الأخبار

رحيل المخرج توفيق صالح وجيل الأحلام

132

 

 

بدا رحيل المخرج المصري توفيق صالح في ظروف الاضطراب السياسي السائد في مصر كناية عن رحيل جيل أبداعي كانت له محاولات إبداعية ريادية وأحلام كبيرة للارتقاء بالواقع السائد منذ خمسينيات القرن الماضي وستينياته، انتهت في الغالب بإخفاقات كبيرة.

وكان توفيق صالح، الذي رحل عن 87 عاما، من أبرز ممثلي هذه الجيل في السينما، بل ومن أوضح الأمثلة عن المصير المأساوي لرموزه بين أحلامهم الإبداعية الكبيرة والإحباطات الضخمة التي واجهتهم.

لقد حمل مشهد تشييع توفيق صالح دلالة رمزية عن تلاشي أثر هذا الجيل في مشهد الحاضر المأزوم. وعبر عن ذلك غياب الكثير من نجوم السينما المصرية التي قدم لها بعض أهم أفلامها عن جنازته، ومجيئها في وقت تشهد فيه مصر ذروة أزمة سياسية كانت بذورها في مرحلة الستينيات والسبعينيات، التي قدم فيها صالح أبرز نتاجاته التي حملت بذور وعي نقدي مبكر لمآلات المجتمعات العربية المأزومة.

لقد حمل صالح أحلامه بمنجز إبداعي سينمائي واقعي نقدي مميز إلى أبرز دول المنطقة، بيد أنه في كل مرة كان يصطدم بتحجر الأنظمة السياسية ونزوعها الدعائي وقيودها الأيديولوجية الصارمة، التي لا تحتمل نزوعه الإبداعي الحر ووعيه النقدي غير المدجن.

ولد توفيق صالح في مدينة الإسكندرية عام 1926 لأب كان يعمل طبيبا، ودرس في كلية فكتوريا، التي درس فيها في المرحلة ذاتها المفكر إدوارد سعيد والمخرج يوسف شاهين، وقد ارتبط بالأخير بعلاقة صداقة وتنافس إبداعي لعقود.

حصل على البكالوريوس في الأدب الإنجليزي من جامعة الإسكندرية عام 1949، قبل أن ينتقل إلى باريس في بعثة لدراسة السينما في مطلع الخمسينيات.

ولم يكمل صالح دراسته الأكاديمية في باريس، بل انشغل عنها بتثقيف نفسه قراءة ومشاهدة في السنوات الثلاث التي قضاها هناك، وقد قال لي في حديث شخصي إن دراسته الحقيقية للفن السينمائي كانت في مواضبته على مشاهدة ودراسة كلاسيكيات السينما العالمية وأبرز نتاجاتها الإبداعية في السينماتيك الفرنسي.

بعد عودته إلى مصر تعرف على نجيب محفوظ الذي إهتم بهذه المرحلة بالكتابة للسينما، وكتب له سيناريو فيلمه الأول درب المهابيل المنتج عام 1955، وكانت تلك فاتحة صحبة طويلة بينهما في ما عرف بـ شلة الحرافيش من أصدقاء الأديب الراحل الحائز على جائزة نوبل للآداب.

قاد محفوظ توفيق صالح إلى عالم الحارة المصرية، عبر قصة الحب بين شاب يعمل عند مصلح دراجات هوائية (شكري سرحان) وفتاة مغرية (الممثلة برلنتي عبد الحميد) يسعيان للزواج ويحاولان إدخار نقودهما القليلة لشراء غرفة الزواج، ويشتريان بطاقة يانصيب يرميها والد الفتاة الشيخ لأنها حرام، فتنتهي في يد قفة مجنون القرية الرائي والأقرب إلى صورة الدرويش المجذوب في التراث الصوفي، وهي شخصية ظلت تتكرر في العديد من الأعمال الدرامية والأدبية المصرية لاحقا.

ويكتشف أهل الحارة فوز تلك البطاقة بجائزة اليانصيب، ليشتعل صراع عبثي داخل الحارة من أجل المال، يستثمره توفيق صالح لتقديم عبثية الواقع، والصراع الدموي على المال والنفوذ وعلاقات القوة فيه.

يعترف صالح بتأثير نجيب محفوظ عليه في هذا الفيلم الذي قدم معالجته السينمائية الأولى له فأعاد نجيب محفوظ كتابتها، كما يعيد إليه في إحدى مقابلاته الصحفية جذور تلك المعالجة الواقعية التي إمتاز بها الفيلم.

لم يحقق فيلم صالح الأول هذا أي نجاح تجاري كما هي الحال أيضا مع أعماله اللاحقة، رغم الاحتفاء النقدي اللاحق بها، وظل عاطلا عن اخراج الأفلام حتى عام 1962، حيث منحه المخرج عز الدين ذو الفقار فرصة لإخراج فيلمه الثاني، الذي حمل عنوان صراع الابطال عن سيناريو لعبد الحي أديب وتمثيل شكري سرحان وسميرة أحمد.

في صراع الابطال عالج صالح المواجهة مع واقع الجهل والفقر والتخلف عبر حكاية الطبيب شكري الذي يحاول أن ينقذ القرية التي يعمل فيها من وباء الكوليرا، ليخوض معركة ليس مع المرض حسب بل مع تحالف الفقر والجهل والإقطاع وبيروقراطية الدولة المتخلفة.

قدم صالح هذا الفيلم في قالب ميلودرامي، وبرر ذلك لاحقا بأنه حاول استثمار القالب الفني السائد آنذاك في الأفلام المصرية وتحميله مضامين جديدة.

في عام 1966، عمل توفيق صالح على إخراج فيلم المتمردون عن قصة لصلاح حافظ، ومثل أدوراه ممثلة المفضل في هذه المرحلة شكري سرحان إلى جانب حمدي أحمد وتوفيق الدقن.

في هذا الفيلم حاول صالح أن يلجا إلى بنية رمزية لتقديم نقد حاد للواقع المصري في المرحلة الناصرية، التي تواءم في بداياته مع شعاراتها، وبدأ هنا افتراقه الواضح عنها.

يقول صالح في تصريحات صحفية إنه حاول في هذا الفيلم التعرض لإخفاقات الثورة ، وتدهور الوضع السياسي في مصر بعد أحداث حرب اليمن بيد انه لجأ إلى الترميز المكثف والإشارة إلى أن الاحداث تدور في مرحلة سابقة لتمرير نقده.

وقد استعار صالح كناية عن هذا الواقع إحدى المصحات الواقعة وسط الصحراء، التي ينقسم مرضاها إلى نوعين أحدهما نخبة مرفهة تنعم بالمال والرعاية والعلاج، والنوع الثاني الذي يمثل الأغلبية محرومون من أبسط شروط العيش في هذه المصحة.

وينتهي الأمر بثورتهم واختيار الدكتور عزيز الطبيب القادم إلى هذه المصحة زعيما لهم بعد استيلائهم على المصحة، بيد أنهم يفشلون في ادراتها وتقضي السلطات على تمردهم.

وقد اصطدم صالح مع الرقابة المصرية التي طلبت حذف العديد من مشاهده ولم يعرض الفيلم إلا في عام 1968.

في عام 1967 اعتمد توفيق صالح على قصة لصالح مرسي في تقديم فيلمه السيد البلطي من تمثيل سهير المرشدي وعزت العلايلي.

وفي هذا الفيلم يغوص صالح في عالم صيادي الأسماك في مصر، مفككا، كعادته، علاقات القوة وتمثيلاتها في هذا العالم، عبر حكاية الصياد عبد الجواد الذي يشتري مركب صيد يعمل بماكنة بخارية ويسيطر على سوق صيد السمك، ومحاولة السيد البلطي جمع الصيادين الصغار معا في نوع من الشركة التعاونية لمواجهة احتكاره.

على الرغم من هذا الحل الجمعي، حاول توفيق صالح لاحقا التأكيد على أنه ركز في هذا الفيلم على نقد التعلق ببطل فردي وتحويله إلى اسطورة، قد تنتهي بعجزه في النهاية عن مواجهة المشكلات المتعددة التي تواجه، وقد تحمل هذه الخلاصة نقدا مبطنا لمسار النموذج الناصري في مصر، حاول صالح التلميح بذلك وإن لم يشر إليه صراحة.

وانتهت مرحلة توفيق صالح الأخراجية المصرية بعودته إلى الأديب الكبير توفيق الحكيم واخراجه لروايته الشهيرة يوميات نائب في الارياف ، التي صدرت طبعتها الأولى عام 1937، وكتب السيناريو للفيلم الكاتب المسرحي الفريد فرج ومثل فيه توفيق الدقن وعبد العظيم عبد الحق.

يعود صالح هنا واقع الفقر والظلم في القرية المصرية عبر يوميات وكيل نيابة شاب يعمل في الريف المصري ويعرض عبرها تحالف الظلم الطبقي ومنظومة الفساد الإدارية وواقع الفقر والجهل والتخلف في الريف المصري.

إذ يعجب وكيل النيابة بجمال ريم، الفلاحة الشابة التي يحاول الجميع استغلالها، في سياق تحقيقه معها كشاهدة في جريمة قتل، ثم تصبح لحظة اكتشاف جثتها طافية في الترعة إلى جانب صناديق الانتخابات المزورة كشفا لهذا التحالف بين الإدارة الفاسدة ورموز واقع الاستغلال والجهل في القرية.

وقد واجه هذا الفيلم مشكلات أكبر من السابق مع الرقابة، حركتها مشكلة شخصية مع وزير الداخلية حينها شعراوي جمعة الذي طلب من صالح فيلما دعائيا عن الشرطة مقابل إطلاق الفيلم فرفضه صالح، مما دفع الوزير إلى اختلاق مشكلات له وعرض الفيلم على لجان متعددة في الرقابة والداخلية والاتحاد الاشتراكي، وقد طالبت الرقابة حينها بحذف أكثر من 16 مشهدا من الفيلم.

بيد أن الفيلم عرض لاحقا بشكل كامل وبدون حذف بأمر شخصي من الرئيس المصري جمال عبد الناصر الذي شاهد الفيلم وأعجب به.

انتقل صالح في بعد ذلك للعمل في سوريا، حيث أخرج هناك فيلمه المخدوعون عن قصة رجال تحت الشمس للكاتب الفلسطيني غسان كنفاني التي تحكي وفاة ثلاثة فلسطينيين اختناقا عند محاولتهم التسلل إلى الكويت في صهريج بحثا عن المال والاستقرار.

وقد عرض هذا الفيلم في مهرجان كان الدولي عام 1972 كما فاز بجائزة مهرجان قرطاج وجائزة لينين للسلام في مهرجان موسكو عام 1973، وظل يمثل حتى الآن أحد أفضل الأفلام التي تناولت القضية الفلسطينية في السينما العربية.

لكن تجربة إخراجه لم تخل من مشكلات مع الجهة المنتجة وهي المؤسسة العامة للسينما في سوريا.

وبعد قضاء أربعة أعوام في سوريا، انتقل صالح للعمل في العراق حيث تعاقد على التدريس في دورة تدريبية لمخرجي التلفزيون، ثم عمل مدرسا في قسم السينما بأكاديمية الفنون الجميلة ببغداد، التي قضى فيها 11 عاما، كما اخرج هناك فيلمه الأخير الايام الطويلة الذي تعرض لهجوم شديد لتقديمه قصة حياة الرئيس العراقي السابق صدام حسين ومحاولته اغتيال رئيس الوزراء العراقي عبد الكريم قاسم في عام 1959.

وكانت تجربة صالح في العمل في هذا الفيلم مرة، بين الانتقادات التي واجهها بسبب عمله فيه، واشتراطات العمل وتقييداته الصعبة، وبين حلمه في تلك المرحلة بتأسيس شركة سينمائية ينتج من خلالها أحلامه السينمائية وكان يظن أنه سينال التمويل اللازم لها من السلطات العراقية بعد هذا الفيلم.

بعد هذه التجربة انقطع صالح عن الإخراج السينمائي، ولم يقم بإخراج أي فيلم في بلده مصر التي عاد اليها عام 1984، ولم يجد حسب تعبيره أي شركة سينمائية تتيح له تجربة انتاج فيلم جديد.

احتار صالح الصمت ولم يقدم أي فيلم سينمائي جديد في العقود الثلاثة الأخيرة، حتى مجال السينما التسجيلة التي ترك لها عددا من الافلام حملت لمسة ابداعية مميزة كما هي الحال مع فيلمه التسجيلي فجر الحضارة عن آثار الحضارات العراقية القديمة، وافلامه التسجيلية المبكرة في الخمسينيات كفيلمه عن العرائس .

وعلى الرغم من مكانته الإبداعية الريادية في مسيرة السينما العربية وأفلامه المميزة التي لا تخلو أي قائمة لأفضل الأفلام العربية منها، كما هي الحال مع اختيار أربعة من أفلامه هي درب المهابيل و صراع الأبطال و المتمردون و يوميات نائب في الأرياف ضمن قائمة أفضل مئة فيلم في تاريخ السينما المصرية التي أعدها نقاد ومخرجون بمناسبة مئوية السينما المصرية عام 1996، ظل صالح غريبا في أوساط صناعة السينما المصرية ولم يحظ في العقود الاخيرة بفرصة تتناسب مع مكانته الأبداعية الكبيرة، كما بدا غير متوائم جدا مع الاشتراطات الإنتاجية الرخيصة السائدة في المشهد السينمائي الذي تغلب عليه النتاجات التجارية.

وعن غربته تلك قال صالح في إحدى مقابلاته أنا غريب، غريب وهذا قدري. يعني أنا داخل مجتمع أقبله ولكنه لا يقبلني. ماذا أعمل؟ .

لقد حمل توفيق صالح معه غربته تلك، بل قل اغترابه، وأحلامه ومشاريعه السينمائية واخفاقاته، بوصفه آخر جيل الأحلام الأبداعية والآيديولوجيات الكبيرة، وترك لنا آثاره في الأجيال السينمائية اللاحقة سواء تلك التي درست مباشرة على يديه أو تأثرت بمنجزه الإبداعي، لتسيير على الدرب ذاته في مواجهة واقع تتكاثر أزماته وقيوده.

 

مصراوى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى