروبا أو من الشرق عبر سيناء من إيران أو تركيا أو الجزيرة العربية. دائماً وأبداً كان الفارق بين المصرين المستقلة والتابعة يتمثل في سؤال كبير وحيد: هل يوجد جيش وطني من المصريين؟

الفارق الجوهري ما بين عمرو بن العاص، مؤسس “مصر الولاية” ورائد المشروع الإسلامي الذي رغم انقراضه منذ زمن بعيد على الأرض لا يزال نابضاً بالحياة داخل جماجم البعض حتى اليوم، وبين محمد علي باشا، مؤسس “مصر الوطنية” ورائد المشروع الوطني المهيمن والحاكم دون انقطاع منذ انطلاقته بعد جلاء الفرنسيين يتمثل في مكون حاسم: “العنصر الوطني”. عمرو بن العاص قد أقام مشروعه الإسلامي في مصر معتمداً بشكل كامل على “العنصر العربي”، سواء في الجيش الذي اصطحبه معه قادماً من الجزيرة العربية ولم يضم تحت لوائه ولو جندياً مصرياً واحداً، أو في مناصب الحكم المختلفة التي كانت كلها أيضاً بلا استثناء حكراً على العرب، أو في شتى المواقع المتقدمة الأخرى في الدولة والمجتمع في الاقتصاد والتجارة والقضاء والتعليم والتوجيه الديني وخلافه. على العكس من ذلك، كان اعتماد محمد علي باشا في بناء وإدارة دولته منصب بشكل أساسي وكبير على “العنصر المصري”، الذي أدخله لأول مرة منذ عهد الفراعنة في بناء جيشه ليتخرج منه قادة عظام مثل أحمد عرابي، وأوفد منه المبعوثين للتعلم بالخارج لتنشأ لدى مصر لأول مرة منذ العصور الفرعونية أيضاً نخبة وطنية حقيقية من أمثال رفاعة رافع الطهطاوي وعلي مبارك.

لا يمكن أن يكون مشروعاً وطنياً من دون الاعتماد على “العنصر الوطني”، بدءاً بالجيش ومروراً بجميع مؤسسات الدولة والمجتمع الأخرى. من جهة أخرى، هذا “العنصر الوطني” لا يتطابق دائماً مع “العنصر الديني”، حيث الأديان عادة، ومنها الدين الإسلامي بالطبع، تنتشر عبر مسافة أكثر من وطن واحد، وفي الوقت نفسه قد لا تشمل أبناء نفس الوطن الواحد جميعاً. هنا ينشأ التناقض والصراع الحتمي بين المشروعين الوطني ذو الوطن الواحد والأديان المتعددة من جهة، والديني ذو الدين الواحد والأوطان المتعددة في المقابل. في منطق الدولة الوطنية، لا يمكن أن يتسع الجيش أو أي من مؤسسات الدولة الأخرى لعضوية أي أحد ليس من أبناء هذا الوطن، حتى لو كان من نفس الدين واللغة والثقافة والعرق وكل شيء آخر. وفي المقابل، لا يستطيع منطق الدولة الدينية أن يقصي من عضوية مؤسساتها، ولو حتى العسكرية منها، أبناء نفس الدين، حتى لو كانوا من أوطان وأعراق ولغات وثقافات مختلفة وكانوا مختلفين في كل شيء آخر.

من هذا المنطق الديني لم، ولن، يشعر رواد مشروع الإسلام السياسي الحاكم الآن في مصر بغصة في حلوقهم أو انتقاص من كرامتهم الوطنية إذا ما استعانوا، وربما قد استعانوا بالفعل، بأعضاء من نفس عنصرهم الديني من خارج حدود الوطن، سواء من قطاع غزة أو السودان أو حتى إيران وجنوب لبنان وأدغال الشيشان في سبيل إنقاذ مشروعهم الديني إذا ما تعرض لتهديد خطير يوم 30 يونيو 2013.

الحوار

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى