الأخبار

الغوغاء قادمون!

18

 

 

بالمصادفة حدث حوار بينى وبين زميل صحفى عِشرة عمر من كبار محبى الرئيس الأسبق حسنى مبارك، الذين طالتهم بركاته وعطاياه، وكنا فى مناسبة اجتماعية، فإذا به يقول: ثلاث سنوات مرت منذ رحيل مبارك عن الحكم أثبتت أن المصريين لا يستحقون من هو أفضل منه!

نظرتُ إليه نظرة ساخرة.. ولم أردّ، فثمة أقوال وتصرفات يصعب الرد عليها من فداحة الخطأ أو الغباء الساكن فيها.

وخلال شهور طويلة بعد ثورة ٢٥ يناير وما أعقبها من فوضى عارمة فى كل جنبات الحياة المصرية كنت أسمع تقريعا مكثفا ولاذعا من مصريين على كل المصريين: بلطجة وفوضى وعدم نظام واستهتار ونطاعة وكسل.. إلخ، أرض زراعية تجرَّف فى ظل أزمة طعام، وعمارات تنتصب فى كل مكان دون تراخيص، وميادين مهمة وشوارع تُحتل بالباعة الجائلين والبلطجية، وسواقو ميكروباص يفرضون سطوتهم على الطريق، وتكاتك ماشية على مزاجها بلا لوحات، ناس تسبّ وتشتم فى خلق الله.. ما كل هذا الانحطاط؟ شعب ينتحر ولا يستحق إلا ما هو فيه؟

وكان يدهشنى أن عددا كبيرا من الذين يطلقون هذه الصفات هم من «عِلية القوم»، وبعضهم كان عضوا فى الحزب الوطنى غير المأسوف عليه.

كنت أحيانا لا أرد.. فكيف يمكن الرد على كلام فى منتهى العنصرية والجهل؟

المهم بعد أن غادرت المناسبة الاجتماعية عاد الحوار مجددا عن تصرفات وسلوكيات المصريين العامة، وانهال أحدهم بـ«التقطيع» فيهم ولم يترك نقيصة أو عيبًا دون أن يلصقها بهم.

رفعت يدى معترضا بشدة وقلت: هذه عنصرية بغيضة وجهل بطبائع الإنسان، الإنسان ابن نظامه العام وبيئته، المصريون يدفعون ثمن إهمال السلطة والمجتمع لهم طوال أربعين سنة تقريبا، وحان الوقت ليعاقب هذا الشعب نخبته السياسية والاقتصادية والاجتماعية عما اقترفوا فى حقه، بأن يصعّب عليهم حياتهم ولا يجعل الدنيا سهلة أمامهم يستمتعون بما اغتصبوه منه. لقد تركت الحكومة الناس تحل أزمة السكان بالبناء على الأرض الزراعية، ومشكلة الإسكان بأن يعيشوا فى المقابر والعشوائيات القبيحة، ويهربوا من البطالة بالتوك توك والميكروباص وفرش البضائع على الأرصفة والميادين.. إلخ، وإياكم أن تتصورا أن هذه الحلول «الفاسدة» اجتماعيا واقتصاديا ليس لها آثار جانبية حادة وطويلة المدى! القبح ليس مجرد زبالة فى الشوارع، أو أحياء معدومة الخدمات الإنسانية، أو عيشة معزولة فى أماكن نسمع عن أحوالها السيئة ولا نعرفها، القبح فى جوهره هو العنف، عنف فى الألفاظ والحركات والتصرفات الفردية والسلوك العام، والذين يعيشون تحت خط الفقر أو مناطق عشوائية أكثر من الذين يعيشون فى أحياء الطبقة المتوسطة التقليدية فى القاهرة والإسكندرية والمنصورة وأسيوط وعواصم المحافظات، العشوائيات ليست مبانى ومناطق، لأنها تتحول تلقائيا إلى قيم وأخلاق وسلوكيات.. وقد تركت السلطة غالبية الشعب المصرى ليعيش فى ظروف صعبة للغاية تجبره على الانحرافات السلوكية.

وأيضا لم يقم رأس المال المصرى «رجال أعمال وأصحاب مشروعات وأثرياء» بالدور الاجتماعى المنوط به فى حماية المجتمع من عوادم سوداء عنيفة وشاذة بالضرورة سوف تتكاثر فى هذه البيئات اللا إنسانية، الطيبون من رجال الأعمال مهتمون بالعمل الخيرى الذى هو أشبه بالتبرعات للشحاذين، لم يفكروا فى مشروعات كبرى تعيد «الآدمية» إلى بعض العشوائيات، لم يضغطوا على الحكومة ضغطًا دائما وملحًّا لإصلاح أحوال هؤلاء الذين تركناهم للشر، هل هناك أشر من الفقر والقبح والعشوائيات؟

لقد تصورتم خطأ أن العشوائيات لم تنزل فى ثورة ٢٥ يناير، أو كنتم تظنون أن القادم ثورة جياع ولم تحدث، العشوائيات نزلت فعلا بصور مختلفة، وهى التى تحكم الشارع الآن.

أرجوكم لا تغضبوا من هؤلاء الناس الذين نالوا كثيرا من الأذى، سواء من الدولة بإهمالها لهم كما لو أنهم أولاد حرام ألقت بهم على الأرصفة، أو منكم، بالهروب من أولاد الحرام وعدم مد يد العون والرحمة إليهم، وكان واجبا عليكم مراعاتهم، خصوصا أن الثروة فى مصر غالبا هى من صناعة السلطة والدولة، وتخصيص إراضٍ وعقارات ومشروعات، واستيراد لها وتعاون معها.. باختصار هؤلاء المواطنون لهم حقوق «معنوية» على أصحاب الثروة كبناء مدارس ومستشفيات ومرافق وتوفير خدمات ثقافية.. وليس توزيع أضحية وملابس وطعام.

هذا ليس تبريرا ولا قبولا للتصورات الغبية العنيفة المنحطة المنتشرة فى شوارعنا، ولكن محاولة لفهمها حتى نعرف كيف نتعامل معها دون أن نُدين بقسوة الذين يرتكبونها، فنحن جميعا شركاء فيها.

سألنى أحدهم: والحل؟!

أجبت: نظام عام عادل وكفء، ولم نفعل حتى الآن.. ولن تنحسر هذه التصرفات إلا به، وهى مجرد موجة أولى منهم، فلا تدفعوهم إلى ما هو أسوأ.

 

التحرير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى