الأخبار

احمد الصاوى يكتب:محمود عوض

21

قلت لك: «ستموت وحدك».. ابتسمت فى هدوء وصعدت ببصرك شاخصا إلى السماء قبل أن تسألنى: «الفرق كبير؟».. كنت تتساءل عن جدوى الموت وسط ضجيج الأهل ونهنهة الأصدقاء، وكنت أعرف أن الوحدة «اختيارك» الذى يتسق مع شخصيتك الزاهدة.

 

كنت مبهرا فى اتخاذ المواقف التى تكرس استغناءك وتعزز استقلالك، وعندما كنت أبدى انبهارا بتجربتك، كنت ترد بإحساس أب ومعلم يخشى على تلميذه من الفتنة: «العزلة فى غير أوانها انسحاب»، وأنت لم تكن يوما فى حياتك منسحبا أو مغادرا موقعك، كنت تقاوم بوحدتك وتتشبث بعزلتك، مؤمنا بصحة رهانك الذى لم يخب يوما.

 

كنت تعرف أنك ستبقى حين يسقط الآخرون فى درك النسيان، وكنت تؤمن بأنك ستستمر بعد أن تغادر روحك، كنت تبنى اسما يعيش فى خلود لا ينتهى إلا مع الصيحة الأولى، وتترك من خلفك تلاميذ ومريدين وتابعين يتوارثون ما تركت جيلا وراء جيل، دون أن يتناقص الإرث أو يفقد توهجه وفوائده.

 

ظلوا يتساءلون عنك فى دهشة.. يتأملون نهايتك فى استغراب، لا يعرفون أنها كانت النهاية التى تريد، بكل تفاصيلها الدقيقة (الوحدة.. والمكان.. والوجهة.. وطريقة الاستلقاء)، يقولون إنك وجهت وجهك شطر مكتبك ثم احتضنت أوراقك واستلقيت فى هدوء وصمت دون أن تزعج أحدا.

 

أَوَلم يكن كل ذلك متوقعا؟! لا تحاول أن تقنع أحدا بأنك لم تخطط لذلك. أتذكر حين مازحتك ذات يوم حين أجهدت نفسك فى البحث عن مقعد لى وسط أكوام الأوراق والكتب التى اصفر ورقها وتحنط، وطلبت منى أن أخدم نفسى وقلت: «أنا عارف مكانى.. دبرلك أنت مكانا تحط فيه الكرسى»، وكان ذلك عقابا لى حين قلت لك: «ستنهال عليك هذه الأوراق ذات يوم وستموت أسفلها دون أن يشعر بك أحد».. وساعتها كان ردك حاملا من الحكمة والسخرية حين قلت: «يبقى وفرت عليكم الكفن».

 

قلت لك: «تعيش وحدك.. وتموت وحدك» مثل أبى ذر الغفارى، كنت زاهدا وراهبا وصاحب موقف مثله، ضحكت ضحكة ممزوجة بسعال معتاد، كان دمعا يترقرق خلف جفنيك لم أفهم منه هل كانت تأتيك لحظات تشعر فيها بقدر من الندم على سنوات الوحدة وليالى العزلة الطويلة، كدت أسألك «لكى يطمئن قلبى» لكن سؤالى قبل أن يخرج، كنت تعاجلنى بسؤال يعيد إلىّ اليقين: «وهل مات أبوذر»؟

 

كنت تعرف أن الموقف أبقى.. وكلمة الحق لا تنسى.. والعمل الصالح يجلب لصاحبه التقدير فى الدنيا والدعم فى الآخرة، وكم تركت من كلمات طيبة وصدقات جارية بين سطور كتب.

 

أرادوا قلمك.. أخرجوك من «جنة المؤسسة»، لكنك تدثرت بموهبتك، وصنعت لقلمك مؤسسته الخاصة.. واليوم.. أفتش فى ذاكرتى عمن أخرجوك فلا أجد أحدا.. أبحث عن ذكرى لمن حاربوا موهبتك من أجل أموال ومناصب، فلا أجد شيئا.. أشاهد من ضاقوا بموهبتك وحاربوها بانحياز بالغ إلى «أنصاف وأرباع» المواهب، فأجد الهزيمة واضحة على وجوههم.

 

صديقى الكبير محمود عوض فى ذكرى رحيلك الرابعة أتذكرك بسطور عمرها من عمر غيابك بالجسد أتذكرك وما نسيتك لأنى الأحوج إلى الذكرى: «تعيش وحدك وتموت وحدك».. وغالبا ستبقى بين كل هؤلاء وحدك.. فأنت أجدر بالبقاء وأحق.. «فأما الزبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث فى الأرض».

الشروق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى