الأخبار

بالصور: بين 14 دولة و6 ساعات سباحة..

 

53

جمعتهم أرض مطار عمان بالأردن قدرا، كما احتضنتهم الحياة بسوريا دون خيار. شابان الفارق العمري بينهما قليل، كل منهما كانت له حياته الهانئة، أحلامه، طموح بمستقبل أفضل، قبل أن تعصف بهما نيران الحرب في بلادهم مثل ملايين السورين، ولا تدع لهم سبيل سوى الفرار إلى المجهول، غير أنهم اتخذوا سبيل مغاير، لفظا قوارب الموت، ليس كرها لكن لقلة المال، وألقوا بأنفسهم إلى البحر، مستقبلين وجهته دون وسيلة إلا أيدي وأرجل، ونفس يقاوم لأخر لحظة وسط أمواج عاتية لنحو 6 ساعات، كانت أهون عليهما من قرية مدمرة لقاها “هشام معضماني” في داريا، وساحل حفه شبح الاعتقال الأسود أبصره “فراس أبو خليل” في اللاذقية.

قبل ثلاثة أشهر، تفتقت لـ”أبو خليل” فكرة الذهاب إلى أوروبا، وكذلك “معضماني”، الحياة في الأردن باتت مستحيلة “كل شيء غالي وما كانوا يسمحوا لنا بالشغل” كما يقول “أبو خليل”، فيما تحمل رفيقه العشريني البقاء 6 أشهر من مجمل عامين للحصول على جواز سفره، الذي احتجزته السلطات الأردنية دون سبب، ولزم لاسترجاعه دفع 400 دولار لسمسار، حسب قوله.

استنفذ الشابان أموالهما، كلاهما لن يتمكن من دفع نحو 1000 دولار لاستقلال قارب مطاطي ينقلهم من تركيا –مسرى الرحلة، إلى اليونان، فضلا عن 2000 دولار للوصول إلى بلد أوروبي، لذا دفعت الحاجة “أبو خليل” إلى استغلال ما يتقن “بسكن بساحل اللاذقية بيتي جنب البحر فالسباحة بالنسبة لي شيء عادي”، بحث الرجل عن كل شيء، إلا رفيق له بالرحلة، لكنه جاءه صدفة؛ تعرف على “معضماني” في مطار عمان، حدثه عن السفر سباحة، ظنه “معضماني” يمزح، لكن الأمر كان جديا، فما لبث أن تحمس طالب الحقوق لمشاركة الرجل الثلاثيني المغامرة، التي لم يسمع أن سبقهما أحد إليها.

+¦+ê+¦+¬ 1

من شاطئ cesme “سيسمى” بأزمير في بتركيا، كانت نقطة البداية، في تمام التاسعة والنصف ليوم الأربعاء 17 يونيو 2015 انطلقا الرفيقان، البداية كانت مرعبة لكل منهما، الخوف يسري بالعروق، الظلام حالك، التلة المفترض الانطلاق منها مرتفعة، الماء شديد البرودة على عكس المتوقع، خاض صاحب فكرة الرحلة زمام المبادرة، قفز متحديا ما يعتريه، ومحفزا لصديقه، ثم تبعه “معضماني” وهو يمُعن النظر إلى الماء “حسيت حالي أني هموت هلا وهاي لحظاتي الأخيرة بالعالم”، تلك المرة الثالثة له للسباحة في البحر منذ كان صغيرا، فيما كانت أقصى مسافة قطعها “أبو خليل” نحو كيلو متر واحد، غير أنه لا بديل عن قطع 8 كيلو متر للوصول إلى جزيرة chios “خيوس” اليونانية.

ملابس للسباحة “شورت وسترة نجاة وزعانف”، كيس بلاستيكي يحمل أخف الأشياء وأثمنها “جواز السفر، هاتف محمول” وزاد “معضماني” عليها “ليزر” يساعدهم في الإشارة لمكانهم، وحذاء حمله على كتفه، أملا في ارتدائه لحظة الوصول إلى الشاطئ، فضلا عن قطع شكولاتة كطعام وقليل من الماء، وما تبقى من أموال 1300 دولار لـ”معضماني” و2000 دولار لـ”أبو خليل”، كان ذلك زاد الشابين طيلة الطريق، الذي تجنبوا فيه المراكب والبواخر المبحرة “لو شافونا هيرجعونا لتركيا تاني”.

+¦+ê+¦+¬ 2

عبر خرائط “جوجل” كان اعتماد الشابين في معرفة طريقهم، لذا استندا لما ظهر من وجود جزيرتين مهجورتين بالطريق، وقررا أن تكون وجهة الاستراحة، خاصة بعد التعب الذي شعر به “معضماني” في البداية، حتى أنه أخذ على رفيقه عهدا “لو توقفت كمل بدوني.. المهم حد فينا ينجح”، لكن بعد قطع 50 متر شعر طالب الحقوق بإمكانية المواصلة حتى أول جزيرة، التي تبعد نحو 3 كيلو متر، وعندها كانت المفاجئة الأولى؛ لن يستطع الشابان الانتظار “الجزيرة صخرية.. أصوات الطيور كانت فوق راسنا فكرتنا جثث فاستوحشنا نتوقف فيها” يقول “معضماني” عن استراحتهم الأولى بالرحلة، التي كان الحذر أخر شيء بها.

نحو ثلاث ساعات استغرقها الشابان حتى اكتشاف مفاجئة أخرى “الجزيرة التانية عالية متل حائط مافينا حتى نتسلقها”، قُتل الأمل في الحصول على شيء من الراحة، حتى في أعماق البحر، بالرحلة المجهولة المعالم، لم يعد سبيل لديهم، سوى النوم على الماء، كلما شعرا بتشنج عضلات أيديهما وأرجلهما من السباحة.

ظلام دامس، أمواج عاتية تدفع الشابين، تيارات بحرية جعلت لزاما عليهما تناوب السباحة، فيتوقف أحدهما ليعرف أيتقدمون بالطريق أم يعودون للخلف، بين كل ذلك لم يكن سوى نقطة نور، تضيء النفس، تؤنس الوحشة، تمنح قبلة الحياة للمواصلة، وهي وجوه الأهل الذين غادروهم على أمل اللقاء مرة أخرى، فـ”أبو خليل” لم ير زوجته وولديه منذ ثلاثة أشهر، تركهم في عُمان حتى يجد بلد أمن يجمعهم، و”معضماني” غادر والدته وأخيه الصغير منذ أكثر من ثلاثة أعوام، ذهبت هي إلى لبنان، فيما حمل هو اسم لاجئ بـ13 دولة عربية وأجنبية.

على بطنهم وظهورهم وكافة الأشكال التي تمكنهم من المضي قدما، تابع الشابان رحلة الثمانية كيلو متر، التي كانت بالنسبة لهما بمثابة عُمر، يأتي القدر فيه بشيء من اللطف الخفي، ما يربط به على كتف الغرقى في بحر اليأس والخوف؛ فبينما يسبح “معضماني” على ظهره، بعد تجاوز الجزيرة الأولى المهجورة، وكل شيء مجهول بالنسبة له، الوقت والمكان، أمعن النظر إلى السماء “رأيت النجوم والشهب.. كان أجمل شيء شوفته بحياتي”، حفظ الشاب ابن الرابعة والعشرين من العمر المشهد في ذاكرته، أعانه مع صديقه الذي يصفه بأنه منذ ذلك الوقت “صرنا متل الأخوة”.

+¦+ê+¦+¬ 3

“أبو خليل” كان القائد في المسيرة، التي يوقن كلاهما أنها “رحلة موت”، عزيمته الأول كانت تدفع “معضماني” للمواصلة، ترشده للأفضل بالنسبة لهما “كانت الجزيرة الأولى بعيدة فظهرت باخرة قلت له أشاور لها بالليزر”، غير أن “أبو خليل” أخبره أنهما لازالا في حدود المياه التركية، وأن ذلك سيعيدهم لنقطة الصفر، كان نِعم الرفيق لتجاوز المخاطر، الثبات حين ترتعش النفس بضياع الأمل “بعد الجزيرة التانية تفاجئنا أن الشاطئ اليوناني لسه بعيد”، غير أن روح ابن اللاذقية الخبير بالبحر، شجع رفيقه على استكمال الطريق، وأخبره أنهما بإمكانهم النجاح.

في غضون الثالثة فجر يوم الخميس 18 يونيو 2015، صارا الشابان في محيط المياه اليونانية، كيلو واحد يفصلهما عن ساحلها، غير أن الأمواج لازالت تعاندهم، تدفعهما حينا، وتعيدهما حينا أخر، وما كادت طاقة المقاومة أن تنفد –بعد 6 ساعات كاملة من السباحة- حتى لمحا ضوء أحمر يأتي عن يسارهما من باخرة، هنا قررا طلب المساعدة، وجاء دور “الليزر” ذو الـ3 يورو بحوزة “معضماني”، كانت دقيقة واحدة صدر بها الضوء نحو السفينة -قبل أن يتلف بفعل الماء، كفيلة بلفت نظر الركاب إلي السابحين في عرض البحر، فانتشلوهما، لتبدأ رحلتهما الجديدة بالبر.

+¦+ê+¦+¬ 4

“خطوة من عشر خطوات” كذلك يصف “معضماني” وصولهما إلى اليونان، فمنها لم يتوقف العرض على نقاط الشرطة، لمعرفة هويتهما، كما لم يتوقف السير البالغ أدناه 5 ساعات، وقدره “أبو خليل” بنحو 120 -140 كيلو متر متقطعة؛ تورمت الأقدام، تشققت، نزفت الدماء على الطريق، لكنهم لم يتوقفوا، ما كان ذلك أصعب مما مرا به في البحر.

بمخيم اللاجئين باليونان مكث الشابين حتى مطلع الشمس، حينها أبصرا قدوم عائلات سورية قادمة مثلهما من البحر، نحو 40 شخص كما يقول “معضماني”، لكن ملامح الهلع والخوف كانت بادية عليهم أكثر “شافوا رعب أكتر منا” يقول الشاب العشريني، كان أول لقاء مع بني بلدتهما عجيب “فكرونا عاملين اشي جريمة” يحكي بابتسامة، فلم يكن أحدا غيرهما بالمكان قبل توافد السوريين، الذين تعرفوا منهم على 6 شباب، انضموا إليهم بالطريق.

+¦+ê+¦+¬ 5

ما بين الحصول على وثيقة 6 شهور أو مغادرة اليونان، كان الخيار الثاني الأفضل للشباب، من أثينا إلى مقدونيا، ثم صربيا “مشينا 6 ساعات تجاوزنا الجيش الصربي”، وهنا كانت نقطة انفصال الرفاق “فراس والست شباب قالوا بدهم يطلعوا مع مهرب على بلجيكا” حيث يقيم بعض أهل “أبو خليل”، فيما اتخذ “معضماني” طريقه إلى ألمانيا، بعد الوصول إلى بودابست، ليصل إليها بعد تكبد 500 يورو للوصول إلى الأمل الذي ينتظره قبل نحو 15 يوم منذ قفز بالبحر.

“الخد اللي اتعود على اللطم ما عاد يشعر” كلمات “أبو خليل” عما يمر به السوريون كان خير وصف لما لاقاه “معضماني”، بينما كادوا يصلوا إلى الحدود المقدونية، حين جلسوا للاستراحة، ففتح الشاب هاتفه، كان مستقبلا لإشارة، فقرر تفقد الرسائل عسى يطمئن على عائلته، ليتلقى أسوأ خبر في حياته “لقيت رسالة من والدتي أن أبي توفى”، ابتلع الشاب ما ذرف من دموع، كتم الأسى، كسرة النفس، بانتظار الوصول لإخباره أن بإمكانه مواصلة تعليمه، لكنه لم يبد ذلك لرفاقه، الذين هموا لاستكمال الطريق، فنهض معهم لمواصلة الطريق، متذكرا ما عاهد عليه أبيه “ستراني محاميا كما أردت”.

+¦+ê+¦+¬ 6

غادر “معضماني” سوريا وهو طالب بالفرقة الأولى بكلية الحقوق، كان ذلك في 29 سبتمبر 2012، كونه من منطقة داريا بريف دمشق، جعلت الفرار بالنسبة له أمرا حتميا، أراد الشاب فقط استكمال دراسته، في وقت تطلبه به السلطات السورية للالتحاق بالجيش، الذي يقصف مدينته، بعد دفع 6000 ليره سورية لمهرب للعبور من الحواجز الحكومية تجنبا للاعتقال، وصل الشاب لوجهته العربية الأولى، في بيروت مكث أسبوع ورحل عنها “لبنان أغلى بلد في العيشة”، انتقل إلى مصر، عسى تحتضنه جامعتها، فوجد الباب موصدا أمامه “مفيش قبول جامعات ولا فرص عمل”.

لم يكن الشاب ممن يملكون حفنة من المال تمكنه من بدء أي مشروع في مصر، ليغادر إلى تركيا، غير أنه سرعان ما عاد إلى سوريا، ظن أن الحرب ستضع أوزارها، لكن خاب أمله حتى من رؤية عائلته، بوقوع مجزرة هي الأكبر في بلدته، وفي الخامس من إبريل 2013 سافر إلى الأردن، عامين كانت “الأسوأ” بالنسبة له “الأردن لا تسمح أني أخرج أزور أهلي الموجودين بلبنان ولا أهلي يزوروني”، كان ذلك بالنسبة له موت، حينها تأكد له أن لا مجال للبقاء في أي من الدول العربية، لتُكمل دول أوروبا –اليونان-مقدونيا-صربيا-هنغاريا-النمسا-ألمانيا- عدد الـ13دولة التي مر عليها “معضماني” وختمت هويته باسم “لاجئ”.

+¦+ê+¦+¬ 7

على خلاف “معضماني” كان “أبو خليل”، لم يتحمل عبء التنقل بين الدول، فمنذ غادر مدينته الساحلية في 11 يوليو 2013، هربًا من حملات الاعتقال الشعواء “اللاذقية ما فيها قصف لكن اللي ينحبس ما يتعرف مكانه”، مكث في دولتين عربيتين فقط، لبنان ومنها إلى الأردن حيث أقام عام ونصف، ليذهب عنها ويفضل رحلة المغامرة البحرية، التي ما أن انتهت بوصوله إلى بلجيكا حتى خالطت الفرحة شعور بالأسى “حسيت أني ضيعت سنتين من عمري على الفاضي”، ذلك إحساس مهندس صيانة أجهزة الكمبيوتر، بعد أن شهد حسن الاستقبال “في أوروبا بنتعامل أفضل من الدول العربية للأسف”، غير أن ضيق الحال دائما ما كان يقف حائلا بين مغادرته بشكل مباشر إلى أوروبا، التي يجد بها مستقبلا أفضل لأولاده.

رغم تفرق الرفيقين، غير أنهما يوميا على تواصل كلا في مكان إقامته الجديدة، الشعور شيئا ما بالراحة أكثر ما يهون على ابن مدينة “داريا” واللاذقية، ينتظر كل منهما حمل وثيقة الإقامة، بينما يعتصر العقل التفكير في الأهل؛ يحلم “أبو خليل” في بلجيكا باللحظة التي يضم بها أبناءه “أسامة” -7 سنوات، سامح -5سنوات، وزوجته، المتواجدين بالأردن، فيما تلمع عين “معضماني” باليوم الذي يلتقي والدته وأخيه الصغير “نور الدين” ابن الـ13 عاما، عسى يخفف عنهم وحشة الشتات، الذي ألم بأسرته “أخي مفقود في سوريا من سنة، وأخواتي البنات في السعودية”.

+¦+ê+¦+¬8

العناية الإلهية وحدها انتشلت “أبو خليل” و”معضماني” من البحر، الذي ما كان لهما مثل ملايين السوريين إلا أن يركبوا أمواجه، “لو كان معي ما يكفي كنت طلعت بالقارب متل غيري” بثقة دون تردد يقولها طالب الحقوق، وكذلك الأب العائل لأسرة تركها في بلد يبعد عنه مئات الكيلو مترات، غير أنه يزداد حمدا لله على عدم اصطحابهم معه حين أبصر صور الطفل “إيلان” ورفاقه ممن لفظوا أنفاسهم بالبحر على أعتاب الشواطئ، دون عودة لبلدهم أو حتى بلوغ حياة أمنة.

 

 

مصراوى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى