زيارة لعالم «السيدة الطيبة» التي باغتتها جائزة نوبل!

بعيدا عن الجدل حول ما إذا كان هناك من يستحق جائزة نوبل في الأدب أكثر من أليس مونرو فإن هناك حاجة «لزيارة عالم هذه السيدة الكندية الطيبة التي باغتتها أم الجوائز الأدبية العالمية» هذا العام.
يبلغ مجموع الانتاج الابداعي لأليس مونرو 13 مجموعة قصصية فيما صدرت آخر مجموعة لها في العام المنصرم بعنوان «عزيزتي الحياة» وبدت فيها «السيدة الطيبة» كأنها تتحدث حديث الوداع في نهاية حياة مديدة في الظلال.
فهي تجتر الذكريات في هذه المجموعة وتستعيد ايام الصبا والبراءة الأولى في الريف وتتحدث عن والدها ووالدتها ومدرستها وأصدقاء الطفولة وصور الحياة اليومية في سنوات الثلاثينيات من القرن العشرين وتنزع نحو «اعادة بناء الماضي».
وتستدعي اليس مونرو في مجموعتها الأخيرة «عزيزتي الحياة» وجه أمها التي عانت من فقدان الذاكرة، فيما راوحت علاقتها معها بين حب فطري وشيء من النقد للأم التي تعيش «في زمن غير الزمن وواقع مغاير للواقع».
كانت طفولة أليس مونرو المنحدرة من عائلة تنتمي للشريحة الدنيا في الطبقة الوسطى في زمن الأزمة الاقتصادية والكساد العظيم وها هى تشهد في شيخوختها أزمة اقتصادية عالمية عاتية بفعل الرأسمالية المتوحشة والمنفلتة من الضوابط الأخلاقية والتي بدأت منذ نحو خمسة أعوام في الولايات المتحدة المجاورة لبلدها كندا.
وتتجلى أصداء زمن الكساد العظيم في بعض أعمال اليس مونرو ومن بينها مجموعتها الأخيرة «عزيزتي الحياة» وتشدها أصوات الزمن الماضي لمشهد ذلك الرجل الذي اضطر تحت وطأة الأزمة الاقتصادية العالمية في ثلاثينيات القرن العشرين لبيع مزرعته ومواشيه والعمل في مسبك لصنع المدافيء.
وأليس مونرو التي ولدت في بلدة «وينجهام» بمقاطعة اونتاريو الكندية وهي البلدة التي تظهر مرارا وتكرارا في قصصها كان والدها صاحب مزرعة وتاجر فراء فيما عملت والدتها بالتدريس بينما تزوجت اديبة نوبل 2013 من زميلها جيمس مونرو وهي تدرس في الجامعة وفتحا معا بعد ذلك مكتبة في «فيكتوريا» غير أنها تزوجت للمرة الثانية من زميل جامعي آخر يدعى جيرى فريملين .
لم تكن حياة اليس مونرو ميسرة بالمعنى المادي أو من منظور تغطية متطلباتها الأساسية في أيام الدراسة حتى أنها اضطرت لبيع دمها رغم أنها كانت تدرس الصحافة في الجامعة بمنحة مجانية.
وواقع الحال أن أليس مونرو بدأت رحلتها مع القراءة والكتابة وهي طفلة في العاشرة من عمرها والأكبر بين ثلاثة اخوة كنوع من الهروب من آلام اكتشاف اصابة والدتها بنوع نادر من مرض باركنسون الذي يسبب اضطرابات في النظام الحركي ويعرف «بالشلل الرعاش».
ولئن كان عالم الشريحة الدنيا من الطبقة الوسطى قد مثل معينا لاينضب لابداعات الأديب النوبلي المصري نجيب محفوظ وصاحب «القاهرة 30»، فإن اليس مونرو التي تحصل على أم الجوائز الأدبية العالمية بعد ربع قرن من فوز هرم الرواية المصرية والعربية بها عرفت أيضا في أعمالها القصصية القصيرة باهتمامها بالعلاقات الطبقية.
فأليس مونرو التي ولدت يوم العاشر من يوليو عام 1931 ودرست اللغة الانجليزية والصحافة في جامعة «وسترن اونتاريو» وعملت أثناء دراستها الجامعية في مهن متواضعة كنادلة وسكرتيرة في مكتبة عامة تشير للدلالات الطبقية حتى للألعاب الرياضية مثلما فعلت في مجموعتها الأخيرة «عزيزتي الحياة» حيث حقيبة أدوات لعبة الجولف التي ترمز للطبقة الغنية.
ومن ثم فهي تشعر بدهشة لوجود حقيبة كهذه في بيت أسرتها أثناء الطفولة وهي أسرة تنتمي للشريحة الدنيا للطبقة الوسطى وبعيدة كل البعد عن «اهل الجولف والثراء الفاحش».
وتعد أليس مونرو نموذجا للكتاب المحبين للحياة في الظل بعيدا عن الأضواء والصخب والجدل فيما تتكرر كلمة الظل على نحو لافت في عناوين لأعمالها حيث كانت أول مجموعة قصصية لها بعنوان «اتجاهات الظل» وصدرت عام 1950 ، كما كان عنوان مجموعتها التي صدرت عام 1968 هو «رقصة الظلال الجميلة» تلك المجموعة التي حصلت بها على اول جائزة في كندا والتي تحمل اسم «جائزة الحاكم العام».
وحتى الكثير من شخصياتها في قصصها القصيرة التي تدور حول الحب وخيبة الأمل والفشل ورتابة الحياة اليومية في الريف الكندي تنزع نحو العزلة والتمحور حول الذات وداخلها بصورة لافتة مع تميز في قدرتها على التكثيف كشرط اساسي للقصة القصيرة التي تكاد تحمل عندئذ في ثناياها عمق الرواية الطويلة.
ومع أن اديب نوبل المصري نجيب محفوظ عرف بدوره بابتعاده عن مظان الجدل وعدم حماسه لأضواء النجومية فإن «عزلته الابداعية» كانت مغايرة «للعزلة الابداعية» لأليس مونرو فهو على سبيل المثال يشارك في ندوات أدبية ويكتب في الصحف بانتظام ويشغل مواقع في العمل الوظيفي العام وداخل مؤسسات ثقافية رسمية مثل رئاسته لمؤسسة السينما.
أما اليس مونرو فهي بعيدة إلى حد كبيرعن الحياة العامة التي انخرط فيها نجيب محفوظ دون أن ينزلق لمنافساتها وينشغل بضجيجها المعطل للانجاز الابداعي وكلاهما يتشابه على نحو ما في القدرة على الوصول لجوهر المشهد العام في المجتمع بل والعالم عبر الاشتغال على تفاصيل موغلة في محليتها ليصنع المبدع منها اصالته الفنية كما أن «التواضع» سمة أصيلة في شخصيتي المصري محفوظ والكندية مونرو.
وأغلب القصص القصيرة لأليس مونرو التي يهيمن عليها شعور قوي «بالخجل والعار» مستوحاه من عالمها الصغير في منطقة هورون كاونتي بمقاطعة اونتاريو وهي المقاطعة الأكثر سكانا في كندا وثاني اكبر المقاطعات العشر من حيث المساحة فيما تعد عاصمتها تورنتو بمثابة العاصمة التجارية والاقتصادية للبلاد.
ولعل نجيب محفوظ حصل على الاعتراف العام كمبدع كبير في مجتمعه بل وعلى مستوى الاقليم والعالم قبل سنوات طويلة من فوزه بجائزة نوبل خلافا لواقع السيدة الطيبة أليس مونرو التي حصلت على هذا الاعتراف في وقت متأخر للغاية حتى انها لم تحصل على جائزة بوكر الا منذ اربعة اعوام قبل تتويجها لأم الجوائز الأدبية العالمية وهي اقل شهرة في بلادها من مواطنتها الكاتبة الكبيرة مارجريت اتوود كما انها معروفة على نطاق ضيق للغاية في الولايات المتحدة المجاورة.
ولا وجه للمقارنة بين اهتمام السينما بأعمال نجيب محفوظ ومعالجتها لعرضها على الشاشة الكبيرة وذلك الاهتمام المحدود من جانب الفن السابع بأعمال أليس مونرو والتي لاتصل ابدا سينمائيا لعدد اصابع اليد الواحدة واشهرها على قلتها معالجة لقصتها : «بعيدا عنها» وقامت ببطولة الفيلم الذي عرض في مهرجان تورنتو الدولي عام 2006 جولي كريستي وعبثا ذهبت امال القائمين على صناعته في نيل جائزة من جوائز الاوسكار الأمريكية الشهيرة.
ولئن كان من غير المستحب او حتى الجائز فنيا المقارنة بين مبدعين لكل منهم عالمه فان للنقاد ان يبحثوا عن اجابة لائقة لسؤال حول المقارنة بين فنان القصة القصيرة المصرية الراحل يوسف ادريس الذي بقت مرارة عدم فوزه بجائزة نوبل ظاهرة في اقواله وافعاله والكندية أليس مونرو التي تدثرت في بلدتها الباردة على حافة المدينة بمعطف عملاق القصة القصيرة الروسي انطون تشيخوف.
وثمة سؤال أقل حرجا حول مغزى ماصرحت به أليس مونرو في عام 2006 اثناء توقيع نسخ مجموعتها «المشهد العام من صخرة القلعة» حول اعتزامها التوقف عن كتابة القصة القصيرة. والسؤال هنا: «هل كان هذا التصريح تعبيرا عن يأس من نيل الشهرة الأدبية المستحقة من خلال فن القصة القصيرة مقابل مايحظى به الكتاب الكبار في فن الرواية من شهرة مدوية»؟!.
وفيما سيكون لجائزة نوبل بالتأكيد الفضل في تعرف العالم على ابداعات هذه القاصة الكندية كان بيتر انجلاند السكرتير الدائم للجنة جوئز نوبل قد وصف أليس مونرو التي بدأت مسيرتها الأدبية قبل أكثر من خمسة عقود بأنها «استاذة فن القصة القصيرة المعاصرة»، فيما رأى نقاد أن منح الجائزة هذا العام للكندية مونرو «يعيد الاعتبار لفن القصة القصيرة».
ولاجدال أن فوز أليس مونرو بجائزة نوبل ينعش آمال كتاب القصة القصيرة في كل مكان بين أربعة أركان المعمورة بعد أن كاد بعضهم يستسلم لليأس من طول أعراض الجائزة الأدبية الأكثر أهمية عن فن القصة القصيرة.
وهاهي البريطانية سارا هال صاحبة مجموعة «اللامبالاة الجميلة» والتي فازت بجائزة بي بي سي الدولية في القصة القصيرة وتبلغ قيمتها المادية 15 الف جنيه استرليني في الأسبوع ذاته الذي فازت فيه أليس مونرو بجائزة نوبل تظهر فرحة بنبأ فوز «السيدة الطيبة» بأم الجوائز الأدبية العالمية وكأنها تقول إن مونرو فتحت لها نافذة الأمل بعد طول إغلاق!.
وبعد الاعلان عن تتويجها بنوبل قالت «السيدة الطيبة» للصحفيين: كنت اعرف أن أسمي في قائمة المرشحين غير أنني لم اظن أني سأكون الفائزة معربة عن أملها في أن يؤدي فوزها بجائزة نوبل للأدب لزيادة اهتمام القراء بفن القصة القصيرة.
وصاحبة «حيوات النساء والبنات» الصادرة عام 1971 مهمومة بوضع المرأة في المجتمع المعاصر وهو هم يتجلى حتى في اخر مجموعة قصصية لها وتعمد في أغلب مجموعاتها لبناء حبكة متداخلة بين قصص المجموعة الواحدة وقد تركز على خيط روائي يجمع بين ابطال القصص وتنتمي فنيا «لأسلوب السهل الممتنع».
وأليس مونرو التي تحمل «رقم 13» في المتوجات بجائزة نوبل تناولت في مسيرتها الابداعية الطويلة قضايا انثوية مثل تحديات خريف العمر او سن اليأس للمرأة فضلا عن علاقة الفتاة مع خروجها من مرحلة المراهقة لسن النضج بعائلتها ومجتمعها.
و«السيدة الطيبة» هى أول مواطن كندي يفوز بجائزة نوبل في الأدب مع أن اديبا نوبليا آخر هو سول بيلو ولد في كندا لكنه كان قد حصل على الجنسية الأمريكية في عام 1941 اي قبل 26 عاما من تتويجه «بأم الجوائز الأدبية العالمية»، فهنيئا للسيدة الطيبة وهنيئا لكندا والأمل كل الأمل ان يتوقف قطار نوبل أمام اديب عربي بعد طول غياب!.
التحرير