ذهب المعز…وسيفه…وأستفتاؤه

هناك مروية تاريخية شهيرة أن المعز لدين الله الخليفة الفاطمي الرابع الشهير كان في مجلسه مع مؤرخ مشهور وعدد من أكابر رجال الدولة، فسأله المؤرخ عن نسبه (إلى علي وفاطمة رضي الله عنهما، ذلك النسب الذي يطعن فيه خصومه)، فلما سمع المعز هذا السؤال إلتفت بهدوء إلى المؤرخ، ونزع سيفه إلى نصف غمده ليلمع في وجه محدثه، وقال: هذا نسبي، ثم امسك بصرة من الدنانير وألقاها إليه وقال: هذا حسبي، فقال المؤرخ: أنعم به من حسب ونسب !!، أو قال: سمعنا وأطعنا، (أو كما قالوا)، وخرجت مثلًا شهيرًا عن إخفاء الحقيقة بذهب المعز وسيفه ! . ولقد كتب الأستاذ جمال سلطان مقالة أورد فيها إجتهادًا هامًا بشأن الإستفتاء، وإستعرض فيه الفرص الحسابية لرفض الدستور، واصلًا في النهاية لقناعة أن هناك فرص جيدة أمام التيار الإسلامي للمشاركة في الإستفتاء ورفض الدستور وبالتالي إثبات أن الشعب يرفض الإنقلاب، مما سيعد سقوطًا سياسيًا له. والحق أن هذا الإجتهاد الحسابي الهام يحتاج لمناقشة موسعة، لكنني أكتفي بطرح نقاط عامة – كإجتهاد شخصي- وأقول أن نتائج الإنتخابات والإستفتاءات المتعاقبة أثبتت أن معادلة القوة الناخبة لكل فريق لا يمكن النظر إليها بإعتبارها معادلة من الدرجة الأولى، بل هي من الدرجة الثانية أو الثالثة، حيث أثبتت تلك التجارب أن القوة الناخبة لها ثلاث نطاقات على الأقل، (العماد) او (Core) الذي يصوت لتياره في مختلف الأحوال، وهناك المتعاطفون الذي يمكن أن يتغير تصويتهم تبعًا للمزاج العام أو الإعلام، وهناك غير الجازمين الذين لا يحددون إلا في اللحظات الإخيرة، وغذا تحدثنا عن التيار الإسلامي كمثال، فإن الفوارق بين الإنتخابات النيابية والرئاسية لا يمكن قراءتها إلا في ضوء أن مجموعة من النطاق الثاني رأت أن اداء الإسلاميين سيئ فتحولت !!، ومجموعة من النطاق الثالث رأت أنها يمكن أن تعطي (بتوع ربنا) في الإنتخابات النيابية، لكن الرئاسة تحتاج شخصية قوية (رجل عسكري)، فهؤلاء كانوا (إسلاميين) في الإنتخابات التشريعية و(عسكريين) في الإنتخابات الرئاسية طالما لم يفرز تيارهم شخصية كارزمية !!، وهناك مجموعة أعطت الإسلاميين في التشريعية واعطت شفيق في الرئاسة من باب التوازن وعدم الإستحواز (من وجهة نظرهم) !!، وبدون تلك التراكيب من الدرجة الثالثة لا يمكن تفسير التفاوتات بين الإنتخابات المتقاربة بسهولة. ولو جئنا إلى الإستفتاء الحالي فهناك كتلة المصوتين (بنعم) دومًا من أجل الإستقرار، هذه الكتلة أقدرها ب 10%، كانت مع دستور 2012، وستكون هذه المرة مع دستور 2013، وهناك التشتت بين الرفض والمقاطعة سحب أصواتًا من جبهة الإنقاذ في المرة السابقة وسيسحبها هذه المرة من مؤيدي الشرعية، كل هذه العوامل وغيرها تحتاج أن تؤخذ في الحسبان في الإجتهادات الحسابية. لكن الأهم من ذلك – في رأيي – أن واقع النظام الجديد بعد 3 يوليو لا يجعل لأي إستفتاء أو إنتخابات معنى أصلًا، فالإستفتاء أداة من أدوات الحكم الديموقراطي لمعرفة رأي الشعب، وهي تحتاج إلى نظام مفتوح يطلق الحرية للناس ليستطيعوا الإطلاع والمعرفة، ومن ثم إتخاذ القرار، أما في الأنظمة الدكتاتورية، ناهيك عن الفاشية التي هي أعلى مراتب الدكتاتورية كما في نظام 3 يوليو الحالي الذي يشن حملة إبادة سياسية عبر إغلاق منابر المعارضة وسجن سياسييها وإلغاء أحزابها أو شلها – بل وحملة إبادة جسدية عبر القتل والجرح والسحل والسجن- فعن اي إستفتاءات نتحدث ؟!!، وكيف يمكن أن يتسنى معرفة رأي الشعب الحقيقي إذا كانت السلطة تحول بين فريق سياسي وبين الشعب عن طريق إغلاق منابره الإعلامية وسجن سياسييه ومنعه من التظاهر والتنكيل به قانونيًا عبر الأحكام المشددة، وفي الوقت ذاته تسخر أجهزتها الإعلامية الحكومية والخاصة وتطلق لها العنان في حملة فاشية لتخوين المخالفين لهم في الرأي وإقصائهم تمامًا من الحياة السياسية بل ومن الواقع، بداية من (إحنا شعب وإنتم شعب)، ومرورًا بكلمة عدلي منصور الذي يدعو فيها المخالفين (للإنضمام للركب) !!. إن الإستفتاء أداة من أدوات النظم الديموقراطية لمارس الشعب حكم نفسه بنفسه، وإستخدامه في المنظومة الدكتاتورية يكون لتجميل وجه النظام، تمامًا مثل البرلمانات والإنتخابات في الدول الشيوعية، ومثل دولة ألمانيا الشرقية حين أتخذت لنفسها إسم (ألمانيا الديموقراطية)، وظلت تحمل هذا الإسم حتى النهاية، دون أن تمارس الديموقراطية يومًا !!، إذا كنت تريد إستفتاء حقيقيًا إفتح منابر المعارضة وأعد قنواتها الفضائية، وأطلق الساسة المسجونين ليظهروا في تلك القنوات ويناقشوا الدستور وينخلونه نخلًا، واسمح للمعرضة بعقد اللقاءات الجماهيرية، ثم حدثني عن الإستفتاء !، وقد يقول قائل: فلماذا كانت المعارضة تشارك في إنتخابات وإستفتاءات عهد مبارك ؟!، والرد بسيط، وهل هذا مثل عهد مبارك ؟!، إنه مثل عهد الستينات (وأسوأ)، وإستفتاؤه مثل إستفتاءات الستينات، (وما أدراك ما الستينات)، وهل يحتج أحد اليوم بإستفتاءات الستينات أو يراها معبرة عن الديموقراطية ؟!!…يا سادة، إن إستفتاء المعز تمامًا مثل ذهبه وسيفه، أداه لإخفاء الحقيقة وليس لإظهارها.
المصريون