الأخبار

استراحة محارب قبل العودة لأرض المعركة

85

شريط ضيق، يتفرع من شريانين فى المنتصف، يظهر كحارة صغيرة فى شارع محمود بسيونى المتفرع من ميدان التحرير، لا يتعدى المتر الواحد، يقع فى المدخل كشك خشبى يُضيق من مدخله فيكفى بالكاد لعبور شخصين اثنين، يضيق أكثر فأكثر مع ظهور مقاعد المقهى التى تتوسط الممر، ينتهى محيط المقهى ومعه ينفتح الشريانان.. أحدهما يصل إلى شارع قصر النيل، وتحده جدران مسرح قصر النيل، والطرف الآخر يحده أحد البنوك، وينتهى لشارع شامبليون.

من اسم المقهى جاء اسم الممر «أفتر إيت»، هو الأشهر بين الثوار وأهالى المنطقة، رغم صغر حجم الشارع وضيقه الشديد، لكنه كان يزدحم بالمتظاهرين أثناء الثورة، إذ كان مقهاه هو الوحيد الذى يفتح أبوابه للمتظاهرين طيلة الـ18 يوماً حتى سقوط مبارك، فى ظل خوف بقية مقاهى وسط البلد من الأحداث والاشتباكات الدائرة، وكان المتظاهرون يعتبرونه «استراحة محارب»، فيأتون ببطاطينهم للمبيت أو دخول المرحاض.

بعيداً عن الشارع يجلس «رجب مهران»، «قهوجى»، يضع سماعة فى أذنه، ربما يتذكر وقت أن كان المقهى يزدحم بالمتظاهرين، ويقول، لـ«الوطن»، بكل زهو: «قهوتنا هى القهوة الوحيدة اللى كانت فاتحة طول الـ18 يوم».

يقول «مهران» إن الممر كان يصعب على الأمن دخوله، خلال الاشتباكات، وكثيراً ما كان يستخدم لعلاج المصابين، فرغم قربه الشديد من ميدان التحرير، ولا يفصله عنه سوى عشرات الأمتار، فإن ضيقه ساعد على صعوبة اقتحامه، فيصفه بـ«المتاهة»، فالممر صعب على الغريب استكماله، فلا يعرف أحد مخارجه بشكل دقيق سوى أهل المنطقة والمتظاهرين المتوافدين بكثرة.

أكثر ما كان يؤلم «مهران» هو حين يشاهد صور أحد المتظاهرين المترددين على المقهى على التلفاز ضمن الشهداء الذين سقطوا فى الاشتباكات: «أبقى واقف مع الواحد وبعدها بكام ساعة تطلع صورته على الشاشة شهيد»، لا يتذكر عدد المرات التى تكرر فيها هذا الموقف، سواء على الشاشة أو والشهيد يلفظ أنفاسه الأخيرة على أحد مقاعد المقهى.

بعيداً عن «أفتر إيت» وفى أحد المقاهى الجديدة التى انتشرت فى منطقة وسط البلد، خلال السنوات الأربع المنقضية، يجلس أحمد عادل، يحتسى كوباً من الشاى، بشعره الكثيف المتدلى على ظهره، ونظارته الطبية الصغيرة، وقصر قامته، هو أحد أعضاء الحركات.. يقول إنه يحمل كماً كبيراً من الذكريات عن الممر، حيث كان يقضى ليالى الثورة هناك: «الواحد يطلب واحد شاى ويفضل قاعد فى القهوة على حسه لحد تانى يوم الصبح»، ويعود للميدان بعدما استراح بعيداً عن الغاز والخرطوش والزحام: «كنت تيجى تدخل الممر تلاقى كل واحد واخد له كرسى ولافف نفسه بالبطانية فى عز البرد ونايم».

بحنين لتلك الأيام وبمشاعر متخبطة بعد أربع سنوات يقول «عادل» إن مداخل عمارات ممر «أفتر إيت» كانت «لوكاندة» للمتظاهرين من الأرياف: «والناس جاية من بيوتها وشايلة البطاطين على كتافها وتبيت فى مدخل العمارات هناك»، وحين تصحو المجموعة تقوم بتنظيف المدخل قبل المغادرة لميدان التحرير.

يعدل «عادل» من وضعه، يجذبه الحديث عن الممر للتوجه للجلوس هناك، يسلم على أهالى المنطقة الذين يعرفونه جيداً وعلى صاحب المقهى والعمال، ويقول إن المقهى لم يكن وحده ملجأ للثوار للمبيت، ولكن حتى شقق أهالى الممر، الذين فتحوها للثائرات لدخول المرحاض والمبيت: «رجالة الممر كانوا بينزلوا يباتوا معانا فى الشارع عشان الستات تطلع تبات مع زوجاتهم فى الشقق»، فى مشهد يظهر التلاحم بين أهالى الممر والثوار.

وليست الشقق وحدها، فكان أصحاب المحال فى الممر يفتحون أبوابها دون مقابل للثوار، حسب رواية «عادل»: «الناس كانت بتنام على أرفف المحلات»، فى ظل وجود أصحابها بجانب الثوار: «الناس خلال الـ18 يوم كانت مقتنعة بالثورة ومكانش حد مختلف مع التانى، وهى دى اللِحمة إلى فقدناها بعد سقوط مبارك».

ويقول «عادل» إن أصحاب المقهى الذى يتوسط الممر من «بولاق» وكانوا على قناعة بأن الثوار على حق: «ما حدش كان بيسلم متظاهر زى ما كان بيحصل فى بعض القهاوى»، وكان الأمن يتخفى بين الزبائن للقبض على المتظاهرين، ولكن كان يتصدى له صاحب المقهى رافضاً تسليم المتظاهر بكل سهولة: «كان صاحب القهوة بيعتبرنا بنتحامى فيه».. ويقول بامتعاض: «كانت بتيجى على صاحب القهوة بالمصايب.. بعدها الأمن اقتحم القهوة ودمر كل محتوياتها أكتر من مرة».

 

الوطن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى