«الصح» و«الخطأ»

لأكيد أن موظفين صغارا هم الذين ارتكبوا خطأ كتابة لافتة بلغة عربية غير سليمة (خطأ إملائى) فى مؤتمر صحفى عن الانتهاء من إعداد الوثيقة الدستورية، والأكيد أيضا أن كبار الموظفين لم ينشغلوا بأمر كتابة اللافتة، لأنه أمر هامشى وصغير، ولا يرقى لمستويات أوضاعهم الوظيفية، والمهام المكلفين بها، لكن أن يتخذ السيد رئيس الهيئة العامة للاستعلامات، رئيس الموظفين الصغار والكبار، قرارا بالاستقالة من منصبه بسبب هذا «الخطأ»، فهذا هو «الصح» فى القصة كلها، فبالرغم من هامشية الواقعة، وشكلانية الأمر، فإن قرار السيد رئيس الهيئة يعكس التزامه بمسئولياته وتحمله لها بالكامل، ويكشف عن تغير جذرى فى تفكير السادة المسئولين، وأعتقد أن السفير أمجد عبدالغفار رئيس الهيئة العامة للاستعلامات، ربما قد يكون قد خسر منصبه، لكنه بالتأكيد قد ربح احترامنا جميعا، وقدم نموذجا مهما لجميع المسئولين فى ضرورة تحمل نتائج أعمال وزاراتهم أو هيئاتهم، فهذا ما ينبغى أن يكون دائما.
وإذا وضعنا الواقعة برمتها، بجوار وقائع أخرى، مثل حوادث القطارات التى تذهب بأرواح عشرات المواطنين البؤساء، فهى لا تساوى شيئا بجوارها، ولا تتشابه معها مطلقا إلا فى أن موظفا صغيرا (عامل مزلقان أو سائق قطار) ارتكب الخطأ، لكن لم يبادر رؤساؤه أبدا بإعلان تحملهم المسئولية ومغادرة مناصبهم، وإن حدث ذلك فهو يحدث قسرا بأوامر أو بقرارات من كبار المسئولين، لذا يبقى ما فعله السفير أمجد عبدالغفار أمرا محمودا ومطلوبا من كل من يتصدى لمسئولية أو وظيفة عامة، ويجب أن يصبح ذلك التصرف ثقافة شائعة، بمجرد وقوع الخطأ يعلن المسئول اعتذاره ويغادر منصبه، دون مطالبات من الرأى العام ووسائل الإعلام بفعل ذلك، أما المدهش فى واقعة خطأ هيئة الاستعلامات، أن الرئاسة حتى هذه اللحظة لم تبت فى استقالة الرجل، ولم تكشف عن الموقف الرسمى لأعلى سلطة فى البلاد، ولا أعنى بذلك ضرورة قبولها الاستقالة، وإنما ضرورة معرفة حقيقة ما حدث واتخاذ القرار المناسب بشأن ما حدث، ووفقا لحجمه وما تسبب فيه من أضرار، حتى تكون لدينا ثوابت فى التعامل مع مثل هذه المواقف.
وبالرغم من أن القصة كلها تنطلق من السلبية ومحملة بالأخطاء، فإنها فى منتوجها الأخير فى غاية الإيجابية، فأولا باتت لغتنا العربية تحظى باحترام وتقدير، وتعاملنا مع خطأ الحروف بأنه خطأ كبير يستوجب الوقوف عنده، ولم يمر مرور الكرام مثلما كان يمر دائما، وهذا يعنى أنه من اليوم سيقوم السادة المسئولون بمراجعة كل ما يكتب بأنفسهم أو التشديد على ذلك، بما يعنى أننا سنضمن انضباطا فيما نود قوله أو كتابته، وثانيا موقف السفير أمجد عبدالغفار يستحق التحية، بالرغم من خطأ موظفيه، إلا أنه صححه بالاستقالة، ففتح الباب أمام الرأى العام لانتظار استقالة كل مسئول عند وقوع مؤسسته فى الخطأ، وبينهما نلمح تغيرا حقيقيا فى الحساب عند القيام بمهامنا، ورفضنا لوقوع الأخطاء وعدم احترام الرأى العام، كل ذلك يعنى أننا دوما نرى ضوءا فى نهاية نفق مظلم نعيش فيه منذ سنوات، وأن الأفضل قادم ولو بعد حين، وهذا ما تحققه الثورة بهدوء، أو أن هذه هى المكاسب الصغرى للثورة.
الشرروق