الأخبار

أنا وأصدقائي المفتحين

66

 

 

حالفني الحظ خلال الفترة الأخيرة في التعرف على عدد كبير من شباب لديهم إعاقات مختلفة سواء بصرية أو حركية أو عقلية، ومن الطبيعي أنك في بداية التعامل معهم تتخذ بعض الاحتياطات لتجنب مضايقتهم أو التسبب في إحراجهم دون قصد.

إنما اكتشفت بعد فترة أن هذا الصديق يحترس هو الآخر بشكل أكبر عندما يتعامل مع شخصيات تعتقد أنها مبصرة، فهو يبذل مجهودا حتى لا يجرح معاقا مثلي يظن أنه يرى كل شيء. وخلال السطور التالية سأروي لكم عددا من المواقف التي أنقذني فيها أصدقائي المفتحين.

المهندس (و.ز.)، في آواخر الثلاثينيات من العمر، يعمل مبرمجا لبرامج الكمبيوتر ومطورا لمواقع الإنترنت بالإضافة إلى الترجمة بحكم دراسته بقسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب. أول تعارف لنا كان من خلال اتصال هاتفي بغرض تحديد موعد مقابلة، بادرني بالسؤال: “ما هو أقرب مكان لك لنتقابل هناك”؟، وجدته يصف عدة مناطق مثل العباسية والتحرير وحدائق القبة بدقة متناهية، حتى اتفقنا على اللقاء أمام الباب الرئيسي لمسجد الفتح بميدان رمسيس، كان أغلب ظني وقتها أنه يمتلك سيارة أو معه مرافق، ولكنه فاجأني بحضوره منفردا وزادت دهشتي أكثر عندما سرد لي خط سيره منذ صباح ذلك اليوم في عدة أماكن بالقاهرة تحرك فيها بمفرده، وعرفت بعد ذلك أن هذا هو أسلوب حياته منذ سنوات معتمدا فقط على العصا الخاصة بالمكفوفين وبالطبع بعض الإرشادات من المارة.

كنت وقتها في حيرة من طريقة السير معه، فبادرني بالقول: “تحرك بطبيعتك وأنا أسير على حسب خطواتك، ورجاء لا تقل لي إن أمامنا رصيفا أو سندخل يمينا أو يسارا، فأنا أشعر بخطواتك وانظم اتجاهاتي وفقا لها”.

نزلنا إلى محطة المترو وكان اندهاشي المتكرر لمقدرته الشديدة على حفظ الاتجاهات تحت الأرض، ودار بيننا حوارا مطولا حول برمجة الكمبيوتر وخبراته في المجال، إلى أن وصلنا إلى نقطة محددة فتوقف فجأة وأشار لي بأنه سيذهب إلى اليمين بينما يجب أن اتجه إلى اليسار ليذهب كل منا في طريقه، نظرت حولي فوجدتنا بالفعل أمام مفترق طرق، فودعته في سلام ولساني لا يتوقف عن ذكر الله وحمده على ما اكتشتفه في ذلك اليوم، ولا تسألوني عن قدرته على أداء أعماله فمثل هذه الشخصية إذا اتيحت له الإمكانيات قد يذهب في رحلة إلى سطح القمر بمفرده ويحقق نجاحات مذهلة.

لا يعتبر (و) هو الكفيف الوحيد الذي يستخدم الحاسب الآلي، فصديقي الآخر (ر.م) الموزع الموسيقي ومهندس الصوت، الشاب الثلاثيني الذي من هواياته العزف على البيانو والأورج والفلوت والحاصل على بكالوريوس التربية الموسيقية بتقدير إمتياز، عندما تجلس معه في الاستوديو الخاص به تتعجب من قدرته على التعامل مع هذا الكم الهائل من الأجهزة والمفاتيح، فأمامه جهازي كمبيوتر وصوت وآلة الأورج وطابعة ورق بالإضافة إلى كم هائل من الأسلاك، تجده يستخدم جميعهم بمهارة فائقة.

لم أصدق في البداية أنه يتمكن من التعامل مع جميع هذه الأجهزة دون مساعدة من أحد حتى قدم لي تجربة عملية بنفسه، عندما اجلسني أمام الميكروفون وقام بعمل بعض عمليات المونتاج لصوتي.

يتمتع (ر) بقدرة كبيرة على التركيز في تفاصيل الأمور، وحاسة سمع شديدة الدقة يستخدمهما في التعامل مع البرنامج الصوتي للكمبيوتر وباقي أدواته بمهارة فائقة.

يتفق مع (ر) في العزف على آلة الأورج صديقان آخران هما (هـ. م) و (ش. ش)، كلاهما يعزف ويغني، وكلاهما له هواية خطيرة نسبيا وهي قيادة السيارات، يكفي أن تجلسهما على مقعد السائق وتوجه السيارة في مكان مفتوح حتى تستعيد أمامك مشهد الشيخ حسني في فيلم الكيت كات أثناء قيادته الدراجة البخارية.

وفي زيارة إلى قاعة “طه حسين” بالمكتبة المركزية لجامعة القاهرة ستجد أمامها معرضا لصور ولوحات فنية لمناظر طبيعية وأماكن أثرية، جميع تلك الأعمال من إبداع طلبة مكفوفين. وبمجرد دخولك القاعة ستجد أمامك ( ط . ش) مشرف المكان وهو كفيف أيضا، سيشرح لك كيفية التقاط تلك الصور واستخدام المصور لخياله في تحديد ارتفاع وأبعاد وزوايا التصوير اعتمادا على المعلومات التي يحصل عليها من المرافقين.

تقدم القاعة للطلبة المكفوفين خدمة التدريب على استخدام الكمبيوتر حتى يستفيدوا منه في الدراسة وخاصة أداء الإمتحانات، للتخلص من عيوب المرافق في اللجنة مثل الخط السيء أو عدم فهمه لطبيعة المواد مما يؤثر على النتيجة النهائية للطالب الكفيف. كما توفر المكتبة للطلبة، وبأجر رمزي، خدمة طباعة المواد العلمية المقررة عليهم بإستخدام طريقة الحروف البارزة التي ابتكرها الفرنسي لويس بريل.

هناك فنانون نجحوا في تحدي الظلام ورسموا بأناملهم لوحاتا فنية تثير النفوس، منهم صديقي والسبب الرئيسي في التعرف على معظم النماذج السابقة، إنه (أ. ن) الفنان التشكيلي الذي يمكنك متابعة أعماله في متحف محمود مختار، بالإضافة إلى مهنته الأساسية كمرشد أثري للمكفوفين بالمتحف المصري.

أول مرة في حياتي أزور فيها المتحف المصري كانت مع (أ. ن)، وقتها طلبت منه انتهاز الفرصة لمشاهدة أثار أجدادنا، وبعد فترة من الوقت استأذنته في أن يعتبرني أحد ضيوفه ويشرح لي بنفس طريقته عند زيارة وفد للمكفوفين للمتحف، فقرر العودة إلى الباب الرئيسي للمكان حتى يبدأ الرحلة بشكل سليم. وخلال عملية السرد الشيقة للحقب الزمنية الموجودة داخل المتحف كان يتوقف لدى أهم القطع الأثرية ويقدم عنها وصفا دقيقا، وهناك بعض القطع القليلة المسموح للزائرين بلمسها فمسك يدي ومررها على التماثيل بشكل جعلني اغمض عيني وأركز مع وصفه حتى اتمكن من رؤية التمثال كما يجب أن يٌرى.

تجارب متعددة ومتلاحقة جعلتني احمد الله على نعمة الإبصار، وفي نفس الوقت أؤمن بأن النظر ليس بالعين إنما بالعقل والقلب، وبعد هذه الرحلة أرجو منك عزيزي القاريء أن تفكر في أي موقف من المواقف السابقة وتتخيل نفسك مكان ذلك الشخص، ثم تقف أمام أقرب مرآة وتسأل نفسك سؤالا بسيطا: “هل أنت كفيف أم مفتح؟”.

 

 

التحرير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى