أحداث أسطنبول ضد أخوان تركيا

34كتب:مازن عباس 

فشل رجب طيب أردوغان في اجتياز اختبارات الديمقراطية التمهيدية، كي يثبت أن الإسلام السياسي لديه آفاق سياسية مبشرة. لكن المشكلة أن رسوب أردوغان في هذه الاختبارات لم يكن بسبب التزامه بمبادئ الإسلام، وإنما كان نابعا من تمسكه بمصالح رجال الأعمال ضد إرادة المواطنين البسطاء، ما فجر ضده سلسلة الاحتجاجات الجماهيرية.

التعليقات المصرية انطلقت استنادا لمعاناة الشارع المصري من حكم الإسلام السياسي. البعض اعتبر أن الشعب المصري الذي يواجه حكما قمعيا يمارس سياسات الاعتقال والقتل لابد أن يتعاطف مع الاحتجاجات التركية الهادفة لتحسين ظروف حياة الفرد حتى لو كانت دفاعا عن الأشجار…فيما وجد آخرون تشابها بين احتجاجات اسطنبول ومظاهرات ميدان التحرير. ولا شك أن تأييد قطاعات من المجتمع المصري لمظاهرات الأتراك يرتبط باستياء هذه القطاعات ليس فقط من الدعم الكبير الذي قدمه حكم أردوغان لنظام المرسجية، وإنما لأن الجماعة المحظورة قدمت النموذج التركي كإنجاز لتوجهات الإسلام السياسي..وذهب بعض المحللين إلى أن حراك الشارع التركي الذي يفوق حجم أزمة مشروع ميدان “تقسيم” كان نتيجة قلق الأتراك من الحكم الإسلامي، بعد أن كشفت التجربة المصرية عن عقم وفشل الإسلام السياسي. موقف جماعة الإخوان في مصر– في إطار دعمها للحليف التركي- كان تقليديا شبيها ببيانات الحزب الوطني المنحل، حيث اعتبرت أن أصابع محرضين ووكلاء مخابرات أجنبية تدخلت في التظاهرات المناهضة لحكومة رئيس الوزراء أردوغان، بهدف إثارة الفوضى وأعمال الشغب والاضطرابات بالبلاد.
ورغم أن أزمة مشروع ميدان “تقسيم” وأسلوب السلطة الحاكمة في التعامل مع الاحتجاجات الرافضة للمشروع برزا وكأنهما المفجر لتوسع الحركة الاحتجاجية، لكن انتشار المظاهرات في عدد من المدن التركية، منها اسطنبول وأنقرة وهاتاي وازمير وانطاكية والعديد من المدن الأخرى، وخروج مئات الآلاف من المواطنين إلى  الشوارع كشف عن أن أزمة نظام حزب “العدالة والتنمية” السياسية أكثر عمقا. وبعد أن تجاوزت أعداد المعتقلين نحو 3000 معتقل، تواصلت الاحتجاجات لتطالب بالإفراج عن المعتقلين ومحاسبة المسؤولين عن العنف ضد المتظاهرين، وإقالة عدد من قيادات أجهزة الأمن. ورغم اعتذار الحكومة رسميا إلا أن اتحاد نقابات عمال القطاع العام – الذي يضم نحو ربع مليون عضو- انضم إلى التظاهرات المعارضة لحكم أردوغان، وأعلنت قيادته عن إضراب عام يشمل المدارس والجامعات والمؤسسات الحكومية، وذلك ضد سياسة إرهاب الحكومة وتضامنا مع الاحتجاجات الشعبية.
حكومة حزب “العدالة والتنمية” واجهت الحراك الشعبي بنفس الأساليب التي تتبعها الأنظمة الشمولية، رغم أن حكومة أردوغان التزمت في السابق بقواعد ومبادئ الديمقراطية. ووصف رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان المتظاهرين بـ”حفنة من المخربين”، وأعلن تحديه لجموع المتظاهرين، مؤكدا أنه لن يتراجع عن مشروع تطوير ساحة “تقسيم”. واعتبر تظاهرات الشارع التركي مؤامرة خارجية، واتهم حزب الشعب الجمهوري بتنظيم هذه الاحتجاجات، معتبرا أنه يسعى لزعزعة الاستقرار في البلاد.
ولاشك أن الخطاب القديم الذي لجأ لاستخدامه أردوغان أثار استياء قطاعات واسعة في المجتمع التركي، تعارض سياسات الأسلمة، وسياسة التضيق والاضطهاد التي تمارسها الحكومة التركية ضد الأقليات العرقية والدينية. واعتبر الباحث الفرنسى المتخصص في الشؤون التركية جون ماركو من معهد الدراسات  السياسية في غرونوبل، أن ما تشهده تركيا “ليس ربيعا تركيا” وإنما “حركات لمواطنين غاضبين وتأتى فى إطار سلسلة احتجاجات بدأت منذ عام 2009، منها الحراك الذى شهدته الجامعات عامى 2010 و2012. وأضاف أن انتشار الاحتجاجات فى عدد من المدن التركية ينتقل بالحراك المعارض من مرحلة المطالب الفئوية،.. واعتبر ماركو أن الاحتجاجات الحالية تعكس القلق الشعبى من تطور دور حزب “العدالة والتنمية” الحاكم، خاصة فيما يتعلق بصياغة الدستور الجديد فى البلاد ومحاولاته تمرير نص يستهدف ترسيخ نظام رئاسي فى البلاد، ما سيمكن أردوغان من البقاء في السلطة حتى عام 2023.
ولابد من الإشارة إلى أن تركيا حققت مكانة إقليمية وعالمية خلال العقدين الأخرين. ورغم حكم الإسلاميين فيها إلا أن الدولة التركية علمانية ديمقراطية، أسسها مصطفي كمال أتاتورك الذي تولى رئاسة البلاد بعد الحرب العالمية الأولي بعد خلع آخر السلاطين العثمانيين، وإلغاء الخلافة. ويعتبر المجتمع التركي متعدد الطوائف والقوميات، حيث يشكل الأكراد نحو 20 بالمائة من سكان البلاد البالغ تعدادهم نحو 75 مليون نسمة، فيما تصل نسبة أبناء الطائفة العلوية إلى نحو 15 بالمائة من سكان تركيا. وتراجعت نسبة المسيحيين إلى أقل من 1 بالمائة بعد المذابح التي قامت بها الدولة العثمانية ضد الأرمن والطوائف المسيحية الأخري.
وتمكن حزب “العدالة والتنمية” الإسلامي من زيادة عدد مقاعده في البرلمان بشكل منتظم، حيث حصل عام 2002 على 34 بالمائة، لتزيد عام 2007 إلى 47 بالمائة، ليحصل في الانتخابات الأخيرة عام 2011 على أكثر من 50 بالمائة من مقاعد البرلمان. ويواجه الإسلاميون في تركيا حزب كمال أتاتورك، حزب الشعب الجمهوري المعارض والذي تحول إلى مواقع اليسار منذ بدايات الألفية الثالثة، حيث حصل في انتخابات البرلمان الأخيرة على نحو 26 بالمائة من أصوات الناخبين، ليحقق تقدما عن نتائج انتخابات عام 2007 التي حصل فيها على 19 بالمائة من مقاعد البرلمان.
حكومة أردوغان نجحت في تحقيق إنجازات اقتصادية هامة للمجتمع التركي، إذ قفز الناتج القومي الإجمالي من 300 مليار دولار عام 2002 إلى 750 مليار دولار عام 2008، بمعدل نمو بلغ نحو6.8 بالمائة، كما حقق متوسط الدخل الفردي السنوي للمواطن ارتفاعا وصل إلي 330 بالمائة، ليصبح متوسط دخل الأسرة المكونة من خمسة أفراد سنويا خمسة وخمسين ألف دولار.
ولكن حتى لا يذهب البعض – ممن وضع آمالا عريضة على صعود الحركات الإسلامية في الدول العربية – بأحلام الخلافة بعيدا، فلابد أن نتوقف قليلا أمام بعض مشاهد سياسات تركيا الخارجية، لنبحث عن امتدادتها في الواقع العملي الناجز، ولعل أبرزها التصعيد التركي ضد إسرائيل بعد اقتحام الكوماندوز الإسرائيلي سفينة “مافي مرمرة” التركية التي كانت ضمن “أسطول الحرية” المتوجه إلى غزة لكسر الحصار “الإسرائيلي” عنها، ومقتل تسعة نشطاء أتراك. هذا التصعيد قابله نهوض في التعاون الاقتصادي التركي الإسرائيلي، حيث سجل حجم التبادل التجاري بين الطرفين خلال عام 2011 ارتفاعاً ملفتاً، وحققت الصادرات التركية ارتفاعاً وصل إلى 20 بالمائة، فيما ازدادت الصادرات الإسرائيلية إلى تركيا خلال نفس العام بنحو 40 بالمائة، وكان حجم التبادل التجاري بين البلدين قد وصل إلى 4 مليارات دولار عام 2010، ما دفع الأوساط السياسية الأسرائيلية إلى التعبير عن ارتياحها لتعزيز التعاون الاقتصادي مع حكومة أردوغان. ولابد من الإشارة إلي أن تركيا كانت من المعارضين لطلب فلسطين بالحصول على صفة عضو مراقب في منظمة الأمن والتعاون الأوروبي، والذي وصفه رياض المالكي وزير الشؤون الخارجية الفلسطيني بأنه طلب ارتجالي تم دون دراسة أو تحضير.
ويصعب القول إن مواقف حكومة أردوغان الداعمة للحراك الثوري في سوريا استندت إلى مواقف مبدئية، وربما كان من الأدق وصفها بأنها اعتمدت حسابات سياسية متسرعة، ونستدل على ذلك من حالة البرود التي أصابت الموقف التركي إزاء تطورات الأزمة السورية، ومن خلال علاقات حكومة أردوغان مع نظام الأسد منذ نهاية العقد الأول في الألفية الثالثة، حيث حرصت تركيا على تحسين علاقاتها مع سوريا، ووصل الأمر إلى إلغاء تأشيرات الدخول بين البلدين، كما طلبت سوريا عام 2008 من تركيا أن تتوسط بين بشار الأسد ورئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت في المباحثات، وحدث هذا بالفعل لولا أن تدهور الموقف بسبب حرب غزة. كما نفذت تركيا مناورات عسكرية مشتركة مع سوريا بعد إلغاء المناورات العسكرية مع حلف شمال الأطلسي. بل إن تركيا أصبحت مصدر الطاقة للحكومة السورية بعد قرار الحظر الذي فرضه الاتحاد الأوروبي العام الماضي، حيث تورد شركة الوقود التركية “أفيس” الديزل منخفض الكبريت من مدينة مرسين الساحلية إلى ميناء بانياس الخاضع لسيطرة الحكومة السورية. بل إن حكومة أردوغان نسيت عداءها لحقوق الأكراد وتعاونت مع مؤسسات في إقليم كردستان للحصول على نفط حقل “طق طق”، ما اعتبرته الحكومة العراقية انتهاكا لقوانين البلاد ومشاركة في عمليات تهريب لثروات العراق.
قد يرى البعض أنه من الصعب أن نلوم حكم أردوغان على هذه السياسة التي تلتزم لمصالح بلاده – بحسب رؤية حزب “العدالة والتنمية” الإسلامي – لكن هذه السياسات تكشف الجوهر البراغماتي الميكيافيللي للحكومة التركية، التي لم تنحاز إلى الثورة السورية إلا لقناعتها بأن لها مصلحة مباشرة في وصول الإسلاميين إلى  السلطة، وانطلاقا من قناعتها بأن رؤية واشنطن لإجهاض الربيع العربي عبر دعم حكومات الإسلام السياسي، هو السبيل لتحقيق أمنها المائي والقومي.
كنا ولا نزال نكرر أن مشكلة تولي الإسلام السياسي السلطة لا علاقة لها بمواقفه من بعض العادات الاجتماعية التي يعتبرها البعض ضارة أو يرى البعض الآخر أنها حرية شخصية لا يحق لأحد انتهاكها. المشكلة تكمن في أن قوى الإسلام السياسي – في الصراع الاقتصادي الاجتماعي الدائر في مجتمعاتنا- تلعب دور رأس حربة الليبرالية الجديدة والمدافع المخلص عن مصالح الاحتكارات متعددة القومية التي تسعى إلي الهيمنة على مقدرات الشعوب واستنزاف ثرواتها.

 مسيحيو مصر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى