الأخبار

سيرة شعبية عن نسب النبى فى مخطوط نادر

9

 

كنت كثيرًا ما أتساءل عن سر خلو تراثنا الشعبى من قصص وسير شعبية تسجل حياة النبى ونسبه وبطولاته ومعاركه التى خاضها صاحب الدعوة الجديدة، وهو يواجه قوى الظلام، أم أن الرواية الرسمية عقلت جناح الخيال الشعبى فلم يحلق بحرية فى هذه المجالات إلى أن جاء مخطوط نسَبَ سيرة نسَبْ النبى -الذى ظل حبيسا فى إحدى المكتبات الألمانية لسنوات طوال- ليرد على العديد من التساؤلات ويقدم نصا شعبيا يتناول تأصيل نسب النبى إلى أغوار سحيقة من الزمن تصل به إلى آدم عليه السلام، بحثًا عن السطور المفقودة فى حياة أجداد النبى وتنقب عن الشخصيات الثانوية كى تكتمل الحبكة الفنية تخليدا لبطولات أخرى تحتذى البطولة المثالية من ناحية، وتأخذ على عاتقها الإبقاء على شعلة الدين الإسلامى متوهجة من ناحية أخرى، وبخاصة فى الظروف التاريخية التى يكون فيها الإسلام مهددًا، والدولة الإسلامية مهددة فى تناول يمزج بين الحقيقة والخيال، لتحرره من قيود التاريخ وصرامته وانطلاقه فى رحاب الإبداع الفولكلورى بشكل واضح وصريح.

 

الملاحظ أن إفراد سيرة شعبية حول نسب النبى تجسد رد الفعل التخيلى للجماعة الشعبية لطبيعة نبوة محمد، وتأكيدًا ليقين تلك الجماعة الشعبية المسلمة أنه هو من تاقت إليه الأمم، وترقب الجميع من أهل الكتاب مقدمه البهى، بناء على نبوءات شاعت فى الجزيرة العربية.

 

نجد أن مخطوط (سيرة نسب النبى صلى الله عليه وسلم) ينسب إلى مؤلف مجهول، فالرواية نفسها تتكون من طبقات أدبية تشبه تلك الطبقات الجيولوجية، بسبب أن الرواة الذين تناقلوها شفاهًا كانوا باستمرار يعدلون ويزيدون أو يحذفون من الراوية الأصلية، تلبية لحاجة جمهور المستمعين، حتى تم تسجيل الرواية فى أحد أشكالها على صفحات المخطوط.

 

وحين نتصفح مخطوط سيرة نسب النبى كما وصلت إلينا يمكننا أن نلمس بوضوح النسبة إلى المجهول فى أكثر من مكان، ممَّا يشير إلى أنها خرجت من إطار الدقة التى يتمسك بها المحدثون فى أحاديثهم، ولا شك أن عدم التمسك بمعايير علم الحديث فتح الباب لشىء من الخيال، وأضاف سمات بنائية أقرب إلى الأدب الشعبى منها إلى القالب الحديثى المحكم، يمكننا أن نرصد ملامح سيرة نسب النبى على النحو التالى:

 

تبدأ السيرة النبوية قبل ميلاد النبى صلَّى الله عليه وسلم بالحديث عن آبائه وأجداده، وتتحدث عنهم جيلًا بعد جيل، ومن المعروف أن التاريخ الإسلامى بدأ بوضع هيكل -وإن كان قصصيا- لتاريخ النبوة منذ بدء الخليقة حتى ظهور الإسلام وقد اضطلع بهذا الدور الكثير من الكُتاب فى مقدمتهم وهب بن منبه (654 – 732م) وأمثاله، وقد تأثر بهم بعض الرواة والمؤرخين الذين جاؤوا من بعده.

 

فالراوى فى سيرة نسب النبى يبدأ سيرته بقوله: «قال سعيد بن عمر الأنصارى -رضى تعالى عنه- قَالَ: حدثنا كعب الأحبار عن صفات رسول الله ونعته وشمايله وجميع أحواله من مبتداه إلى منتشاه. فأقبلنا إليه، وحلفنا بحقه عليه، وكان قد أسلم على يد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، فأجاب إلى ذلك»، ثم يذكر اسم المؤرخ البكرى (…ـ 250هـ) فى ثنايا حديثه، لتأكيد صحة ما يروى، ولعل الراوى أو الرواة، أراد أن يضفى على روايته المصداقية والجدية التى تتميز بها المؤلفات التاريخية التقليدية، فذكر هذا النص فى صدر روايته للإيهام بأنها اعتمدت على مصادر تاريخية معتمدة، ولكننا نعتقد أن هذا النص قد وضع بقصد إحداث التأثير على السامعين، وعلى الرغم من هذا فإنه من المحتمل أن يكون الراوى أو الرواة، يستخدمون أسماء مؤرخين حقيقيين للإيهام بصدق ما يُروى.

 

والواضح أن (مخطوط سيرة نسب النبى) قد نهل من كتب المؤرخين التى قامت على أساس من الصرامة التاريخية، ولكنه مع مرور الأيام، وتعدد الرواة، وانتقال النسب والسيرة بالرواية الشفوية، دخل على السيرة الكثير من عناصر الخيال الشعبى وتعانق الوعى واللا وعى، واحتوت صفحاتها قدرًا من الحقيقة وقدرًا من الخيال، وزاد كل راو من عنده على القصة ما تفتق عنه خياله، ولعل هذا ما جعل الذهبى (1274-1348م) يقول عن البكرى إنه «واضع القصص التى لم تكن قط» وينعته بالكذاب الدجال.

 

السيرة الواقعة فى خمسة تستهل الجزء الأول -الذى انتهينا من تحقيقها وتروى قصة حياة الرسول على النمط الشعبى وصولا إلى زواجه من السيدة خديجة رضى الله عنها والمتوفاة عام 619. والمنسوب إلى أبى الحسن أحمد بن عبد الله بن محمد البكرى، وتاريخ نسخها سنة ١١٧٠ هـ- تبدأ بذكر نَسَب النبىِّ حتى آدم عليه السلام، فإذا وصل إلى إسماعيل تمهل، وذكر أولاده واحدًا واحدًا، حتى نصل إلى عبد المطلب الجد المباشر للنبى صلَّى الله عليه وسلم، ثم والده: عبد الله، وأمه: آمنة، مبيِّنًا سلسلة النسب، وعلو الآباء الذين ينحدرون من سلالة نبوية، باعتبارهم أولاد إبراهيم عليه السلام، مع ذكر القصص المثيرة التى تجعل السيرة جذابة ومشوِّقة، كصراع شيبة الحمد مع اليهود، والحماية الربانية له وهو طفل، وكيف واجه اعتداء اليهود عليه بجسارة، وتنتهى السيرة فى الجزء الأول مع قصة قسم جد النبى صلَّى الله عليه وسلم (شيبة الحمد الملقب بعبد المطلب) بأن يذبح أحد أولاده إذا هو أنجب عشرة أولاد، فقد رأى حين اشتدَّ عود أبنائه أن يَبِرَّ بقسمه، فذهب لمَن يضرب بالقداح، وهى شىء أشبه بالقرعة فى زماننا، لكنهاa كانت شيئًا مقدَّسًا، يظنون أن الآلهة هى التى تقوم بالاختيار فيها، ووقعت القداح على عبد الله من بين كل الأبناء، وحينئذٍ رفض القرشيون ذبح عبد الله، وبحثوا عن مخرج من هذه السنة التى لو اتبعها الناس لأفنوا أولادهم، وانتهى أمرهم بأن أشاروا على عبد المطلب بأن يذهب لكاهنة فى الحجاز يبحث عندها عن مخرج، ولم يجد عبد المطلب الكاهنة، بل أخبروه أنها تقضى بعض حاجتها، وحين قابلها وبات ليلته عندها أصبح ليجد لديها الحل.

 

وخلال هذا كله نكاد نلهث من حيوية الراوى وقدرته الفائقة على الانتقال من حادثة إلى أخرى، تجعلك مشدودًا إلى أحداثها، منفعلاً بها، متعاطفًا مع أبطالها، أو مدهوشًا بمواقف هؤلاء الأبطال وحركاتهم، لتجد نفسك كقارئ/ مستمع بشكل من الأشكال، مشاركًا لأبطال هذه السيرة فى أحلامهم وطموحاتهم ومعاركهم مع اليهود، لأنهم يحققون لك -على مستوى الحلم والتخيل- ما عجزنا عن تحقيقه فى واقعنا العربى البائس أو المحُبط. تجعلنا فى شوق وتلهف عما قد نجده عندراوى سيرة نسب النبى فى الجزء الثانى. إنها قصص مثيرة، ذات طابع فنى، قادرة على الجذب والتشويق بصرف النظر عن أى شىء آخر.

 

ولا تَقِلُّ أمهات النبى شرفًا عن الآباء، إذ يصفها الراوى بأنها «فأودعها الكرام الأصلاب، والطاهرين الأنساب»، «وميثاقى ألا تودعه أنت وأولادك الأخيار إلا فى الأصلاب الطاهرة والأرحام الزكية» «فقال يعقوب: بخٍ بخٍ لم يكن الله يجرى هذا النور الشريف إلا فى الفتيات العربيات». وعمومًا فإن الحديث عن آباء النبى وأجداده يهدف بالدرجة الأولى إلى تعظيم أصله من ناحية أبويه.

 

تدور النبوءات حول البطل قبل ولادته لتضفى عليه طابعًا غير عادى منذ اللحظة الأولى لوجوده فى هذا العالم وترتبط السيرة بالخوارق من قبل أن يُولَد عليه السلام، وتسبق ميلاد النبى نبوءة تبين أن المولود القادم سيكون له شأن عظيم، يقول الراوى «قال كعب الأحبار: فمن حينئذ عرفت الملايكة فضل محمد قبل خلق آدم بعشرة آلاف عام. فلما خلق الله آدم سمع من أسارير جبهته نشيش كنشيش الذر. فقال: يا رب ما هذا الذى أسمعه؟ قَالَ الله تعالى: يا آدم هذا تسبيح نور محمد خاتم النبيين، وإمام المرسلين، وسيد ولدك أجمعين، فخذه يا آدم بعهدى، وميثاقى ألا تودعه أنت وأولادك الأخيار إلا فى الأصلاب الطاهرة والأرحام الزكية».

 

وفى موضع آخر يقول الراوى: «ونشأ عبد المطلب بين عمومته فى الحرم، وهو فى كل يوم يزداد حسنًا، وجمالا، وكمالا، وبهاءً، ونورًا، وتباركت به قريش. وكان إذا نابها نائبه، ووقعت بهم واقعة يتوسلون به إلى الله تعالى، فيكشف الله تعالى عنهم ما قد اعتراهم. وإذا قحطوا كانوا به يستسقون، فيسقون، كل ذلك إجلالا وإكرامًا لنور سيدنا رسول الله، وصارت العرب كلها إذا مرض أحد منهم يتوسلون إلى الله تعالى بنور رسول الله فيعافى الله تبارك وتعالى مريضهم، بيركة أنوار نبيه».

 

ويتتبع الراوى مسيرة نور النبى فى السيرة خطوة فخطوة، ويسوق أحيانًا بعض الرؤى التى صاغها الخيال لتكون نبوءة بولاية العهد وميثاق الأنبياء متمثلا فى نور النبى: «فانطلقْ من وقتِكَ هذا إلى شجرة الوعد، فنم تحتها، وافعل ما تؤمر به فى منامك. فرد قيذار باقى الغنم إلى أماكنها، وأقبل إلى الشجرة، فنام فى أصلها، فأتاه آتٍ فى المنام. وقال له: يا قيذار. اعلم أن هذا النور الشريف الذى فى وجهك هو نور من لا خلق الله -تعالى- جميع الموجودات إلا لأجله».

 

وترتبط طفولة البطل دائمًا بكَسْر المألوف، فإذا كان بطلًا مقاتلًا وجدناه يأتى بأفعال تدل على الشجاعة، وإذا كان بطلًا روحانيًّا وجدناه يأتى بأفعال تدل على طابعه الروحى.

 

ومن نماذج البطل الشجاع فى طفولته شيبة الحمد ومواجهته اليهود ومنازلته لفرسانهم لوحده وبراعته فى حمل قوس إسماعيل والضرب به.وتتوالى الأخبار، لكن الراوى لا يقوم بتقسيم السيرة إلى أبواب أو فصول، أو أى تقسيم يراعى وحدة الموضوع ويجمع المتشابهات معًا تحت عنوان واحد. ومعظم الأخبار فى سيرتنا ذات طبيعة واقعية لا خيالية، وهى تتعلق بكل تفاصيل انتقال النور المحمدى من نبى إلى آخر ومن وريث إلى الذى يليه حتى يصل فى الجزء الأول إلى عبد الله بن عبد المطلب والد النبى. وكأن الراوى يشير إلى ضرورة أن يكون بطله سليل أسرة عريقة، تجرى فى عروقه الدماء النبيلة الطاهرة النقية.

 

ولا بد أن نضيف إلى نسب النبى سمة مهمة ترتبط بالطبيعة العربية، وهى سمة الاستشهاد بالشعر، ففى كل مناسبة نجد أحد الأبطال المساهمين فى الحدث يلقى شعرًا حول المناسبة، وسواء أكان هذا الشعر قيل أم لا ممَّن يُنْسَب له، فالمهم أن الجمع بين الشعر والنثر يُعتبَر سمة من سمات السيرة.

 

أما اللغة فهى لغة لا تكلُّف فيها ولا صنعة، بل هى لغة مرسلة فيها الطبيعة العربية المناسبة للعصر النبوى. ولا تزال السيرة النبوية حتى اليوم تحتل مكانة رفيعة بين المسلمين فى أنحاء الدنيا، بل لعلها من أوسع الكتب انتشارًا بعد القرآن الكريم، وهذا يدل على قدرة فن السيرة على التأثير. الأمر الذى يوضح إلى أى مدى انشغل الوجدان الجمعى بسيرة النبى التى ظلت سيرته أبرز شخصية أساسية فى الآداب الشعبية العربية لكونه البؤرة النورانية المباركة، التى يلتقى عندها العديد من فنون الأدب الشعبى، والواضح أن الكثير من الروايات التى صاغها الوجدان الشعبى حول سيرة النبى ظلت مجهولة إلى الآن لدى كثير من عامة المسلمين، إذ تزخر المكتبات الأوروبية بالعديد من المخطوطات العربية التى تروى سيرة النبى الأكرم برؤية شعبية.. وهى مخطوطات تأتى على قدر كبير من الأهمية توضح لنا مدى انشغال العامة بسيرة نبيهم الكريم ورؤيتهم له وصياغتهم لتاريخه الزاخر. وكيف هى أعمال تمزج بين الأدب والتاريخ فى تركيزها على البطل المنتظر. وهى مستوى من مستويات انشغال الثقافة العربية بالبطولة والقادة لا يقل شأنا عن غيره. ومن هنا تأتى أسباب اختيارنا لمخطوط (سيرة نسب النبى صلى الله عليه وسلم) والذى يساعدنا على رصد ملامح السيرة النبوية فى المخيال الشعبى الذى أعاد إنتاج النسب النبوى بشخصيات رئيسية وأخرى ثانوية وفرعية بحثا عن أصول تاريخ بطله الأعلى (الرسول صلى الله عليه وسلم) الذى كثيرا ما يمحو فواصل تاريخه بين الحقيقة الموضوعية والحقيقة المتخيلة وقد يحتاج فى بحثه المستميت عن الحقيقة إلى ترميمات لا يقربها منه إلا المتخيل الذى يرتكز على القرابة مع التاريخ.

 

وهو ما يدفعنا إلى إدراك حقيقة مهمة حينما نتعامل مع التاريخ من موقع السيرة الشعبية، وهى أن كل حقيقة تاريخية ما أو غير تاريخية تخبئ وراءها حقيقة أو حقائق لا يقولها المؤرخ أو التاريخ، وهذا المجهول تذهب نحوه السيرة الشعبية دون سوابق للحفر بعمق والبحث عن إجابات هى نفسها لا تعرفها سلفًا ولكن تنشئها من نظمها، وقد يلبس الراوى قناع المؤرخ مؤقتا أو بشكل أدق قناع القارئ المحترف للتاريخ الذى يحفر بعمق فى الأشياء بحثًا عن إجابات لفرضيات تشغله، ويحاول أن يجد مكانا فى الأشياء المنسية فى صلب التاريخ، وهو ما تحقق فى سيرة نسب النبى، وحين اختلف المؤرخون على النسب بعد عدنان بدأ دور الراوى الشعبى متقنعًا بقناع المؤرخ وقام بمحو الحدود والفواصل ليؤسس لعالم ينتقى فيه التاريخ كحقيقة وتحيل السيرة بذلك إلى ذاتها على الرغم من حفاظها على بعض علامات التاريخ كإحالات ومراجع إيهامية فى الأغلب الأعم تقرب القارئ أو السامع من عالم هو يعرفه أو يحسه أى التاريخ الذى لم يعد تاريخًا بالمعنى العلمى للكلمة بل ترك ثوابته وصرامته عند عتبات السيرة الشعبية، وللأسف لم نعير هذا التاريخ قيمته الحقيقية، ولم نبرز دلالات ما حمله من أخبار وحكايات لا نزال نرفضها فى البحث التاريخى، ولا نعتمد عليها رغم أنها كانت هى التاريخ الذى يصدقه آلاف وآلاف من الناس -عامة وخاصة- والتى كانت هى التاريخ الذى عاش ولا يزال يعيش عليه الكثير ممن يفوقون قراء الكتب العلمية عددا وإيمانا بصدق التاريخ!

 

الدستور الاصلى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى