النيل بعد زوال الإخوان

 

198

 

يثير قرار إثيوبيا تحويل مجرى نهر النيل الأزرق، بعد يوم واحد من لقاء الرئيسين المصري والإثيوبي في أديس أبابا، إغواءً لا سيطرة عليه، لتوجيه لوم حاد ونقد شرس وتعنيف سياسي لحكم الإخوان.. الذي يتعثر يومًا تلو آخر، وما إن يتورط في فشل حتى يسقط في غيره، بحيث صار عنوانا للتدهور ورمزًا للخيبة السياسية والتنفيذية.

 

لكن هذا الإغواء يجب أن يُنحى جانبًا، ليس شفقة بالإخوان وترفقًا بهم، وإنما اهتمام بما هو أجدى في ملف مياه النيل والعلاقات مع إثيوبيا.. باعتباره الأهم استراتيجيًا وحيويًا ومصيريًا لمستقبل مصر وشعبها.

ففي نهاية الأمر لن يضيف انتقاد الإخوان كثيرًا بعد أن عزلهم الشعب ورفض وجودهم وأصبح الحكم قيد التهديد السياسي المستمر، ولم يعد أمامه إلا أن يحاول التشبث بما يعتقد أنه شرعية يقبض عليها كالقابض على الماء.

قصُر الوقت أو طال سوف يذهب الإخوان، غير مأسوف عليهم، يجرون الخزي ويحاولون ستر العار الذي ثبت عليهم بكل الأدلة، إنما مجرى النيل الذي شق مسار الحياة في مصر منذ مئات القرون هو الأبقى..

وقد عبرت عليه جميع عصور الحكم وأزمنة الحضارات والأنظمة السياسية.. وإذا ما اختفى الإخوان الآن أو بعد قليل.. فماذا سيكون علينا أن نفعل.. ما هي رؤية المجتمع لطريقة التعامل مع هذا التحدي.. وإذا ما عبرنا تلك الأزمة.. كيف سندير علاقتنا بإثيوبيا بشكل عام؟

إن من مآسينا أن النيل علمنا الكسل والتراخي، ظل منذ فجر التاريخ يجري ويأتي، فلم نتعب في زرع ولم يجف لنا في أغلب الأزمنة ضرع، ومهما كان ما عانيناه من ظروف عصيبة فإن الحياة هنا على ضفتي النهر وفي دلتاه كانت تستمر .

ولذا فإننا لم نجتهد بقدر كافٍ في أن نعرف الآخرين.. أو نقترب منهم.. تعاملنا معهم باعتبارهم كيانات غامضة عليها هي أن تأتي لكي تقترب منا وتتودد إلينا.. لم نبذل – كمجتمع -ولا أقصد الدولة والحكومات، ما يكفي من جهد لتكوين الخبرات والعلاقات مع هؤلاء الذين يرتبط مصيرنا بوجودهم وبما يفعلون.

لاحظ ما يلي: لمصر مصالح وتحديات، في جوهر أمنها القومي ومنافعها الوطنية، مع كل من إثيوبيا، وأريتريا، والسودان شماله وجنوبه، وليبيا، وإيران، وتركيا، فضلا عن إسرائيل التي يوجد بيننا وبينها اتفاقية سلام، صمدت في ثباتها ورسوخها من الرئيس السادات إلى الرئيس مرسي، وحافظ عليها الرئيس مبارك ولم يقترب منها المجلس العسكري الأعلى خلال الفترة الانتقالية.

هذه المصالح والتحديات تتعلق في أغلبها بنطاقات جغرافية وسكانية ومائية وسياسية ومذهبية.. وفي عمق التاريخ كانت للدولة – ولم تزل – تواصلات وتفاعلات وصدامات مع أغلب تلك الدول.. لكننا لا نعرف عنها شيئًا.

إن دوائر أمننا القومي كلها ليس لها ما ينبغي توافره من خبرات في ثقافة المجتمع، وأستطيع أن أزُعم كذلك أننا ليست لدينا الخبرة الكافية بشأن المجتمعات العربية الشقيقة.. وحتى الآن بيننا فئات يملؤها التعالي ..وتظن أن على الآخرين أن يرضخوا ويركعوا.. وإلا فإن علينا أن نحاربهم ونخضعهم بالقوة!!

دع هذه القائمة الطويلة من الدول والدوائر والمصالح جانبًا، ولنعط تركيزًا أكبر وأهم لملف إثيوبيا التي تداولت التعليقات عليها خلال الليلة الماضية تصورات بأنه يمكن إرجاعها عن مشروعها التنموي في «سد النهضة» الذي من أجله قررت تحويل مجرى نهر النيل الأزرق .. كم مصريًا يمكن وصفه بأنه خبير في شئونها ويعرف تفاصيل مجتمعها واقتصاده وأحلامه وتحدياته وثقافته .. والأهم قبل كل ذلك : كيف ينظر إلى مصر وكيف يتعامل معها؟

إن للسؤال أهميته، من حيث أنه يوفر البنية الأساسية لخبرة المجتمع الذي عليه أن يواجه تحدياته، ويفرض خياراته على الحكم.. أي حكم.. سواء كان إخوانيًا أو غير ذلك.

فإن كان الخيار هو أن نتودد للإثيوبيين.. لا مانع إن كان ذلك يحقق المصلحة، وإن كان الخيار هو أن نشاركهم في مشروعاتهم على أرضهم.. فلابد أن نسعى إلى ذلك، وإن كان الخيار عنيفًا ..فيجب أن نتساءل هل نحن قادرون عليه.. وهل سيحقق المصلحة المؤقتة.. وهل سيورث للأجيال التالية عداءً لا يزول.. وتصير مياه النيل مسمومة بالغضب والكراهية؟

لقد فاجأت إثيوبيا مصر بقرارها تحويل مجرى مياه النيل، وسوف يدفع حكم الإخوان ثمن خذلانه في هذا الملف، بعد أن ادعى قبل ذلك أنه سوف يتصدى إليه بكل حزم.

ولكن السؤال هو ماذا بعد؟.. وإلى أي مدى نحن كمصريين.. كمجتمع أبقى وأعم من الإخوان وفكرتهم وفشلهم.. قادرين على أن نبذل الجهد لكي نمنع ذبول الزرع وجفاف الضرع؟ وهل يمكن أن نعترف أن هذا التحدي فرض نفسه علينا حين ترفع عقلنا وتكبر عن أن يعرف الآخر ويتفهمه ويدرك فيما يفكر؟ وكيف يمكن أن نؤكد له أننا لسنا خصومه ولن نكون؟

 

مبتدا

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى