الأخبار

دستور.. يا أسيادنا

104

 

 

الناس فى قريتنا عرفوا الدستور قبل نشطاء السياسة ووجهاء الإنقاذ والجمعيات الحقوقية والاستهلاكية، فكان صاحبنا لا يدخل بيتاً حتى يخبر أهله بمقدِمه «ويتنحنح» «ويُصفق» بكلتا يديه منادياً بأعلى صوته «دستور يا أسيادنا» حتى لا يخترق دون قصد خدر البيوت وسترها، ويكشف من أسرار الناس، حين يزيد عن حده ويتجاوز فى حريته حرية العباد، فيكشف ستر جاره دون رغبة منه ودون رضا، ويظل صاحبنا منادياً حتى يؤذن له ويسمح لدستوره بالمرور، فيعرف صاحبنا من الأسرار قدراً لا يتجاوز ما يسمح له صاحب البيت أن يتجاوزه، ويرى ويطلع على خبايا البيوت قدر ما يسمح له صاحب البيت أن يراه، وما تركه له دون أن يتخطى غيره.

لم يكن لصاحبنا فلسفة للحرية أو حدودها، لكنه كان يوقفها بإرادته على مسافة تسمح لمتسع بينه وبين الآخرين، فيجذب كل منهما يد الآخر ليقدمه على نفسه، وكأن المسافة بينهما ليست ملكاً لأحدهما أو شراكة فيما بينهما، لكنها تظل حدود الخجل والحياء والرضا أن يتركاها بإرادتهما تكون معبراً يسمح لكل مار وعابر ألا يخدش حياء الآخر، أو يخترق حاجز خجله وصفاء راحته بلا تلصص أو اقتحام. كان لدستور سيدات قريتنا فى غياب الرجل عن البيت قيود على دستور صاحبنا «دستورك معاك يا سيدنا»، هذا الدستور قد (سَيدَ) رجال ونساء قريتنا فهى لا ترده، ولا تفقده هيبته أو وقاره، ولا تشعره أن دستوره قد قوبل بالرفض، ولا تشعره أنه غريب عنها، فالكل أهل وجيرة. فيعرف صاحبنا أن دستوره «مازال معه» وما زال دستورها معها فينصرف ليعود إلى حين مرة أخرى.

لم يكن دستور قريتنا مكتوباً لكنه كان مسموعاً كالدستور الإنجليزى وكان يُفرض على الناس دون نص ودون استفتاء، فلم يفتح صاحبنا شُباكاً فى بيته يجرح جاره إلا بإذن ورضا منه دون ترخيص حكومى، أو يُقيم صاحبنا عُرساً لابنه إذا كان لجاره البعيد عزاء إلا بعد الأربعين والاستئذان، وكان لا يرفع صوت المذياع وقت الظهيرة أو ليلاً والناس نيام، أو مريض يرجو راحته، ويُخفض الرجال أصواتهم أقرب ما يكون إلى الهمس إذا مرت بجوارهم امرأة خشية أن يخدش صوت أحدهم حياءها فيُعاتب من الجميع.

دستور قريتنا علّمنا أن قبول الحل الوسط قد يكون الأفضل والمُنصف لكل الأطراف، فكان التاجر إذا باع صباحاً، اعتذر للزبون عن عدم وجود مراده وهو لديه، ويرسل إلى التاجر المجاور له حتى يبيع ويسعد ويرتاح خاطره ويطمئن على قوت أولاده فى يومه كما طمأن جاره بالأمس. دستور قريتنا علّمنا أن الرحمة تسبق الحق، والرضا يسبق العدل، والفضل يسبقهما معاً. دستور قريتنا علّمنا أن المعوج لا تُعدل قامته، والمائل لا يستقيم أمره، والقلوب المريضة لا تُشفى، والأبواب الموصدة لا تُفتح، والقلوب الغليظة لا تلين، والأيادى المرتعشة لا تشتد، والبطون الخاوية لا تُملأ، والنفوس الخائفة لا تأمن إلا بالعدل. دستورنا الآن لن يُبنى إلا بسواعد أبنائه، ورضا أطرافه، وقبول فصائل المجتمع بنقائصه والتسامح لمن غَلَبَ فيهم وانتصر فى واحدة والرضا لمن غُلِبَ فيه وهُزم فى أخرى، فالكل يستدفئ بجزء من غطاء، ويشبع بجزء مما أكله صاحبه، ويشرب ويرتوى بما يشربه صاحبه، حتى نُزيد رقعة الغطاء فنستدفئ جميعاً، ونُزيد لقمة العيش فنشبع ونُشبِع غيرنا.

اسمعوا.. هذا دستورنا ولُقمتنا وغطاؤنا وكساؤنا وطريق يضيق ليسعنا جميعاً، تلتصق الأكتاف والأجساد ويرفع الواحد منا قدماً ليريح قدم جاره، ونأخذ أطفالنا على أكتافنا من زحمة الطريق، ونمد أيدينا لنسند منا من وقع، ونلملم بعضنا بعضاً، ونزيح من أمامنا عوائق وموانع الطريق ونعاود الركوب ونمضى فى طريقنا حتى يفرجها الله علينا بما هو أوسع وأكبر وأشمل.

فنعم وألف نعم لدستور قريتنا ودستورنا الجديد ونتوكل على الله.

 

الوطن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى