الأخبار

الحديد يتكلم!

 

 

289

 

 

عندما ظهر الراديو فى مصر منذ عدة عقود اعتبره البعض علامة من علامات يوم القيامة! صرخ هؤلاء: اقتربت الساعة.. «الحديد يتكلم». ولو أنك راجعت ما كتبه المبدع الراحل «نجيب محفوظ» فى «الثلاثية» فسوف تلاحظ ذلك المشهد الذى كانت السلطانة «زبيدة» تتحدث فيه إلى كمال عبدالجواد بعد أن زحف بها العمر وتبدلت أحوالها وتقول له: الفلوس على أيامنا كانت ذهب حقيقى وعلى أيامكم ورق.. وكان الغناء من دم ولحم وليس من خشب وحديد.. تقصد بذلك «الراديو». كان ذلك إحساس بعض من ينتمون إلى الجيل الذى عاصر نشأة الإذاعة. وفى تقديرى أن هذا الإحساس ارتبط بالنشأة الأهلية للإذاعة. فزمان كان هناك محطات يطلق عليها «المحطات الأهلية»، وقد اختلف الأمر كثيراً بعد تأسيس الإذاعة المصرية رسمياً عام 1934.

قبل هذا التاريخ عرف المصريون المحطات الإذاعية الأهلية (بداية من عام 1925). وقد كانت ظاهرة فريدة وعجيبة فى تاريخ الإعلام المصرى والمصريين، إذ كان من السهل على أى فرد يريد أن يطلق محطة بث إذاعى أن يفعل، ويجعل منها ميكروفوناً يردح فيه لغيره أو تردح فيه لغيرها، إذا غضبت «أم عبده» من «أم محمد» ما أسهل أن تنشئ إحداهما أو كلاهما -إذا توافر المال- محطة لتسلق غريمتها بلسان لا يقل حدة عن «المبرد»! مثلاً ما أسهل أن تقول الأولى: «يا اللى كل ولادك ملزوقين على قفاهم»، فترد عليها الثانية: «لسانك طلع يا اللى كل الحتة متبرية من عيالك». كان خطاب الإذاعة الأهلية أقرب إلى خطاب «الحيشان» (جمع حوش)، وكان بعض التجار يبثون الإذاعات لمجرد الإعلان عما لديهم من بضائع، لكن هذه الظاهرة أخذت فى تصحيح نفسها وبدأت رحلة العلاقة الحميمة بين المواطن المصرى والراديو.

فالمصرى شأنه شأن كل الأوادم، كثيراً ما يخشى الجديد لا لشىء إلا لأنه «جديد». فهكذا الإنسان دائماً أسير العادة، يرتاب دائماً فيما يجدّ على حياته حتى يطمئن إليه، وحين يصل إلى عتبة الاطمئنان فإنه يلقى بنفسه فى أحضان هذا الجديد عندما تثبت قيمته فى حياته. هكذا وقع المصريون فى غرام ذلك الصندوق السحرى عندما وجدوه يصدح بآيات القرآن الكريم، ويصل إليهم فى البيوت بالمطربين الذين يعشقون الاستماع إليهم، ويحكى لهم قصصاً من الواقع والتاريخ، شغفوا بكل ما هو مقدس وأيضاً بما يستثير خيالهم فيما يقدمه من مواد، ربما كانت حميمية العلاقة تتراجع فقط عندما يهبط الراديو من فضاء الخيال إلى ضيق الواقع الرسمى، فيحدِّث المواطن عن أخبار الواقع الذى يعيش فيه، أحياناً ما تكون هذه الأخبار محل تصديق، وأحياناً ما يكون مصيرها التكذيب. تعوّد المصرى ألا يمنح شيئاً أو شخصاً «صكاً» على بياض إلا عندما يطمئن. وكل جديد لديه دائماً ما يبقى محل شك حتى يكسب ثقته، والثقة دائماً ما ترتبط فى الوجدان المصرى بالتجربة، مصداقاً للمثل الشعبى الشهير «تعرف فلان.. أعرفه.. عاشرته.. لأه.. يبقى ما تعرفوش»!

 

الوطن

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى