ميدان التحرير و(الحرية) .. 150 عاماً من التاريخ الحي

بعد سُبات دام لعقود طوال، استيقظ من كان يسلم بالأمر الواقع، عازمًا على الحركة والانتفاض، واحتشد الجميع ملبين النداء، كانت الوجهة هي الميدان “ميدان التحرير”، حيث ظل الثوار قابعين مصممين على البقاء دون الرجوع حتى يتم تنفيذ مطالبهم.. وبالفعل سقطت رأس الطغيان.
ذهب الجميع إلى هناك، يستشعرون أهمية التواجد في هذا الميدان، ولكن القليل منهم من يعرف التاريخ الحافل بالطاقة الثورية لهذا الميدان منذ بداية إنشائه فيما يقارب 150 عاماً.
عندما شرع الخديوى إسماعيل فى تخطيط القاهرة الإسماعيلية، استقدم المعماري الفرنسي “هاوس مان” ليضع تخطيطا عمرانيا حديثاً للقاهرة ليجعل منها باريس على ضفاف النيل، وقتها كانت المنطقة تسمى منطقة الأزبكية الواقعة من بركة الأزبكية وحتى شاطئ النيل. وكان ميدان التحرير قطعة أرض فضاء مليئة بالمستنقعات تملأها مياه النيل كلما فاض.
وعندما تم الانتهاء من التخطيط لمدينة القاهرة أنشئ الكورنيش وأقيمت الكبارى، حتى تم ردم هذه المنطقة وتم تقوية وكسوة الضفة الشرقية لنهر النيل، ليحاكي الميدان في تصميمه ميدان شارل ديجول الذي يحوي قوس النصر في العاصمة الفرنسية باريس. وسمي وقتها بميدان الإسماعيلية. وعندما أقيم كوبرى الخديوى إسماعيل وهو “قصر النيل” الآن أطلق على الميدان “ميدان الكوبرى”.
طاقة ثورية كبيرة اختزنها هذا الميدان، وتجد البعض يقول: “سأذهب إلى الميدان لأجدد طاقتي معه”!
مرت أحداث عديد ومهمة بهذا الميدان، فمنذ أن دخل الإنجليز للقاهرة سبتمبر 1882م بداية الاحتلال. اتخذوا من ثكنات الجيش المصري المطلة على الميدان مقراً لجنوده.
بعدها شهد مظاهرات الطلبة عام 1935م المطالبة بالعودة دستور 1923م والتي خرجت من جامعة فؤاد الأول “جامعة القاهرة”، وعبرت كوبري الإنجليز “الجلاء” ثم كوبري قصر النيل متجهة إلى ضريح سعد زغلول المتفرع من شارع القصر العيني، ولكن قوات البوليس والجيش تصدت لها في نهاية كوبري قصر النيل قبل وصولها إلى ميدان الخديو إسماعيل “التحرير”، وأطلقت الأعيرة لمحاولة تفريقها. استمرت المظاهرات لمدة أسبوعين وانتهت برضوخ الحكومة الإنجليزية وإعادة العمل بدستور 1923م.
أما أكبر حشد شهده هذا الميدان في تاريخه قبل ثورة يوليو 1952 فكان المظاهرات التي خرجت يوم 14 نوفمبر 1951م في أعقاب إلغاء معاهدة الصداقة المصرية البريطانية المعروفة باسم معاهدة 1936م. وكانت القوى الوطنية قد توحدت في الدعوة إلى هذه المظاهرة التي تعلن عودة الكفاح المسلح ضد الوجود البريطاني في منطقة القناة.
وجاءت الاستجابة للدعوة بشكل يفوق كل توقع وشاركت كل طوائف المجتمع من طلبة وعمال ومشايخ وقضاة وأساتذة الجامعة حتى الأطفال، فقارب عدد المتظاهرين المليونين تجمعوا في ميدان الخديو إسماعيل ثم سلكوا شارع سليمان باشا “طلعت حرب”، ثم شارع فؤاد “26 يوليو” حتى وصلوا إلى ميدان عابدين حيث قصر الملك.
وفي 25 يناير 1952 وقبل قيام الثورة بستة أشهر شهد ميدان التحرير حريق القاهرة الذي أدى إلى احتراق عدد هائل من المباني التاريخية الأثرية مثل فندق شيبرد القديم.
وبعد اندلاع الثورة، أقام اللواء محمد نجيب هيئة تسمى “هيئة التحرير” لينضم إليها المصريون، بدلاً من الأحزاب السياسية، وأقيم “مهرجان التحرير” بمناسبة مرور 6 أشهر على الثورة، وقبل انطلاق المهرجان في يناير 1953 قامت وزارة الإرشاد القومي بتغيير اسم الميدان من ميدان الخديو اسماعيل إلى ميدان التحرير وهو الاسم الذي ظل متحفظا به حتى الآن.
وبعد العدوان الثلاثي على مصر تحول الميدان إلى مكان التجمع الرئيس للمصريين للحشد والتطوع ضد الاحتلال في بورسعيد نوفمبر 1956.
وفي عام 1964 شهد ميدان التحرير انعقاد أول مؤتمر قمة عربي في مبنى الجامعة العربية الذي أصبح أحد المعالم الرئيسة للميدان.
وعندما قرر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر التنحي عن منصبه بعد نكسة الهزيمة في 5 يونيو من ذلك العام انطلقت حشود هائلة من الناس إلى الميدان ترفض قرار التنحي وتتوجه منه إلى مقر إقامة عبد الناصر في منشية البكري لإثنائه عن التنحي 9 يونيو 1967.
وأيضاً شهد الميدان مظاهرات عارمة من الطلاب والشباب ضد الأحكام التي صدرت ضد المسئولين عن هزيمة 1967 وطالبوا بالمزيد من الحرية والديمقراطية مما دعا عبد الناصر إلى إصدار ما سمي ببيان 30 مارس 1968.
وبعد أن تولي السادات الحكم، وبالتحديد في يناير 1972 شهد الميدان أكبر المظاهرات الطلابية من جامعة القاهرة ضد أنور السادات. فقد قام الشباب سيرا على الأقدام من الجامعة إلى كوبري عباس وحتى شارع القصر العيني متهمين السادات بالنكوص بعهده في شن حرب إسرائيل ردا على عدون 1967.
وفي أكتوبر 1973، وبعد عام واحد من الثورة ضد السادات، شهد الميدان من جديد حشد كبير ولكن هذه المرة لتحية السادات بعد حرب 1973، إلا أن نفس هذا الميدان عاد وثار مرة أخرى ضد السادات في ما سمي بثورة الخبز في 18 و19 يناير 1977، عندما تم رفع عدد كبير من السلع الأساسية جعلت الكل يثور في حالة هياج وكان ميدان التحرير هو الشرارة الأولى.
وعندما اندلعت الحرب ضد العراق وتم غزو بغداد في إبريل 2003 اشتعلت المظاهرات، وكان ميدان التحرير هو أكبر تجمع للمظاهرات.
وظل الميدان ساكناً لعدة سنوات وكأنه يختزن الغضب استعداداً للانفجار الكبير، مع أول ثورة مصرية “مكتملة” في 25 يناير 2011.
البديل